كازابلانكا مدينة لا تخشى رياح الحداثة

كازابلانكا, المغرب, المغرب العربي

22 مايو 2013

يبدو أن المغرب أراد إدخالي في متاهة سحره فلا أتعرّف إلى مدنه إلا مع الصباح... تركنا مراكش آخر النهار عندما بدأت الشمس بالغروب خلف جبال أطلس الخضراء، تسابق الحافلة المسرعة نحو كازابلانكا أي الدار البيضاء.
الثلاث ساعات التي توقعناها زادت نحو الساعة يوم الأحد التي تشهدها مداخل كازابلانكا بسبب زحمة سير.

أخيرًا وصلنا إلى كازابلانكا، بالفعل إنها الدار البيضاء فكل الأبنية لاحت لي بيضاء رغم عتمة المساء. المشهد هنا مختلف رغم أن التنظيم المدني والشوارع على النمط نفسه لمراكش، غير أن الأبنية العصرية الشاهقة الإرتفاع هي الطاغية على النمط المعماري للمدينة.

جامع الملك حسن الثاني تحفة معمارية لا تهاب رياح المحيط الأطلسي
كثر منا يسمعون عن جامع الملك حسن الثاني في كازابلانكا، الذي يعتبر تحفة فنية شُيّدت فوق الماء عام 1986 ليكون ثاني أكبر جامع في العالم.
وقد يشكّ الواحد منا في صدق الوصف الذي يقرأه أو الصور التي يراها، ويظن أنه مبالغ فيهما، ولكن عندما يقف في باحة الجامع الخارجية يرى أن كل ما كتب وصوّر ليس سوى جزء بسيط من كبر حجم هذا الجامع وروعة هندسته المعمارية المتماهية مع المحيط الأطلسي الذي يقف عند ساحله.
فعندما وصلت إلى عتبة الباحة الخارجية للجامع شعرت بشيء من الرهبة فكل ركن في هذا الجامع عملاق، البوابات والقناطر والأعمدة الرخامية والينابيع المغلّفة بالفسيفساء تحف فنية مترامية الأطراف لا تأبه لموج الأطلسي الذي يتكسّر عند سوره القليل الإرتفاع.
أمّا منارته التي يبلغ ارتفاعها 210 أمتار، ففيها الكثير من الروعة الهندسية الفريدة، وقد شُيدت على النمط الأندلسي يغلّفها الرخام، وتجمع بين عراقة التقاليد والحداثة، إذ ينبعث منها ضوء أشعة الليزر الذي يبلغ مداه 30 كيلومتراً موجّها نحو الكعبة الشريفة، ليرشد المصلين إلى القبلة.
وتعتبر قاعة الصلاة الجزء الأكثر إبهاراً بهندستها المعمارية التقليدية، فهي مجهزة لتستقبل 25000 مصلٍ. وقد بنيت على شكل مستطيل وتبلغ مساحتها 20000 متر مربع.

كورنيش عين دياب البحري والمنحوتات التي حوّلته متحفًا في الهواء الطلق
أخذتنا الحافلة إلى كورنيش عين دياب البحري الذي تحوّل إلى متحف في الهواء بعدما وضع أحد النحاتين المغاربة منحوتات من البرونز مختلفة الأشكال والأحجام على طوله مما جعل التنزه على رصيفه متعة تتوسط جمال الأطلسي بمياهه الفيروزية التي تذوب عند الشاطئ وخضرة هضبة أنفا المواجهة التي اندست فيها فيلات جميلة جاءت هندستها على النمط الإسباني والبرتغالي.
يعتبر الكورنيش مرتع سكان الدار البيضاء يلجأون إليه للتمتع بنسائم المحيط الصيفية. إذ تمتد على طوله الشواطئ ومقاهي الرصيف والفنادق والملاهي الليلية.
مما يجعل الحركة فيه لا تهدأ على مدار الساعة. يبدأ الكورنيش من المنارة، وتعرف بالهانك، وينتهي عند شاطئ عين دياب الرملي. وفي مقابل الكورنيش يستريح ضريح سيدي عبد الرحمن على صخرة بحرية ويزوره المؤمنون عندما يكون ارتفاع الموج منخفضًا.

من هضبة أنفا إلى حي حابوس إنتقال بين العالمين الأوروبي والمغربي
دارت بنا الحافلة في شوارع هضبة أنفا حيث تندس الفيللات الجميلة ذات النمط البرتغالي في الهندسة عاكسةً ترف سكان هذه الهضبة.
فيما الشوارع العريضة تحضن المباني العصرية تنافسها مبانٍ قديمة تستعرض روعة الفن المغربي، وتساندها في استعراضها ساحات عامة تتوسطها الينابيع ذات النمط الأندلسي المزخرف بالفسيفساء الزرقاء.
إلى أن وصلنا إلى جنوب الدار البيضاء حيث يقع حي حابوس الذي يعود تاريخ إنشائه إلى عام 1923 وكان يعرف بالمدينة الجديدة خلف القصر الملكي.
لم يكن الهدف من بنائه الفصل بين الأحياء المغربية والأوروبية، وإنما بناء مدينة حديثة على الطراز المغربي التقليدي الذي يتميّز ببوابته ومساجده وشوارعه الصغيرة.
وقد صمم بناء هذا الحي المهندس الفرنسي ميشال إيكوشار الذي ساهم أيضاً في التخطيط المُدني لمدينتي بيروت ودمشق. وعلى طول شوارع الحي وحول الساحات تصطف القناطر حيث توجد البازارات التي تعرض الأعمال الفخارية والنحاسية والملابس التقليدية، إضافة إلى المكتبات.
كما يضم الحي “المحكمة”، وهو معلم أثري يتميّز بالقباب المزخرفة بالفسيفساء الأخضر وقد شيّد على نمط الهندسة المعمارية المغربية. ويقع في مقابل المحكمة مسجد محمد الخامس الذي تحيطه حديقة غنّاء تعكس شغف المغاربة بالطبيعة.

بازار سوق القصبة والمدينة العتيقة ولوج في روح المغرب الجميل
ترجلنا عند إحدى بوابات المدينة العتيقة القائمة التي تحضنها كازابلانكا العصرية. نموذج مثالي لمن يريد خوض تجربة الولوج في عالم المدينة العتيق بسحره وألوانه.
دخلت إليها مع زميلي عبر إحدى البوابات فكان العبور عبر زقاق ظننت للوهلة الأولى أنه بوتيك خاص يعرض أعمالاً فنية، فلاحظ البائع أنني مترددة بعض الشيء وبادر بالقول “أكملي الطريق”! مؤكدًا أنه الرواق المؤدي إلى وسط السوق.
جرّني الرواق الذي علّقت على جدرانه أشغال يدوية وسجاد ولوحات وأنتيكات نحو باحة السوق المفتوحة على الهواء.
مشهد سوق “جمعة الفنا” يتكرر والفارق أنه مفتوح على الهواء، العباءات والسجّاد والشالات المعلّقة أولى الخطوات نحو السحر المغربي حيث تستقبلك حوانيت وبسطات متلاصقة فرشت عليها أجمل الأعمال الحرفية، تنافسها روائح البهارت الحرّيفة التي يشتهر بها المغرب وتتراقص فوقها العباءات المغربية، مما يُشعر المتجوّل بأنه وسط كرنفال تتيه فيه الحواس.
رغم الطابع العصري الذي يغلب على كازابلانكا خارج أسوار المدينة العتقية، فإن هذا السوق يحتفظ بهندسته المعمارية القديمة متشبثًا بتفاصيلها يحرّكه بنشاط، تجاره وبيوته المأهولة بالكازابلانيين المتمسكين بعاداتهم وتقاليدهم، هنا تجد سيدّة بالقفطان المغربي تنادي ابنتها لتساعدها في حمل مشترياتها، وهنا تجد مجموعة نساء متوجهات لأداء الصلاة في المسجد في قسم الخاص بالنساء، وعلى جدار قديم منقوش كأنه تحفة اجتاحه العصر وعلق في وسطه هاتفًا عموميًا.

إذا جلست في مقهى لا تنسى شرب الشاي بالنعناع على الطريقة المغربية
مررنا قرب مقهى يزدحم بالروّاد يراقبون الشاشة عن كثب لعبة كرة قدم فتنبّهت إلى أن معظم الباعة في السوق لا سيما أصحاب الدكاكين، غير مكترثين للمارة المشترين المحتملين.
قررنا أنا وزميلي خوض مغامرة اقتباس دورهم وجلسنا في أحد المقاهي وطلبنا شايًا بالنعناع المغربي. كان الإبريق الصغير أشبه بتحفة من الفضة ومزخرف باتقان.
وهناك طريقة لصب الشاي عليك أن ترفع الإبريق في مواجهة الكوب وترفعه وتنزله أثناء صب الشاي ونجحت في التحدي ولم أصب الشاي خارج الكوب.
تركنا السوق وقررنا العودة إلى الفندق سيرًا على الأقدام، على طول الطريق خارج أسوار المدينة العتيقة فرشت البسطات التي تبيع كل شيء واللافت مزاحمة البائعات للبائعين كل ينادي على بسطته، وما عليك سوى الإستفادة من هذه المنافسة والمساومة على السعر.
انتهت أمسيتي في كازابلانكا بعشاء في مطعم “باسمان” حيث انهالت علينا الأطباق المغربية بكل ألوانها ونكهاتها.
شعرت بأنني في أحد القصور الأندلسية حيث الكنبات الوثيرة والجدران الفسيفسائية والسجاد المغربي يفترش الأرض والراقصات يتوالين على إدهاش الساهرين.
مع ساعات الفجر الأولى تركت كازابلانكا بوابة دخولي المغرب وخروجي منها. ودّعتني كازابلانكا بزخات المطر الربيعي ذكّرني المشهد الصباحي بأغنية قديمة جدًا سمعتها بالصدفة لجورج أولمير تقول:

كازابلانكا أيتها المدينة الغريبة والمقلقة
أحب شوارعك الدافئة وحشودها المتحرّكة بعباءاتها الشعبية
وهي متوجهة إلى المسجد لتصلي
كازابلانكا تحت ضوء القمر
عدت أجول في أحيائك
الحب ينادينا أمام كل منزل
ومن بعيد بيانو آلي عتيق
يعزف إلى ما لانهاية أغنية حزينة تحمل كل النوستالجيا
كازابلانكا ...
الأكثر جمالاً الخالدة، المدينة التي لا يمكن أن ننساها
أنتِ كازابلانكا.