مراكش المدينة الحافظة لعهد التاريخ

مراكش, المغرب, تراث

16 أكتوبر 2013

ما رأيك في تمضية ثلاثة أيام في المغرب؟ هكذا سألتني زميلتي رولا. لمَ لا، هكذا أجبت من دون تفكير. فكثيرًا ما كتبت عن هذه البلاد وتحديدًا عن المدينتين اللتين سأمضي فيهما الأيام الثلاثة، مراكش والدار البيضاء. فهل يعقل أن أقول لا!
حملت حقيبتي الصغيرة وحلّقت في الفضاء بين بيروت وكازابلانكا.
كانت الست ساعات مسافة التحليق الزمنية كافية لأتوقع تفاصيل مراكش وكازابلانكا اللتين أزورهما للمرة الأولى، لا سيّما مراكش التي قال فيها ابن خلكان صاحب «وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان»: مراكش مدينة عظيمة... فسيحة الأرجاء، صحيحة الهواء، بسيطة الساحة ومستطيلة المساحة، كثيرة المساجد، عظيمة المشاهد، جمعت بين عذوبة الماء، واعتدال الهواء، وطيب التربة، وحسن الثمرة، وسعة الحرث، وعظيم بركته».

وصلت وبقية فريق الصحافي إلى مطار كازابلانكا وكانت العاشرة بتوقيت بيروت، السابعة بتوقيت المغرب.
دهمنا الوقت ونحن في المطار واستغرق العبور أكثر من ساعة فقد كان عددنا 24 صحافيًا، وهكذا حل المساء ولم يتكشف لي شيء من كازابلانكا، وبقيت تفاصيلها الواقعية غامضة، رغم محاولاتي الدؤوبة لكشف بعضها في غمرة الليل. ركبنا الحافلة وتوجهنا مباشرة إلى مراكش.

كان عزيز المرشد السياحي يحاول أن يتآمر على الوقت ويتحدث إلينا عن تاريخ بربر المغرب الأمازيغيين، وربما كان صمتنا وعدم طرح الأسئلة جعلاه يستفيض ويسترسل، ليقتل المسافتين الجغرافية والزمنية بين المدينتين. وبعد ثلاث ساعات وصلنا إلى مراكش، التي لم يظهر لي منها سوى شذر من ملامحها المنفلتة من عتمة الليل.

وصلنا إلى فندق «كنزي فرح» والتعب كان يدفعني إلى النوم، فالتوقيت المحلي لمراكش الثانية عشرة منتصف الليل بينما توقيت ساعتي البيروتية المتحكمة في ساعتي البيولوجية كان الثالثة صباحًا، مما جعلني أغط في نوم عميق أيقظني منه صوت (Galope) بخترة حصان، فاسرعت إلى شرفة الغرفة وإذ بحنظور يقل ركّابًا.

بعدما تناولت وزملاء الرحلة الفطور انطلقنا نحو اكتشاف مراكش المدينة العتيقة حيث بدأت كل الحكايات والروايات عن مدينة تاريخها لا يزال يلعب أدواره بفخر على مسرح الحاضر.
اللافت في مراكش أفواج السياح الأوروبيين، فأثناء انتظاري في الحافلة دُهشت لحشد من السياح أتوا ضمن مجموعة واحدة فاق عددهم المئة، وأنا التي كانت تظن أن عددنا كبير.
انطلقت الحافلة وراحت تدور في شوارع المدينة المتميزّة بهندسة معمارية عصرية متناغمة مع معالم المدينة التاريخية.
هنا الأبنية لا تتجاوز الخمس طبقات، والسبب على ذمة عزيز المرشد السياحي أنه لا يسمح بتشييد أبنية يفوق ارتفاعها منارة جامع الكتيبة.
سواء كانت رواية عزيز صحيحة أو لا فإنه من المؤكد هذا القرار جعل المدينة ذات سحر خاص، وكأنها منبسطة في حضن جبال أطلس المحيطة بها، فأينما رنوت بناظريّ تبدو لي هذه الجبال تراقبني كما تراقب كل ما يدور في المدينة.


مراكش في يوم واحد

حدائق المنارة بساتين زيتون يتفيّأ ظلّها سكان مراكش يوم العطلة الأسبوعية
توقفت الحافلة عند حدائق المنارة، التي تعود إلى القرن الثاني عشر شيّدها السلطان عبد المومن الكومي الموحدّي، وهي عبارة عن مساحات واسعة من بساتين الزيتون.
صادفت زيارتنا يوم الأحد وهو يوم العطلة الأسبوعية، لذا كانت تغص الحدائق بالعائلات والباعة المتجولين الذين يؤرجحون بأيديهم عباءات مغربية محاولين إغراءنا بالشراء.
هنا المساومة على السعر هي سيدة لعبة التسوّق في مراكش. وسط الحدائق بركة أو خزان المنارة الكبير والمملوء بالماء عمقه متران ومحيطه 510 أمتار، يصل إليه الماء عبر قنوات من جبال الأطلس المتوسط.
استعمل الحوض خلال عهد الموحدّين لتدريب الجيش على السباحة وسبل الدفاع عن السواحل المغربية من اي أعتداء. ويقف قرب الحوض مبنى مؤلف من طبقتين شيّد في القرن التاسع عشر.

المدينة العتيقة وأضرحة السعديين
 ركبنا الحافلة متوجهين نحو «مراكش المدينة العتيقة» التي لا تزال قائمة ببواباتها وأسوارها، ولونها الآجري حافظة عهد التاريخ، واثقة بما تحضنه من تراث يدهش من يدخل بواطنها ويكتشف كنوزها. عبرنا البوابة الكبيرة للمدينة العتيقة وعلى طول الزقاق وكما توقعت حوانيت صغيرة متراصة تعرض ما يأخذ الأنف نحو متاهة من العطور بعضها الحرّيف وبعضها ناعم، وتدلت من الأسقف العباءات المتراقصة مع نسائم الربيع.
ولجنا أروقة صغيرة لنخرج نحو بهو كبير حيث أضرحة السعديين في حي القصبة والتي تعود إلى نهاية القرن 16 وبداية القرن 17، بدأت الأعمال فيها بتشييد قبة دفن فيها أفراد العائلة الملكية السعدية.

قصر «باهية» وقصة زوج عاشق أهدى زوجته قصرًا تحسدها عليه نساء الماضي والحاضر
بعد جولة مقابر السعديين ركبنا الحافلة متوجّهين نحو قصر «الباهية» وسط المدينة العتيقة التابعة لبلدية مراكش المدينة.
وبحسب عزيز مرشدنا السياحي فإن «قصر الباهية» مرتبط باسم زوجة الحاجب، الذي توفي عام 1900، والذي اشتهر بلقب «باحماد»، بنى «قصر الباهية» حتى يكون دليل مودة وحب لزوجته، ليعكس القصر سيمفونية امتزجت فيها حكايات العشق بالهندسة، كما توحّدت عبرها المشاعر بالزخارف فأعطت صورة مميزة عن عمق الحضارة المغربية في بداية القرن العشرين.
ونظرًا إلى علاقة القصر بالسيدة التي أخذ اسمها، يرى البعض في «الباهية» مثالا جميلا للأنوثة المغربية، وتأكيدا لافتا لمدى تأثير الحب على المعمار المراكشي، وتراوحه، في بعض الأحيان، بين ثنائية العشق والسلطة.
بالفعل كل جناح في هذا القصر يشير إلى جمال الهندسة المعمارية، فالأسقف المنقوشة بالمنمنمات والأعمدة الرخامية والأبواب والباحة الداخلية بنافورتها، كل هذا يجعل سيدات عصرنا يشعرن بالغيرة من سيدة القصر.

ساحة جمعة الفنا والتيه في أسواق الماضي
بعد جولة القصر توجهنا نحو ساحة جمعة الفنا الأكثر شهرة في مراكش والتي تختصر بمتاهة أسواقها عالم المغرب الفريد.
الساحة كما توقّعتها كبيرة جدًا مزنّرة بمداخل السوق، وعلى الطريق إليها يقف طابور الحناطير بعرباتها المزركشة ينادي أصحابها على المارة لجولة في المدينة الحديثة.

ساحة جمعة الفنا مدخل إلى كواليس تاريخ مراكش
بعد هذا الغداء اللذيذ إنطلقنا إلى ساحة جمعة الفنا. أحيانًا تفاجئ حقيقة الأمكنة مخيّلتك، فتكون أكثر مما توقّعته.
لاعب الخفة الذي يطلب منك منديلاً تحمله ليحوّله إلى سوار ليس وهمًا، وساحر الأفاعي وهو يخرج أفعى خطيرة من قمقمها تتمايل بخضوع لصاحبها ليس ضربًا من الخيال، ومروّض السعادين وهو يفاخر باستعراضها البهلواني موجود بالفعل.


الأسواق متاهة من الألوان والعطور والمساومة سيّدة التسوّق

أكملت جولتي في متاهة من الأسواق عبر شوارع ضيّقة في عالم ساحر يبدو متشبثًا بماضي الحواضر العربية بكل بتفاصيلها، لأجد نفسي بين بسطات فُرشت عليها خزفيات من السيراميك ينبعث منها بريق يخدع النظر، فلم أعرف أشكالها إلا حين اقتربت منها، لأكتشف إبداع حرفي موهوب تفنن في رسم أشكال معقّدة، والعباءات تتدلى تلامس رأسي من الدكك الصغيرة وتتراقص بخفة في الهواء، أما البابوج المغربي فهو المنافس للعباءات إذ لا يكتمل التسوّق إلا به.
أما السجاد المغربي المعلّق على الجدران أو الحبال أو الأبواب، فذكرني ببساط الريح يطير بخفة حين يركبه «علاء الدين وياسمينا».

صديقات الرحلة أُخذن بهذه المتاهة المغربية ورحن يتسوّقن وقد استمتعن بالمساومة على الأسعار التي قد يصل خفضها إلى 70 %  . لفتتني في هذا السوق النظافة التي يتمتع بها رغم حشود الناس التي تزوره يوميًا سواء من سكان المدينة أو السياح.
أما سوق العطارة حيث يؤخذ الأنف برائحة البهارات والأعشاب التي تفوح فيه، فبحثت عن الطريقة التي يدخل صاحب الحانوت إليه، فهو يقف وسط عالم البهارات والأعشاب ويبيع بخفة وينصح الزبائن ويصف لهم أنواع الأعشاب والبهارات وطرق استعمالها، وأخيرًا اكتشفت الباب، كان تحت صف البهارات وهو باب صغير يركع العطار ليدخل إلى حانوته ويقف وسطه.

كل زاوية وركن في السوق يمكن القول إنهما تحفة معمارية، الأقواس والأعمدة وواجهات الحوانيت وأسقفها والجوامع الصغيرة الموجودة في السوق كلها لا تزال تحتفظ بزركشاتها وزخارفها القديمة، فالحداثة هنا تحافظ على التاريخ.

إذا ما ذهبت إلى مراكش لا تفوّت ركوب الحنطور...
خرجنا من السوق واستوقفنا سائس حنطور يقف عند الساحة ، فقالت لارا ما رأيكن بجولة على الحنطور وهنا أيضًا ساومنا على السعر فقد طلب منا 200 درهم مغربي، ولكنا اشترطنا عليه 100 لننهي المساومة على 150درهمًا.
جال بنا الحنطور في شوارع مراكش الحديثة، المتميّزة بأناقتها من حيث الهندسة المعمارية للأبينة التي تحتفظ بالأسلوب المغربي في العمارة والطاغي عليه اللون الأحمر الآجري، واللافت غلبة رائحة الياسمين، هذه الزهرة التي يبدو أن معظم سكان مراكش يزرعونها في حدائقهم.
هكذا هي مراكش، مدينة لم تضع التاريخ في كواليسها بل جعلته منقوشًا في شوارعها وأسواقها وساحاتها وأزقتها، تساعدك في الفرار من صخب الحياة العصرية، لتستريح في عالم يفور بسحر الماضي المكتوب في متن الحاضر وليس في حواشيه. انتهت جولة الحنطور ومعها انتهت زيارتنا إلى مراكش، عائدين إلى كازابلانكا العاصمة الإقتصادية للمغرب.
فما عساها تكون هذه المدينة الساحلية التي لم أعرفها من قبل؟  فهل ستفاجئني كما فعلت مراكش؟

الطاجن سيد الأطباق المغربية
قبل الغرق في متاهة سوق الفنا، تناولنا الغداء في مطعم «البركة» الموجود عند أحد أطراف الساحة. كل شيء في هذا المطعم يشي بالذوق المغربي والفن الأندلسي، الباحة المزنّرة بأجنحة المطعم الداخلية والجدارن المزخرفة والنافورة التي تتوسط الباحة والأزهار وعطر الياسمين الذي يعبق به المكان.
وما هي إلا دقائق حتى انهالت على شهيتنا أطباق المازة المغربية التي لا تخلو من الطعم الحرّيف: طبق الباذنجان والعدس واللوبياء.
ويكسر الطعم الحرّيف طبق الجزر الحلو الطعم. أما الطبق الرئيسي فكان الطاجين المغربي سيّد الأطباق. بعد هذه الوجبة الدسمة كان لا بد أن نسرّع وظيفة الهضم بكوب شاي بالنعناع الذي يشتهر به المغرب.