توصية أثارت جدلاً فقهياً: تهملون أبناءكم... احترسوا من سحب الولاية

توصية,تهملون أبناءكم,احترسوا,سحب الولاية,تكليف,المصلحة العامة,ضوابط الولاية,رفض مشروط,إزاحة الضرر,تمهيد,عبلة الكحلاوي,آمنة نصير,أحمد عمر هاشم,جمال فاروق,فايزة خاطر,سامية قدري

أحمد جمال - (القاهرة) 09 يوليو 2016

 أثارت توصية لمؤتمر دولي بسحب الولاية من الآباء الذين يهملون أبناءهم ويلقون بهم في الشوارع، وإعطائها للدولة والمنظمات الخيرية والاجتماعية لرعايتهم، جدلاً فقهياً وانقسم العلماء حول أحقية الدولة في سحب الولاية، حيث أيّد البعض ذلك في حين رفضه آخرون، ولكلٍّ أدلّته الشرعية.


بدأت القضية عندما عرض إبراهيم وديع، رئيس مركز «أطفال بلا مأوى»، أحد ضيوف المؤتمر الذي نظّمته جامعة عين شمس، تجربته في محاولة إصلاح هذه الفئة من الأطفال، إلّا أنه اصطدم بالواقع المرير الذي يكرّس الخطأ ويتصدّى لأيّ محاولة لتصحيح مسار حياة بشر هم في الحقيقة ضحايا لا جناة.
يقول إبراهيم وديع: «أكثر ما يثير استيائي ويؤذيني عندما أمرّ في الشوارع، رؤيتي لأطفال من الجنسين وفي سن الزهور، وقد تُركوا في الأزقة والطرقات بسبب عدم صلاحية أسرهم لتربيتهم، سواء بسبب الطلاق أو التفكك الأسري والمشكلات الدائمة بين الأبوين، مما يجعل الأولاد يعيشون في بيئة غير صالحة، لدرجة أنهم يفضّلون التشرد على البقاء في هذه الحال. وللأسف فإنّ هذا العدد في تزايد مستمر، حتى أنّنا وصلنا منذ سنوات إلى مرحلة «أسر الشوارع» وليس أطفال الشوارع فقط، بعد إنجاب هؤلاء المراهقين، من خلال زواج غير شرعي أو علاقات محرّمة، أطفالاً جدداً معهم في الشارع، الذي أصبح مأوى للجميع».
ويوضح إبراهيم وديع أنه حاول أن يكون إنساناً إيجابياً ويساهم في حل تلك المشكلة، فقام بجمع العشرات من هؤلاء وعمل على إدخالهم المركز الذي يشرف عليه، حيث يعتني بنظافتهم ويدخلهم المدارس ويحولهم إلى مواطنين صالحين ويرعاهم ويعلمهم مهناً وحرفاً شريفة تكون مفيدة للمجتمع، يأكلون منها بالحلال ويفيدون أنفسهم وأسرهم ومجتمعهم، لكن لم تمر أيام قليلة على مساعيه، حتى سجلت كل أسر هؤلاء الأطفال محاضر في أقسام الشرطة ضده لاستعادة أولادهم، بصفتهم أولياء أمورهم. وبالفعل، تمكنت هذه الأسر المفككة من استرجاع أطفالها وألقت بهم في الشارع مرة أخرى، في ظل غياب الدولة التام عن هذه الشريحة من المواطنين، التي سرعان ما تتحوّل إلى قنابل موقوتة لتدمير المجتمع، الذي أهمل رعايتهم، حيث يتم استئجارهم بجنيهات معدودة لتنفيذ الجرائم بمختلف أنواعها.
ويطالب إبراهيم وديع، مجلس النواب بسن تشريع يسقط ولاية الأسر المهملة لأولادها، مثلما تفعل الدول المتقدمة، بموجب قوانين وتشريعات تحمي المجتمع من الأطفال «مشاريع» الأشرار وتحميهم من أنفسهم، فهذا واجب الدولة لأنهم في الحقيقة ضحايا وليسوا مجرمين بالفطرة، بل إن منهم من يمكن أن «يتفجّر» إذا وُضع في البيئة المناسبة.

تكليف
الدكتورة عبلة الكحلاوي، العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات في بورسعيد ــ جامعة الأزهر، ترى أن الولاية في الإسلام مسؤولية وليست مجرد إنجاب فقط ــ كما يظن الكثيرون ــ بل إنها تكليف قبل أن تكون تشريفاً، ولهذا يجب محاسبة أولياء أمور أطفال الشوارع، الذين قتلوا براءة أولادهم  وحوّلوهم إلى مجرمين منذ الصغر، فبات ينطبق عليهم قول الشاعر: «هذا جناه أبي عليَّ... وما جنيت على أحد».
وتوضح الدكتورة عبلة، أن وليّ الأمر في الدولة مطالب شرعاً بحماية رعاياه وتوفير العيش الكريم لهم، وحل مشكلاتهم، وتقويم أيّ اعوجاج فيهم، لأنه سيُسأل عن ذلك أمام الله، بدليل قول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «ويلك يا عمر، لو أن بغلة تعثرت في العراق لسُئل عنها عمر لمَ لمْ تمهّد لها الطريق؟»، فهذا هو إحساس الراعي برعيته واستشعاره المسؤولية عنها أمام الله.
وتشير الدكتورة عبلة إلى أن الولاية على الأطفال في الإسلام مفترض أنها لرعاية مصالحهم وحمايتهم، بل وهذا شرطها ــ فإذا لم يكن ولي الأمر ــ الأب أو الأم أو الأقارب ــ أميناً على رعاية أطفاله، فيجوز التفكير في اللجوء إلى وسائل أخرى لحمايتهم، حتى لو وصل الأمر إلى سحب الولاية منه أو منهم وإسقاطها عنهم.
وتنهي الدكتورة عبلة كلامها، مؤكدة أهمية الدور الذي يجب أن تقوم به المؤسسات الخيرية في المجتمع لرعاية هؤلاء الأطفال، مثلما تقوم جمعية «الباقيات الصالحات»، التي ترأسها بنفسها، وتضم دوراً لرعاية هؤلاء الأطفال أطلقت عليها اسم «ضناي»، تحمي المجتمع من انحراف الأطفال وضياعهم في ظل إهمال أسرهم لهم.

المصلحة العامة فوق الجميع
تؤكد الدكتورة آمنة نصير، عضو مجلس النواب والعميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية في الإسكندرية ــ جامعة الأزهر، أنّ تعريف «الوالي» اصطلاحاً هو «من يتولّى أمر غيره ويرعاه حق الرعاية المتكاملة»، بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية عرّف «الولي» بالمفهوم الديني بأنه يسمّى ولياً، من موالاته للطاعات، أي متابعته لها، ويقابل الولي «العدو» على أساس من القرب والبعد من الله، وإذا جمعنا المعنيين لوجدنا أن الوالي أو الراعي إذا اتّقى الله في رعيته وأخذ بأيديهم إلى الطاعات، فقد يصل إلى درجة «الولاية» لله، وإذا قصّر في رعايته لرعيّته أصبح عدواً لله ولوطنه وأسرته، التي يجب عليه شرعاً رعايتها.
وتوضح الدكتورة آمنة، أن كل إنسان منّا يُعدّ مسؤولاً أمام الله عن رعيته، ابتداءً من الحاكم وانتهاءً بالخادم، ويوضح هذا قول النبي (صلّى الله عليه وسلّم): «كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيّته، فالإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والولد راعٍ في مال أبيه ومسؤول عن رعيته، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيّته».
وتشير الدكتورة آمنة إلى أن لا مانع من دراسة تجارب الدول التي تسحب الولاية من الأسر المهملة لأطفالها لتتولى هي رعايتهم، ونأخذ المفيد المتوافق مع الشرع والتقاليد ونترك ما يتنافى مع ذلك، فالحكمة ضالّة المؤمن أنّى وجدها فهو أحقّ بها، إذ إنّ هدفنا الأساسي حماية هؤلاء الأطفال من الضياع وتحويلهم إلى مواطنين يبنون ولا يهدمون، وقد رأينا الاستخدام السيئ لبعض هذه الفئات أيام الفوضى عقب الثورة، حيث تم استئجارهم لتدمير المرافق العامة وتنفيذ مخطّطات تضر بمصلحة البلاد والعباد.
وتؤكد الدكتورة آمنة أنّ لا مانع من طرح القضية على مجلس النواب بعد تجميع أكبر قدر من المعلومات عنها وعن الإيجابيّات والسلبيّات في هذا المقترح، الذي فيه بعض الوجاهة والعقلانية، لأنّ المصلحة العامّة فوق الجميع، ولهذا يجب دراسة القضية بتأنٍّ، خصوصاً أنّ موضوع الولاية على الطفل ملحوظ في قوانين مختلفة، كالقانون المدني وقانون الأحوال الشخصية وقانون رعاية الأحداث وقانون العقوبات وقانون حقوق الطفل، وغيرها من القوانين.

ضوابط الولاية
يتحفظ الدكتور أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر، على ربط الولاية على الأطفال بالإنجاب فقط، رغم أن الأصل في الولاية التي يقصد بها العناية بالطفل، ومن مظاهرها إطعامه وتوفير السكن والكسوة المناسبة له، وعلاجه وتعليمه وتدريبه على المهنة التي يرغب الأطفال في الاشتغال بها عندما يكبرون، إذا لم يكن من محبي التعليم الأكاديمي.
ويتساءل: «هل هذه الأمور موجودة في أسر هؤلاء الأطفال ممن يتمسكون بحقهم في الولاية الأبدية؟، ولهذا يبحث الشرع عن مصلحة الطفل أولاً، فإذا لم تكن هناك أسرة طبيعية مستقرة تقوم بالولاية على الطفل، فإنّ الشرع أباح نقلها إلى شخص آخر من قرابته، فإذا انعدم الشخص أو من تتوافر فيهم شروط الولاية، تكون الدولة الولي لمن لا ولي له، لأنّ السلطان وليُّ من لا وليَّ له، كما اتّفق على ذلك الفقهاء القدامى والمعاصرون».
ويلفت الدكتور عمر هاشم، إلى أنّ الطفل أمانة عند الوليّ، أياً كان هذا الوليّ، ويجب على الولي أن يؤدّي حقّه على من اؤتمن عليه، ويكون ملزماً بالإنفاق والرعاية والاهتمام، وسيحاسبه الله على ذلك، وأيضاً على القضاء الحكم بالعدل لمصلحة الطفل، حتى ولو كان بسحب ولاية والده عنه، لقول الله تعالى: «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً» (سورة النساء: آية 58).

رفض مشروط
يرفض الدكتور جمال فاروق، عميد كلية الدعوة في جامعة الأزهر، أن يكون الحلّ سحب الولاية من الأسر المهملة، بل يجب أن يكون الهمّ الأول للدول هو رعاية هذه الشريحة من الأطفال في أسرهم الطبيعية، وتقديم الدعم المادي والتربوي والمعنوي لهم، حتى يتحوّلوا إلى أسر صالحة بعد مساعدتها على حلّ مشكلاتها.
ويوضح الدكتور جمال، أن سحب الولاية من أسر الأطفال بلا مأوى وإعطاءها للدولة، لن يساهما في حلّ المشكلة على نحو جذريّ، بل إنهما سيؤدّيان إلى مشكلات أخرى، خصوصاً أنّ مؤسسات الدولة نفسها مكتظّة بأمثال هؤلاء، وتعاني الخلل التنظيمي وقّلة الدعم المادي.
ويطالب الدكتور جمال بعرض القضية على مجمع البحوث الإسلامية وهيئة كبار العلماء في الأزهر، لبيان الحكم الشرعيّ، خصوصاً أنّ الاقتراح فيه شبهة وجدل من الناحية الشرعيّة، وقد نهانا الإسلام عن الشبهات، إذ يقول رسـول الله (صلى الله عـليه وسلّم): «إنّ الحلال بيّنٌ وإنّ الحـرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعـلمهنّ كثير من الناس، فمن اتّقى الشبهات فـقـد استبرأ لديـنه وعـرْضه، ومَن وقَع في الشبهات وقَـع في الحرام، كـالراعي يـرعى حول الحمَى يوشك أن يرتع فيه، ألَا وإنّ لكلّ ملك حمى، ألا وإنّ حمى الله محارمه، ألا وإنّ في الجـسد مضغةً إذا صلُحـت صلح الجسد كلّه وإذا فـسـدت فـسـد الجسـد كـلـه، ألَا وهي الـقـلب».
وينهي الدكتور جمال كلامه، موضحاً أنّ الإسلام يستهدف منع الضرر، لقول الرسول (صلّى الله عليه وسلّم): «لا ضررَ ولا ضرار»، لكن هناك ضوابط شرعية لمنع الضرر، وهذا ما نطلب من المجامع الفقهيّة بيانَه في هذه القضيّة الشائكة.

إزاحة الضرر
تشير الدكتورة فايزة خاطر، رئيسة قسم العقيدة في كلية الدراسات الإسلامية في الزقازيق- جامعة الأزهر، إلى أنّ القضية شائكة جداً، ولهذا لا بدّ من معالجتها بالحكمة، حتى لا تؤدّي إزاحة ضرر إلى ضرر أكبر. وفي الوقت نفسه يمكن تفعيل القاعدة الفقهية «درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح»، ولا شكّ في أنّ وجود هذه الفئة من الأطفال، بل الأسر بلا مأوى، مفاسده كثيرة، ولهذا يجب علاجه بحكمة وحزم.
وعن حكم من يعارض تنفيذ أحكام القانون، إذا أقر حق الدولة في سحب الولاية عنهم، تقول الدكتورة فايزة: «يجب شرعاً طاعة ولي الأمر طالما لم يأمر بمنكر أو يَنْهِ عن معروف، بل إنّ الله ربط هذه الطاعة بطاعته وطاعة رسوله (صلّى الله عليه وسلّم)، فقال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» (سورة النساء: آية 59).
وتؤكد الدكتورة فايزة أنّ عدم معالجة مشكلة أطفال الشوارع يؤدّي بالمجتمع إلى كوارث اجتماعيّة، لأنّهم بمثابة قنابل موقوتة لا بدّ من نزع فتيلها قبل أن تنفجر في الجميع، خصوصاً في ظل شدّة الغلاء الذي ينذر بثورة جياع، سيكون في مقدمهم أطفال الشوارع والعشوائيات وأُسرهم.

تمهيد
أما الدكتورة سامية قدري، أستاذة علم الاجتماع في كليّة البنات ــ جامعة عين شمس، فتؤكّد أنّ لا بد من أن نبدأ أوّلاً بحملة توعية شاملة، تنبّه من سحب الولاية من الأسر التي تهمل أبناءها، وستكون هناك مراقبة وحزم في التعامل معها، إذا لم تقم بالدور المنوط بها في ظلّ دعم ماديّ ومعنويّ وتربوي من الدولة لها.
وتوضح الدكتورة سامية، أنّ المجتمعات العربية قد لا تتقبّل هذا الأمر بسهولة، ولهذا يجب التمهيد له ليكون الحل النهائي إذا فشلت الأسرة في رعاية أبنائها، فيكون آخر الدواء الكيّ لعلاج هذا المرض المستأصل في جسم المجتمع.  وتنهي الدكتورة سامية كلامها، مؤكّدة أهمّية التدرّج في علاج هذه القضية بوسائل مختلفة، منها سحب الولاية من الأسر المفككة تماماً، والتي لا أمل في إصلاحها، في حين هناك أسر أخرى قابلة للترميم وإعادة أطفالها إليها، بدلاً من إبقائهم في الشارع.{