أبناء مغتربون قصص مؤثرة عن المعاناة التي يعيشها الأهل

أبناء مغتربون,المعاناة التي يعيشها الأهل,متابعة التعليم,قصص آباء وأمهات,الواقع المؤلم,ضرورات الحياة

مصر: محمد سالم- لبنان: غنى حليق 07 مايو 2016

ظروف حياتنا العصرية تهدِّد أكثر فأكثر مجتمع العائلة التي يتشتت أفرادها، خصوصاً الشباب منهم، داخل بلدهم وفي البلدان الأجنبية، بدافع البحث عن عمل أو بدافع متابعة التعليم. ورغم أن وسائل الاتصال الحديثة قد جعلت العالم قرية صغيرة، واختصرت المسافات، فإن هذا لا يُغْني الأهل عن رؤية أبنائهم، ورغبتهم في بقائهم إلى جوارهم. وتزداد المعاناة إذا تجاهل الأبناء في غربتهم السؤال عن آبائهم وامهاتهم، أو إذا استوطنوا في البلد الأجنبي، وانقطعت الصلة بوطنهم الأم.
ترصد «لها» في هذا التحقيق قصص آباء وأمهات من مصر ولبنان، ذاقوا مرارة ابتعاد أبنائهم عنهم، وتقبَّلوا الواقع المؤلم الذي فرضته ضرورات الحياة في هذا العصر. ونبدأ من مصر.


الدكتورة عبلة الكحلاوي: وسائل الاتصال الحديثة خفَّفت من ألم الاغتراب
في البداية تتحدث الداعية الإسلامية الدكتورة عبلة الكحلاوي عن معاناتها مع اغتراب بناتها، قائلة: «أنا ديموقراطية جداً مع بناتي، ولهذا اتفقت مع زوجي الراحل اللواء محمد ياسين بسيوني على أن نتيح الفرصة لبناتنا الثلاث، مروة ورودينا وهبة الله في اختيار ما يحببن دراسته ومكان معيشتهن، ولم أجبرهن على شيء».
وتشير الدكتورة عبلة إلى أنها تشعر بألم الفراق لسفر ابنتها الوسطى «رودينا» الى الخارج مع زوجها الديبلوماسي «خالد عمران»، الذي مثّل مصر في العديد من الدول، لكنها سعيدة في الوقت نفسه لتمتع ابنتها بالاستقرار العائلي، حتى ولو كان ذلك في الغربة، خاصةً أن ابنتها ورثت دور «الداعية الإسلامية» بلا قصد منها، حيث وجدت نفسها تلقائياً تقوم بهذا الدور الدعوي بحكم موقعها في المجتمعات غير الإسلامية، التي فيها أقلية مسلمة تود معرفة أحكام دينها، فتقوم هي بهذا الدور.
وتضيف الدكتورة عبلة: «وسائل الاتصال الحديثة خففت كثيراً من ألم الاغتراب بيني وبين ابنتي، حيث نتواصل بصفة يومية بالصوت والصورة، وأطمئن إليها وإلى زوجها وأولادها، وهذه نعمة من الله في التخفيف من الشعور بالاغتراب بين الآباء والأمهات من جانب، والأبناء والبنات المسافرين إلى الخارج من جانب آخر».
وتعترف الدكتورة عبلة بأنه سبق لها أن جربت الشعور بالفراق قبل سفر ابنتها الدكتورة «رودينا»، حيث سافرت ابنتها الكبرى «الدكتورة مروة» إلى لندن مع زوجها وأولادها في مهمة علمية، بحكم وظيفتها أستاذة جامعية في مجال الإعلام، وشعرت وقتها أيضاً بالشوق الكبير إليها.
وتنهي الدكتورة عبلة كلامها قائلة: «أحلم بأن تبقى بناتي الثلاث الى جانبي، خاصة في ظل ظروفي الصحية غير المستقرة، إلا أن سفر «رودينا» اليوم يجعلني أشعر بالقلق الدائم عليها، بصفتي أمّاً لها مشاعر فياضة تجاه الجميع، ويلقبني كل من يحبني، وليس بناتي فقط، بـ «ماما عبلة».

أحلم باليوم الذي أعود فيه إلى مصر
تلتقط خيط الحديث من الدكتورة عبلة، ابنتها الدكتورة «رودينا» التي كانت في إجازة قصيرة في القاهرة، وتقول: «أعشق البقاء في جوار «ماما عبلة»، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، ورغم أن التواصل الإلكتروني خفف كثيراً من شعورنا بالاغتراب، أحلم باليوم الذي أعود فيه إلى مصر وأستقر فيها، وأنهل من مشاعر والدتي الجياشة، لأن التواصل عبر وسائل الاتصال الحديثة نعمة من الله، لكنه لا يغني عن اللقاء المباشر».

الدكتورة آمنة نصير: أحاول السيطرة على شعوري بالوحدة
تروي الدكتورة آمنة نصير، عضو مجلس النواب المصري، والعميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية في الإسكندرية- جامعة الأزهر، تجربتها مع سفر أولادها إلى الخارج قائلة: «أترك لأولادي حرية الاختيار، حتى أن بعضهم قرر  استكمال دراسته في الخارج، فمثلاً ابنتي الدكتورة «الشيماء» حصلت على الماجستير في الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية من بريطانيا، وبالتحديد من «جامعة أدنبره» وأكملت الدكتوراه في جامعة عين شمس، وقد شعرت بالشوق الكبير إليها أثناء سفرها، لأنني أحب أولادي كثيراً وأفضّل أن يبقوا الى جانبي، لكن إذا كانت مصلحتهم في السفر فليسافروا، علماً أنني أعاني بعدهم عني وأتحمل من أجل سعادتهم، بدليل صبري على الأسفار المتعددة لابنتي الدكتورة «ابتهال»، الأستاذة في كلية الصيدلة- جامعة عين شمس، لحضور المؤتمرات، وكذلك استقرار ابنتي الثالثة «دعاء» في لندن، لعشقها دراسة القانون وحصولها على الدكتوراه فيه، مع زوجها الذي يعمل أستاذاً لطب العيون في بريطانيا، فضلاً عن الأسفار الكثيرة لابني المستشار الدكتور محمد الدمرداش، الأمين العام لمجلس الدولة.
وتشير الدكتورة آمنة إلى أنها «أم وسيدة عصرية» تؤمن بأهمية التواصل والحوار مع الآخر، وطلب العلم «ولو في الصين»، ولهذا فإنها تحاول السيطرة على شعورها بالوحدة الذي خفّ كثيراً في ظل تطور وسائل الاتصال المباشر.
الدكتورة أماني فؤاد: وسائل الاتصال الحديثة لا تعوضني عن غياب ابني تحكي الدكتورة أماني فؤاد، الأستاذة في أكاديمية الفنون، وعضو المجلس الأعلى للثقافة، معاناتها النفسية بسبب سفر ابنها الأكبر «محمد» لدراسة الطيران في الولايات المتحدة، وغيابه عنها لفترات طويلة، مما جعلها تشعر بأن قطعة منها قد غابت عنها ولم تستطع وسائل الاتصال والتواصل الحديثة تعويضها عن ذلك، لأن الأم هي الأم، خاصة إذا كانت مشاعرها متدفقة، وتتألم لفراق ابنها سواء كان كبيراً أو صغيراً.
وتشير الدكتورة أماني إلى أن ما خفف عنها نسبياً ألم سفر ابنها محمد، هو زوجها الطيار عادل إبراهيم الذي يحاول في أوقات إجازاته من رحلات الطيران مواساتها قدر الإمكان، وكذلك ابنها «لؤي» الطالب الجامعي الذي يحاول تعويضها عن فترات غياب أخيه، خاصةً أنه سيكون دائم السفر مستقبلاً أثناء عمله في الطيران كوالده.
وتؤكد الدكتورة أماني أنها تحترم طموح الأبناء في تحقيق ذاتهم وأحلامهم بالسفر إلى الخارج، سواء للدراسة أو للعمل، بل وزواج بعضهم من أبناء البلد الذي سافروا إليه، مما يعني استمرار ارتباطهم بالغربة، سواء من خلال الزوجة أو الأولاد مستقبلاً أو طبيعة العمل، خاصة أن منظومة العمل في الخارج أكثر إتقاناً وجدوى من الدول العربية، مما يشجع الأولاد على المضي في السفر من دون التوقف كثيراً عند معاناة أهلهم، لكنها كما يقال «سنّة الحياة».

الدكتورة سامية قدري: هناك صراع بين طموح الأبناء ورغبة الأهل في بقائهم الى جوارهم
عن التحليل الاجتماعي للظاهرة، تشير الدكتورة سامية قدري، أستاذة علم الاجتماع في كلية البنات- جامعة عين شمس، إلى أن مجتمعاتنا العربية تتمتع ببنية متماسكة بين الأبناء والآباء، بل الأجداد أيضاً، ولهذا عادة ما يظل الابن يدور في فلك العائلة ويخضع للرعاية من الأبوين، حتى بعد التخرج والزواج، وهذه ظاهرة إيجابية، إلا إذا زادت عن حدها لتتحول إلى «حب التملك» مما يخلق حالة من الصدام بين طموحات الأبناء من طريق السفر للعمل أو الدراسة، وحب الأهل الذين اعتادوا أن يكون أولادهم في جوارهم.
وتؤكد الدكتورة سامية أن فكرة استقلال الأبناء بحياتهم وسفرهم للدراسة أو العمل هي استثناء من قاعدة بقائهم في محيط الأسرة، فهذه هي القيم والمبادئ الراسخة في مجتمعاتنا العربية، وتختلف الأسر في التعامل معها، حيث تصبح طبيعية عند الأسر ذات الثقافة العالية والمستوى الاقتصادي والاجتماعي الرفيع، في حين تشكل أزمة للأسر المتوسطة أو المنغلقة على نفسها، حيث ترفض سفر الأبناء إلى الخارج لفترة طويلة، بل قد ترفض هذه الأسر الاستقرار الدائم لأولادها في الخارج.
وتنهي الدكتورة سامية قدري كلامها مؤكدة أن هذه المشكلة تساهم في حلّها وسائل الاتصال والتواصل الحالية، التي مكنت الآباء والأمهات من رؤية وسماع أبنائهم في الغربة والاطمئنان الدائم إليهم من دون متاعب نفسية، مثلما كان الحال سابقاً، حيث كانت وسائل التواصل بدائية وتتم من طريق الخطابات المكتوبة التي تستغرق أسابيع وشهوراً حتى تصل إلى ذويهم.

الدكتور سيد عبدالرحمن: يكون الآباء والأمهات، في بعض الحالات، في آخر أولويات أبنائهم المسافرين
يقول الدكتور سيد عبدالرحمن، الأستاذ في جامعة جنوب الوادي، أن الله أنعم عليه بولدين هما «محمود» و«حسين»، وقد سافر الأول إلى السعودية للعمل وعاد إلى مصر للزواج ثم رجع إلى السعودية مرة أخرى واستقر هناك. أما الابن الآخر فقد سافر لدراسة الهندسة في ألمانيا، واستقر هناك وتزوج بألمانية وأنجب منها ولا يفكر في العودة إلى مصر، لأن حياته هناك أكثر استقراراً ودخله محترم، ومع هذا فهو لا يرسل لي ولأمه إلا القليل القليل، وكرامتي لا تسمح لي بأن أطلب المساعدة منه، رغم إصابة والدته بمرض خطير يستنزف دخلي كاملاً...، ولهذا دائماً ما أردد أبياتاً للشاعر العربي أسامة بن منقذ:
«شكا ألمَ الفراقِ الناسُ قبلي... ورُوِّعَ بالنوى حيٌ وميتُ
وأمّا مِثْلُ ما ضَمَّتْ ضلوعي... فإِني ما سَمِعْتُ ولا رَأَيْتُ».
ويؤكد الدكتور سيد أنه يؤمن تماماً بأنه لا يمكن أن يكون الأبناء نسخة مكررة من الآباء والأمهات، وأن الفطرة تقتضي من الأب والأم مراعاة ظروف الأبناء لسفرهم وتحقيق طموحاتهم، لأن السفر ليس كله شراً أو خيراً فقط كما يتصور البعض، لكنه سلاح ذو حدين، وكذلك إذا زاد اغتراب الأبناء عن حدّه فهذا يزيد الآباء والأمهات حرقةً وتمزقاً، لكن للأسف فإن انبهار الأبناء بالغربة ورغبتهم الشديدة في تحقيق ذواتهم وطموحاتهم ينسيانهم جذورهم- أهلهم الذين سهروا الليالي وحولوا أنفسهم إلى شموع تحترق لتضيء لهم طريق النجاح، سواء في الداخل أو الخارج.
وينهي الدكتور سيد عبدالرحمن كلامه، مؤكداً أنه لا يعارض طموح ولديه المغتربين وتطلعاتهما، لكنه ضد قسوة القلب أو تبلد المشاعر أحياناً، في حين «أموت وأمهما موتاً بطيئاً بسبب غيابهما وعدم سؤالهما عنا لفترات متباعدة، وحتى إذا بادرنا نحن بالسؤال فلا نجد المشاعر المتدفقة أو اشتياقهما الينا، بل يتذرع كل منهما بأنه نسي بسبب كثرة مشاغل الحياة». باختصار لم نعد في قمة أولويات أبنائنا كما كانوا هم بالنسبة إلينا، ولا أبالغ إذا قلت إن الآباء والأمهات، في بعض الحالات، يكونون في آخر أولويات أبنائهم المسافرين الى الخارج.

الدكتورة برلنتي فريد: جحود الأبناء يزيد ألم الآباء والأمهات
تشير الدكتورة برلنتي فريد إلى أن ابنها سافر إلى الولايات المتحدة لدراسة الطب، مما جعلها تشتاق إليه كثيراً من دون أن تتمكن وسائل الاتصال الحديثة من تعويضها عن وجوده جسداً وروحاً في أحضانها، فتطمئن إليه كبقية الأمهات اللواتي يعيش أولادهن معهن، وكلها أمل في عودته إلى أرض الوطن قريباً، بعد أن ينتهي من دراسته وتحقيق طموحاته.
وتوضح الدكتورة برلنتي أن قدر الوالدين الصبر على اغتراب أبنائهم بسبب ظروف الحياة الصعبة، لكنْ ثمة ألم ناجم عن جحود بعض الأبناء، حيث يهملون التواصل مع أهلهم، إلى حد أنهم لا يرسلون إليهم مساعدات مالية تعينهم على مصاريف الحياة، أو العلاج إذا كانوا من المتقدمين في السن ويعانون أمراض الشيخوخة والآلام النفسية للوحدة، وصدق قول القائل: «الفراق هو الموت الصغير».
وتشير الدكتورة برلنتي إلى أنها تعرف حالات يندى لها الجبين، من اغتراب الأبناء وإهمالهم شؤون أهلهم لسنوات طويلة، حتى أن بعضهم شغلته الحياة ونسي أن يدفع لأبيه أو أمه أجر دار المسنين، أو أنه لم يحضر جنازة أحد والديه بحجة أنهم مشغول جداً وظروف العمل لا تسمح... ولو بحثنا في سيرة هؤلاء الأمهات والآباء المسنين لوجدنا أن جزءاً كبيراً من معاناتهم وأمراضهم النفسية والعضوية سببه سفر الأبناء وإهمالهم لمشاعرهم، وهؤلاء يصدق فيهم المثل الشعبي: «قلبي على ولدي انفطر وقلب ولدي على حجر».

نجوى رمضان: واجبنا أن نستمر بالتضحية من أجل أبنائنا
أما نجوى رمضان، القيادية في الاتحاد النسائي اللبناني والتي التقتها «لها» أثناء حضورها مؤتمر «نحو عالم يتسم بالمساواة»، الذي نظمه الاتحاد النسائي العربي في القاهرة أخيراً، فتقول عن معاناتها: «التضحية صفة متجذرة في الأمهات، لذا من واجبنا أن نستمر في التضحية من أجل أبنائنا وبناتنا حتى آخر يوم في حياتنا. وشخصياً، سافر ابني الوحيد إلى كندا لدراسة الاقتصاد وإدارة الأعمال، ثم عاد إلى لبنان لفترة قصيرة، ورجع مرة أخرى إلى كندا ولا يزال عمله مستقراً فيها إلى اليوم».
وتضيف نجوى أنه مما زاد أيضاً في معاناتها كأم، سفر ابنتها مع زوجها إلى المملكة العربية السعودية، واستقرارهما هناك للعمل، ولم يتبق لها من أبنائها إلا ابنة وحيدة تعيش في لبنان، وهي متزوجة أيضاً ومشغولة بأسرتها وحياتها الخاصة، وهذا جعلها تشعر بالاغتراب الحقيقي، لكن ما يصبّرها هو حرص أولادها على التواصل المستمر معها عبر الإنترنت، رغم أن ذلك لا يغني عن اللقاء الشخصي الذي تبقى له مشاعر حميمية لا توصف بالنسبة الى الأم، وخصوصاً كلما تقدمت في السن.

لطفي شاكر: هاجر ابني إلى استراليا ونسيني أنا وأمه
يلخص لطفي شاكر، مدرّس اللغة العربية، معاناته بسبب سفر ابنه الوحيد «يحيى» للعمل في الخارج، بقوله: «صدق القائل «البعيد عن العين بعيد عن القلب»، وقد نسي ابني أن له أباً وأمّاً لهما حقوق عليه، وأنهما صاحبا الفضل بعد الله في وجوده في هذه الحياة والنجاح فيها».
ويضيف: «للأسف أنا بعيد عن قلب ابني الوحيد المهاجر إلى أستراليا، خاصةً بعدما حصل على جنسيتها وتزوج هناك واستقر، ولم أره منذ سنوات طويلة، وانشغل بحياته هناك وتركني أعاني وأمه ويلات الفراق والاغتراب والمرض، وننتظر مساعدة أو عوناً من أبناء أخي أو أختي». ويشير لطفي شاكر إلى أنه حاول إقناع ابنه الوحيد بالعودة إلى مصر والاستقرار فيها، خاصة أن مهاراته عالية في الكمبيوتر والترجمة، ويمكن أن يؤسس له مشروعاً خاصاً أو يعمل في مجال الترجمة، إلا أنه رفض بشدة ولم يعر مشاعرنا تجاهه أي اهتمام، وصدق الإمام عليّ بن أبي طالب حين عبر عن شعوري وشعور الملايين مثلي من اغتراب أبنائهم بقوله:
«من لي برؤيةِ من قد كنْتُ آلفهُمْ... وبالزمنِ الذي وَلَّى فلم يَعُدِ
لا فارقَ الحزنُ قلبي بعدَهم أبداً... حتى يفرقَ بين الروحِ والجَسَد».

الدكتور محمود فتحي: عاطفة الأمهات تجاه غياب الأبناء أقوى من عاطفة الآباء
وعن التحليل النفسي للظاهرة يشير الدكتور محمود فتحي، رئيس قسم علم النفس في كلية الآداب- جامعة الفيوم، إلى أن الأمهات والآباء يختلفون في التعامل مع تلك المشكلة من حيث قدرتهم على الصبر وتحمّل فراق أبنائهم لشهور أو لسنوات، لأن هناك من يستطيع الصبر ومنهم من لا يستطيع، وهذه فروق فردية لا يمكن أحداً تعميمها.
ويضيف أن من الطبيعي أن تكون عاطفة الأمهات تجاه اغتراب أولادهن أقوى من عاطفة الآباء، ولهذا تكون معاناتهن النفسية أكبر، وهذا يتطلب تصبيرهن من طريق التواصل الدائم مع الأولاد عبر وسائل الاتصال، وكذلك أن يقلل الأبناء من فترات الاغتراب عن الوطن قدر الإمكان، صوناً لنفسية الأهل، وكل ابن مغترب أعلم بنفسية أبويه وقدرة كل منهما على الصبر على اغترابه.
ويختتم الدكتور محمود فتحي كلامه، مؤكداً أن الاعتدال من جانب الأمهات والآباء في مشاعرهما، وكذلك الاعتدال لدى الأبناء في طموحاتهم من طريق الاغتراب ورعاية ذويهم، يحل كثيراً من المشكلات، بمعنى أن يتحلى الآباء والأمهات بمزيد من العقلانية والصبر، ويتحلى الأبناء المغتربون بمزيد من الحنان والرأفة تجاه آبائهم وأمهاتهم.


شهادات من لبنان
لبنان معروف تاريخياً بنزوع أبنائه إلى الهجرة. ولم يزدهر الأدب المهجري الذي يجسد معاناة الأبناء والأهل، في بلد عربي مثلما ازدهر في لبنان. وعن واقع هجرة اللبنانيين اليوم، وأثرها علي حياتهم العائلية، نستعرض هذه الشهادات:


لبنى الزعتري... والغربة المتواصلة
رافقت الغربة لبنى الزعتري منذ بداية زواجها، وهي لا تزال تذوق طعمها الى اليوم. فبحكم عمل زوجها في الخارج، اعتادت لبنى على تحمل المسؤولية باكراً، واضطرت الى ترك عملها في المصرف رغم المنصب المهم الذي كانت تشغله فيه، وذلك من أجل التفرغ لتربية ولديها والاعتناء بهما. أرادت لبنى ان تربيهما تربية صالحة، وتعوضهما ولو بشكل بسيط عن عطف الأب المسافر وحنانه. لذا أصرت على البقاء في لبنان لكي يكتسبا عادات بلدهما وثقافته. ضحّت لبنى كثيراً وتعبت في حياتها حتى كبُرا، وحين عاد زوجها من الغربة وشعرت بالاستقرار الى جانبه، قررت العودة الى العمل من جديد، فهي امرأة مكافحة ونشيطة وغير معتاده على حياة الملل. تقول لبنى: «عندما كبر ولداي قليلاً وعاد زوجي للعيش في لبنان، شعرت بالاستقرار والأمان. ولأن دوام عمله طويل، قررت العودة الى العمل للقضاء على الشعور بالملل. ورغم ذلك، لم أغب عن ولديّ، ولم أهملهما يوماً، إذ كنت أحضر الى المنزل قبل عودتهما من المدرسة، وأبذل مجهوداً مضاعفاً لئلا يشعر أحدهما بالنقص، وكنت آمل بعد كل هذا التعب والتضحية أن يبقيا إلى جانبي. لكن وللأسف خابت آمالي، إذ فجأة وبعد أن تخرجا في الجامعة، بدأت أشعر بالوحدة، فالأول سافر بعدما حصل على عرض جيد للعمل في الخارج، ومر الثاني بفترة إحباط وبطالة دامت 9 اشهر رغم نيله شهادات عليا، ولما وجد وظيفة كان الراتب زهيداً وبالكاد يؤمّن له مصروفه، وبات يتنقل بين شركة وأخرى الى أن حصل على عرض مغرٍ للعمل في الخارج... فلم يكن أمامي سوى الموافقة ولو على مضض والدوس على عواطفي. صحيح أنهما ولداي ولكنني لن أقف في طريق مستقبلهما.
بعد سفر الشابين، أصبحت لبنى وحيدة مع زوجها في لبنان، وبدأت مرحلة جديدة من حياتها، تخللها المزيد من العزلة والاغتراب، كان يعزيها خلالها أن ولديها يحققان ذاتهما ويشقّان طريق النجاح في الخارج. ورغم ذلك، لم ترتح لبنى، لأن زوجها هو الآخر قد تلقّى عرضاً مغرياً للعمل في الخارج بعد الكساد الذي شهدته سوق العمل في لبنان بسبب تردّي الاوضاع الأمنية، فما كان أمامها إلا الرضوخ للأمر الواقع... سافر الشابان وتبعهما والدهما، فعادت لبنى إلى وحدتها القاتلة ومسؤولياتها التي باتت مضاعفة.

قوتي وإيماني ساعداني على تخطي المِحَن
تواسي لبنى نفسها بالقول إن لبنان مهتز أمنياً، وكلما حصلت فيه مشكلة، تشكر الله لأن أفراد عائلتها في الخارج، وتقول: «وكأنني بهذه الكلمات والأفكار التي تراودني أخبّئ ألماً دفيناً، فأحاول مواساة نفسي لأتمكن من الاستمرار. لا أنكر أن العيش بمفردي تجربة مرّة، ولكن لا بد للحياة من أن تستمر، وأحمد الله على أنني محاطة بإخوتي الذين يطمئنون إليّ بشكل يومي، إذ أعيش وحيدةً في المنزل، وأرفض استقدام خادمة لئلا أضيف مسؤوليات الى المسؤوليات الموكلة إلي. أنا إنسانة قوية ومؤمنة وهذا ما يساعدني على تخطي المحن في حياتي».
ليس سهلاً أن تعيش المرأة بمفردها، خصوصاً في مجتمعنا الشرقي الذي لا يرحم وينظر الى الأمور بعين متشككة. لهذا السبب تتوخى لبنى الحذر في تعاملها مع الآخرين، فهي إذ تعيش وحيدة تكون معرضة للكثير من المشاكل، ففي المبنى الذي تسكن فيه يحاول البعض استضعافها وهدر حقوقها، كما تصادف في المجتمع من يحاول التقرب منها بأساليب دنيئة. وتعترف لبنى بأن العيش بمفردها سيف ذو حدين، فهو إذ يعطيها بعض الحرية في التصرف وعدم الالتزام بالواجبات العائلية من تحضير طعام وغيره... يفرض عليها قيوداً كثيرة كالتقيد بعدم الخروج ليلاً من دون مرافقة أحد من أهلها، ويلزمها بالاتصال كل صباح بإخوتها لتطمئنهم إليها، خصوصاً أنها تعرضت في السابق لانتكاسة صحية وهبّ أخوها لنجدتها.

محمود شهاب: ابنتي وحفيدي يخففان ألم الفراق
لمحمود شهاب وزوجته بثينة شابان وفتاة، وهما يعانيان أيضاً من سفر ولديهما بسبب الوضع الامني المتردي وقلة الوظائف الجيدة. يعمل محمود مع هيئة الامم المتحدة، وهو يكافح من أجل تربية أولاده وتعليمهم وتأمين مستقبل مشرق لهم، ورغم ذلك لم يجد حلاً إلا السفر لضمان عيش كريم لهم. يقول محمود: «ربينا أولادنا وعلّمناهم، وكنا نحلم بأن يجدوا وظائف محترمة تؤمن لهم عيشاً كريماً ومستقبلاً واعداً، إلا ان أوضاع البلد المتردية جعلتنا نبحث لهم عن فرص عمل في الخارج. لقد تخصص ابني الأكبر في الميكانيك، وتوظف في إحدى الشركات وكان راتبه جيداً، إلا أن طبيعة عمله كانت تستدعي خروجه ليلاً لتلبية طلبات الزبائن، مما سبب لنا نوعاً من الخوف والقلق عليه.
نعيش في منطقة البقاع وقد تأثرنا كثيراً بالأزمة السورية، على الصعيدين الامني والاقتصادي، فتراجعت فرص العمل بعد وفود النازحين السوريين، وتدنت رواتب الموظفين اللبنانيين الى النصف تقريباً بسبب كثرة الأيدي العاملة، مما أثّر كثيراً في مستقبل الشباب اللبنانيين وجعلهم يبحثون خارج البلد عن مستقبل افضل».
ويضيف: «سافر ابني في البداية إلى عمان ومن ثم الى دبي التي يستقر فيها حالياً. أما الابن الثاني وهو الأصغر فحزم أمتعته هو الآخر وسافر الى الكويت بحثاً عن فرص عمل جيدة ومستقبل أفضل. يعز علينا فراق ولدينا ويعزّينا وجود اختهما بيننا رغم زواجها واستقلالها مع عائلتها. لم نكن نتمنى أن يعيش ولدانا في الغربة، ولكننا خضعنا للأمر الواقع وشجعناهما على السفر لئلا يبقيا في دائرة الخطر، وفضلنا مستقبلهما وحياتهما المستقرة على عاطفتنا وأشواقنا. يتأثر محمود لفراق ولديه، لكن يبقى تأثر زوجته أكبر بكثير، خصوصاً أنها تهتم بأدق تفاصيل حياتهم، تقول بثينة: «لا يمكنني وصف شعوري يوم سافر ابني البكر، ولا أعلم كيف كانت تمر عليّ الايام في بداية سفره،
انزعجت كثيراً وما زلت رغم أن المسافة بيننا ليست طويلة، ونتواصل يومياً مرتين أو أكثر. ورغم أنه يزورني كل ثلاثة أشهر، لم يخفف هذا من اشتياقي إليه، ولم يكفكف دموعي كلما أعددت طعاماً يحبه، أو رأيت شيئاً يذكّرني به. أشعر بألم فراقه، ولكنني مسرورة لأننا نعيش في زمن تتوافر فيه وسائل الاتصال الحديثة، ولولاها لما وافقت على سفره أو كنت ربما سافرت معه... أعلم جيداً أن وجوده في الخارج أفضل له، وما يواسيني أنه يعيش بأمان ويؤسس لمستقبل جيد، وأدعو له دائماً بالتوفيق وبلمّ شملنا في أقرب وقت». أما عن سفر الولد الثاني والأصغر بين إخوته فتقول: «لم أستوعب بعد فكرة سفر ابني الثاني لأنه سافر منذ مدة قصيرة، وخصوصاً انه الولد الاصغر والمدلل لدي، أفكر فيه دائماً، ماذا يفعل وكيف سيتدبر أمره وماذا سيأكل! ولكن ليس في اليد حيلة، وما يواسيني انه يعيش بأمان هناك ويعمل لتأمين مستقبل أفضل وتكوين عائلة سعيدة. كما نفرح بوجود ابنتنا وحفيدنا الصغير واللذين يمضيان أغلب وقتهما في منزلنا مما يعوضنا قليلاً عن غياب ولدينا.

فاتنة حيدر: أشغل نفسي بالقراءة ولقاء الأقارب
فاتنة حيدر امراة متزوجة وأم لثلاثة شبان، تعاونت وزوجها في تربيتهم حتى تخرجوا في الجامعات ودخلوا سوق العمل. لكن وبسبب تردي الأوضاع الأمنية والاقتصادية في لبنان، اضطر اثنان من أولادها الى السفر والعمل في الخارج لبناء مستقبلهما والعيش في بحبوحة وأمان. تقول فاتنة: «بلا شك، ترك سفر ولديّ فراغاً كبيراً في حياتنا، أنا وزوجي وابني الثالث، لكن ما من حل، لأن بقاءهما في لبنان لن يحقق لهما إلا التراجع والإحباط والتعرض للخطر، مما يعزينا ويجعلنا نقنع أنفسنا بأهمية السفر وفوائده. لزوجي هواياته التي تشغله عن سفر ولدينا، أما أنا فأحاول إشغال نفسي بالقراءة ولقاء الأهل والأقارب. بصراحة، لقد انزعجت كثيراً عندما سافر ابني الأكبر، وشعرت بصعوبة الموقف بعدما تصورت كيف ستكون حياته في الغربة، هو الذي تعود على الدلال والرفاهية معنا. فكرت به وبمشاعره هو أكثر من مشاعري، لأننا عائلة مترابطة ومعتادة على الاهتمام والرعاية، كما فكرت بالأكل الجاهز وغير الصحي الذي سيؤثر في صحته».
تعترف فاتنة بأن سفر ولديها قد غيّر أموراً كثيرة في حياتها، وترك غيابهما فراغاً في المنزل، مما أثر في نمط عيش العائلة، إن لناحية الطعام أو التموين... فهي كانت تطبخ بكميات معينة، ولم تستطع في الفترة الاولى التحكم بالمقادير المطلوبة، فيبيت الطعام ليومين أو ثلاثة في الثلاجة، كما فتُرت حماسة أفراد الاسرة على التحلق حول المائدة كالسابق، واختلفت بالتالي أنواع الطعام التي كانت تعدّها بعدما أصبحت لكل فرد في العائلة خصوصيته في الطعام وتختتم لبنى حديثها مؤكدةً: «أتمنى أن يتحلّى الناس والسياسيون في بلدنا بالوعي لكي نصل الى مكان نتقبل فيه بعضنا بعضاً، وحتى لا يتفرّق شمل عائلاتنا، لأن كل شاب يسافر إلى بلد الاغتراب يصبح مقيداً بعاداته، وهذا الوضع سيحول اللبنانيين الى لوحة موزاييك متعددة التقاليد والإثنيات ونحن بغنى عنها».

غربة الأبناء في ميزان علم الاجتماع
ترى الباحثة في علم الاجتماع والعلاقات الانسانية والسياسية الدكتورة فهمية شرف الدين أننا نغالي في ما نظن أن الاولاد قد يتركون أهلهم عندما يتغرّبون. ففي كل الدول الأوروبية والأميركية يترك الأولاد أهلهم ويبحثون عن مستقبلهم ولا يعودون إليهم إلا عندما يحتاجونهم ثانية. لذلك يجب ألا يرتهن الاولاد لمشيئة الاهل، بل عليهم أن يتركوهم يشقون طريقهم ويصنعون مستقبلهم حتى لو كانوا يعيشون في البلد الذي يعيش فيه أهلهم. كما أن الافكار القائمة على تزويج الاولاد في كنف العائلة أصبحت قديمة وبالية، ولا بد من التخلص منها.
أما في ما يتعلق بهجرة الشباب اللبناني فتقول: «هجرة الشباب في بلادنا مفروضة علينا، لأن لبنان قليل الموارد وصغير المساحة، فيما الكفاءات فيه عالية، وهذا لا يعني ان ليس لدينا فرص عمل، ولكن الأعمال المتوافرة  حالياً لا تتناسب مع كفاءات أولادنا. يتمتع اللبنانيون بكفاءات عالية، وهم اينما ذهبوا يعملون في اختصاصات مميزة لتمتعهم بطموح واسع». وتضيف: «انا من الامهات اللواتي جميع أولادهن مسافرون، لدي ثلاثة أولاد، تعيش الفتاة في دبي والشابان في اميركا، ورغم ذلك لا اشعر بأن عليهم ترك اعمالهم والعودة للعيش بقربي، مع العلم أن فرص العمل متوافرة لهم هنا، ولكنهم يحتاجون مع الاسف الى وسطات سياسية لنيلها».
وتفيد شرف الدين بأن على الأهل تربية أولادهم بحرية وتعويدهم على الاستقلالية، وكلمة استقلال لا تعني الاستقلال المادي فقط، بل العاطفي أيضاً. علينا ألا نغالي بفكرة الارتباط بالأهل ويجب إعادة النظر فيها، فنحن نحب اولادنا من اجل ان نرى أولادهم ونستمتع معهم ونكون مفيدين لهم حتى في كبرنا وليس من أجل أن يطيعونا ويحضنونا. لنترك الخيار لهم في حرية البقاء او السفر ولا ندع حاجتنا اليهم هي التي تحكم. لذا افرح بهم وأتمنى لهم النجاح، وعندما أمرض، أجدهم الى جانبي. علينا الا نرهن مستقبل أولادنا بنا، بل يجب مساعدتهم على تخطي الصعاب وتحضير مستقبل جيد لهم، وفي حال احتجنا اليهم نستدعيهم. كلما ابتعد الأهل عن الأولاد، شعروا بأهمية أهلهم وواجباتهم تجاههم، وقد عشت هذه التجربة عندما اضطررت لإجراء عملية جراحية فحضر ابني الاول وتبعه الثاني ومن ثم الفتاة ولم يتركوني إلا بعدما تعافيت.
وتختتم شرف الدين حديثها بالقول: «مشكلتنا ان لدينا حداثة شكلية. نحن حداثيون في نظم عيشنا ولكننا لسنا حداثيين في انماط علاقاتنا الاجتماعية لأنها لا تزال متعلقة بمبادئ ثقافية متخلّفة».

نجوى دالاتي: أعيش مع الذكريات
نجوى دالاتي امرأة في العقد السادس من عمرها، تعيش اليوم شبه وحيدة مع خادمتها في منزل تملأه الصور والذكريات. فالداخل إلى منزلها لا يسعه إلا أن يكتشف هويتها: من هو زوجها؟ عدد أبنائها وما هي أسماؤهم وماذا يشكلون بالنسبة إليها من دون أن يسألها عنهم. الصور والأشعار والمخطوطات المعلّقة على جدران الصالون تجيب الزائر عن كل الأسئلة التي تراوده... والصناديق الخشب الاثرية المليئة بالرسائل وبطاقات المعايدة وألبومات الصور تحكي لذلك الزائر قصة تلك السيدة مع الحنين وسنوات الوحدة التي تعيشها بعيداً عن أولادها.
هي أم بكل معنى الكلمة، وعاطفتها وحنانها لا يقتصران على أولادها فقط، إذ إنها تغدقهما على كل من تصادفه في حياتها، ولهذا لقّبت بـ «ماما نجوى». للسيدة دالاتي ثلاثة شبان يعيشون في بلاد الاغتراب منذ سنين طويلة، الأول في سويسرا، والثاني في فرنسا، فيما الثالث وهو أصغرهم يتنقل بين لبنان ودول عدة بسبب طبيعة عمله.
تقول السيدة دالاتي: «أنا بطبعي امرأة عاطفية، لأنني عشت وكبرت بعيداً عن أمي، وكنت أدّخر كل عطفي وحناني لأولادي، لذلك عندما تزوجت وأنجبت كنت أحيط أطفالي بالرعاية والاهتمام، وأخاف عليهم كثيراً، وأفكر بمصلحتهم وصحتهم وحمايتهم. ففي صغرهم، وبسبب الأحداث الامنية، اضطررت الى تعليمهم في مدرسة قريبة من المنزل، وعندما كبروا كنت أمنعهم من الخروج من البيت كي لا يغريهم أحد الشبان ويدفعهم للانخراط في حزب أو ميليشيا معينة. كانوا كلما كبروا يزداد خوفي عليهم أكثر. ولما أنهوا المرحلة الثانوية وحصلوا على منح جامعية تخوّلهم التخصص خارج لبنان، لم أصدّق نفسي، فمحبتي لهم جعلتني أتقبّل فكرة مغادرتهم البلد مهما كلفني ذلك من عذاب ولوعة الفراق، لأن مستقبلهم كان يومها أهم من حناني وأشواقي، خصوصاً أنهم كانوا متفوقين في دراستهم». في آخر الثمانينيات من القرن الماضي، سافر أولاد نجوى الواحد تلو الآخر، وكانت تودّعهم والحسرة تحرق قلبها.
تعترف دالاتي بأنها لم تستوعب في البدء فكرة سفره أولادها، ولكن الحوادث الأمنية التي كانت تحصد أرواح الشباب بالعشرات أجبرتها على الاقتناع بهذا الحل، وتقول: «كابرت كثيراً، وقلت في نفسي إن مستقبلهم أهم من عواطفي، كما شكرت الله على الفرصة التي سمحت لهم بالسفر، وواسيت نفسي بأنهم سيكونون بأمان في بلد الاغتراب، وسيؤمّنون  مستقبلهم بصورة أفضل. حبست دموعي وأخفيت مرضي وحزني على غيابهم حتى لا ينزعجوا أو يتأثروا لأنهم يحبونني كثيراً، ويمكن أن يغيروا رأيهم فيما لو ضعفت أمامهم، خصوصاً انهم كانوا في سن صغيرة وغير معتادين على الغربة يومها».

من أشرطة التسجيل إلى التواصل اليومي
لم تكن وسائل الاتصال متاحة في تلك الفترة كما اليوم، وكانت شبكة الهاتف شبه معطلة في لبنان، وكان النظام الوحيد المعتمد هو نظام الرسائل وأشرطة الكاسيت، وتضيف دالاتي: «فور تأكدي من سفر أولادي، اشتريت لهم جهاز تسجيل ليسجلوا لي كل أخبارهم ويطمئنوني عنهم. كنت أتواصل معهم من خلال الرسائل وعبر المسافرين والقادمين من الدول التي يقطنون فيها، وأرسل اليهم الطعام والشراب وكل ما يحبونه من طريق بعض المعارف أو بواسطة البريد. أمضيت عمري وأنا أكتب الرسائل وأسجل أشرطة الكاسيت وأرسلها اليهم حتى بتّ أملك أرشيفاً كاملاً من الصور والرسائل وبطاقات المعايدة التي صارت تشكل جزءاً مهماً من حياتي».
ورغم معاناتها ألم الفراق، تؤكد نجوى أنها كانت طوال فترة الحرب تشكر ربها على سفر أولادها، خصوصاً أنهم درسوا وتخصصوا وشغلوا مناصب مرموقة في الخارج. فهم لو بقوا في لبنان لما توافرت لهم هذه الفرص، ولما حققوا ما هم عليه اليوم. كانت نجوى تقنع نفسها بجدوى فكرة السفر، ولكي تعوض عن غياب أولادها الذين كانوا يملأون عليها حياتها، عملت بنصيحة زوجها وأسست نادياً رياضياً للسيدات تابعاً لنادي الصياد الرياضي الذي كان يملكه زوجها، واستطاعت أن تديره بنجاح ما يقارب 17 عاماً وتحقق ذاتها من خلاله.
اليوم وبعد وفاة زوجها، أصبحت نجوى شبه وحيدة، فأولادها يتواصلون معها يومياً ويزورونها مرة في العام، ما عدا ابنها الاصغر الذي يصر على أن يكون إلى جانبها بين شهر وآخر. ورغم ذلك، فهي تتمنى لهم كل الخير، ولا تحب ان تكون أنانية في تفكيرها، فتسعد لسعادتهم وتحزن لحزنهم أينما كانوا. وسائل الاتصال الحديثة خففت عن نجوى الكثير من الألم والعذاب، لأنها باتت تحدّثهم وتراهم بشكل شبه يومي وتتابع حتى أخبار أولادهم. هم يحبون والدتهم كثيراً ولا يتركونها رغم مسافات البعد الطويلة. وهي تشكر الله على نعمة المحبة التي زرعتها في قلوبهم وعلى العاطفة التي يتحلّون بها... لذا تعيش نجوى اليوم حياة هادئة فتمارس رياضتها المفضلة وتزور أهلها وأصدقاءها وتتواصل مع عائلتها ولا تشعر أبداً بالممل، لأن لديها من القناعة ما يكفي لجعلها سعيدة.