أحلام مُستغانمي في روايتها الجديدة 'الأسود يليق بكِ'

أحلام مستغانمي

15 مايو 2013

يعيش المثقف العربي اليوم في عزلته البعيدة، وسط كتبه وقلّة قليلة من الأصدقاء الذين يُشبهونه. فالثقافة مسألة تخصّ النخبة وحدها.
إلاّ أنّ هذه القطيعة بين المثقف والقاعدة الجماهيرية، التي لا ندري إن كان سببها المثقف نفسه أم الناس العاديين، أوجدت هوّة عميقة قد تُهدّد بابتلاع الطرفين.
لكنّ الحقيقة هذه في واقع العلاقة بين «القارئ» و«المثقف»، نجح في أن يخترقها عدد قليل من الشعراء والكتّاب الذين أمكنهم أن يُخرجوا أدبهم من إطاره الضيّق نحو أفق أرحب وصل إلى قلوب الناس العاديين.
وتأتي الكاتبة الجزائرية أحلام مُستغانمي في طليعة هؤلاء، إذ تمكنت، بعد الرواية الأولى ضمن ثلاثيتها «ذاكرة الجسد»، أن تُصبح الكاتبة- النجمة التي يُحبّها القارئ العادي والقارئ المتنوّر، وباتا ينتظران أعمالها بحب وشغف.
لا يُمكن تفسير ظاهرة أحلام مُستغانمي التي بات قراؤها أو بالأحرى «جمهورها» يساوون، وأحياناً يفوقون، عدداً جماهير نجوم الفنّ والسياسة.
وما حصل معها بُعيد إصدار روايتها الأخيرة «الأسود يليق بك» والتي باعت آلاف النسخ- بعد أيام قليلة على صدورها وحققت حفلات توقيعها النسبة الأعلى من المشاركة في كلّ المعارض التي شاركت فيها، يدفعنا إلى القول إنّ أحلام مستغانمي هي حالة إستثنائية، وظاهرة «أدبية» من نوع خاص.


في روايتها الأخيرة «الأسود يليق بك» (دار نوفل- هاشيت، أنطوان)، تكتب أحلام مستغانمي بمزاجها الروائي الذي وسم ثلاثيتها الأولى «ذاكرة الجسد»، «فوضى الحواس»، «عابر سرير».
وهو المزاج الذي يجمع بين الروح الشعرية والمباشرة النثرية ضمن حبكة تمزج فيها تيمة المرأة ونضالها بمأساة الجزائر وسطوة المال وسلطة الذكورة.
فتبتعد روايتها هذه عن أجواء كتابها السابق «نسيان» إلاّ في عنوانها العريض، بمعنى أنّ أحلام مستغانمي قدّمت في «نسيان» دعوة صريحة للمرأة من أجل نسيان الرجل الذي لا يستحق حبّها، بينما تدعوها في روايتها الجديدة إلى أن تُحبّ نفسها وحياتها أكثر من أيّ شيء آخر، ومن أيّ رجل يحاول أن يمتلكها.

تبدأ الرواية من المحطة الأخيرة في علاقة حبيبين جمعهما القدر بعد هروب البطلة هالة من الجزائر، مرتديةً الأسود على إثر مقتل والدها الفنان الأوراسي على يدّ الإرهابيين.

«كبيانو أنيق مُغلق على موسيقاه، مُنغلق هو على سرّه»، بهذه تستهلّ مُستغانمي روايتها (345 صفحة)، لترصد تكتّم رجل عن حقيقة انسحاب امرأة من حياته.
وكأنّ الكاتبة أرادت عبر هذا التشبيه تصوير العوالم النفسية الداخلية للرجل الشرقي «الذي لا يُهزم». فذكوريته المتضخمة بفعل ثرواته المتراكمة تمنعه من أن يتقبّل فكرة خسارته أمام امرأة فضلّت نجاحها عليه وعلى هداياه الثمينة.

أمّا البطلة، ورغم خسارة حبيبها، فتعتقد أنها ربحت نفسها، فتقول: «وهل أكثر فقراً من ثري فاقد الحبّ؟ وأثرى النساء، ليست التي تنام متوسّدة ممتلكاتها، بل من تتوسّد ذكرياتها».
أمّا هو، فيحاول إقناع نفسه بالعكس حتى يتخفف من ثقل الهزيمة.

«الأسود يليق بكِ» هي العبارة التي يقولها الرجل الثري- طلال- لحبيبته هالة.
وقد اختارتها الكاتبة عنواناً لروايتها كمحاكاة تهكميّة ساخرة من عقلية الرجل العربي الذي لا يتحمّل أن يرى «امرأته»، حبيبة كانت أم زوجة، تحت دائرة الضوء، فيحاول أن يركنها في الظلّ، حتى يبقى وحده الحاضر الأقوى في محيطه.

يُمثّل اللون الأسود في رواية مستغانمي ما يُمثلّه في رواية «الطفل» للفرنسي جان فاييس، إذ يجد الطفل- البطل نفسه مضطراً لأن يرتدي اللون الأسود بأمر من والدته المتسلّطة التي لا تنفك تقول له: «لا لون يُعطي قيمته لمن يرتديه كما الأسود»، حتى شكّل هذا اللون عقدة في حياة الطفل، وأضحى الأسود لا يعني له أكثر من مجموعة الأوامر والفروض والأعراف والقوانين الملتزم بها.

طلال هو أيضاً لا يُريد لحبيبته أن تخلع الأسود، وإنما يرغب في أن يراها مُلتحفة بلون الظلام والحداد، لا كرهاً فيها وإنما غيرة من نجاحها.

الرجل الثري يُحاول «شراء» رضا هالة، فيعمل على إغرائها بالمال والمجوهرات بغية منعها من الغناء، أو بمعنى آخر من الحياة.
إلاّ أنّ الفتاة العشرينية التي ورثت حبّ الفنّ من أبيها ترفض عرض حبيبها، وتختار أن ترتدي ألوان الحياة وأن تتنفّس هواء الحريّة وأن تُغنّي وتُسمع صوتها للعالم.

بين العشق والطموح، بين الإستقرار والفنّ، بين حبّ الآخر وحب نفسها، تقع هالة الوافي صريعة الخوف والقلق.
لكنّها سرعان ما تختار ذاتها، متمرّدة على حبّ سيجعلها أسيرة رغبات رجل كلّ هواجسه أن يتملّك، بماله كما بذكوريته، روح امرأة حرّة.

الفنانة المُسالمة لم تنسقْ بوداعة تامة نحو رغبات الرجل الذي أحبّته، وإنما تمرّدت غير آبهة بخسارة فرصتها من الزواج به. بل إنها تهاجم مصطلح العنوسة الذي يزرع في عقول النساء الخوف والانقياد، فتقول: «بإمكان فتاة أن تتزوّج وتُنجب وتبقى رغم ذلك في أعماقها عانساً، وردة تتساقط أوراقها في بيت الزوجية».
وهي ناضلت أيضاً ضدّ المجرمين الذين قتلوا والدها برصاصتين أصابتا رأسه وعوده. ولم تتمرّد عليهم بلغتهم وعنفهم، وإنما حملت الفنّ سلاحاً شهرته في وجههم.

«الأسود يليق بكِ» رواية لا تدعو إلى الفراق بين الأحبّة، وإنما تدعوهم إلى أن يزيدهم العشق حبّاً بأنفسهم وبالآخر الذي لا يُمكن أن يُبقي الحبّ في قلبه بينما يرى نفسه تذوي وروحه تضيق.