أبناء بلا أمهات

أبناء بلا أمهات,تجارب عائلية,ظروف الحياة,القاسية,انفصالهن,ظروف مادية,اجتماعية,الدعاوى,المطلقات,حضانة الأولاد,سن صغيرة,حالات اضطرابات,سلوكية,الجريمة,سكب البنزين,ابن الأثرياء,الصيدلانية,داء السرقة,عقدة,هبة محمود,الدكتورة سعاد صالح,سمير إبراهيم,أب وأم لابنتيه,عارف قاسم,قاطعت زوجها وولديها,الدكتورة باسكال فغالي,اضطراب الشخصية

مصر - (نسرين محمد) - غنى حليق - (لبنان) 06 أغسطس 2016

 أمهات كثيرات تجبرهن ظروف الحياة القاسية على التخلّي عن صغارهن، فبعضهن يتركن أولادهن بسبب انفصالهن عن أزواجهن، وأخريات حُرمن من صغارهن نتيجة ظروف مادية أو اجتماعية، وما أكثر الدعاوى في المحاكم التي تخسرها الأمهات المطلقات، وتؤول حضانة الأولاد للأب. لها التقت بعض الرجال الذين واجهوا تجربة الانفصال عن زوجاتهم وربوا أولادهم واحتضنوهم بعدما تركتهم أمهاتهم في سن صغيرة. كما رصدت حالات اضطرابات سلوكية لأبناء بلا أمهات وصلت ببعضهم إلى حدود الجريمة...


ابن السنوات الخمس سكب البنزين على جاره
قد يصل أثر ابتعاد الأم عن حياة صغيرها إلى حدّ ظهور طفل معقّد نفسياً، لديه سلوك عدواني قد يدفعه لارتكاب جريمة بحق نفسه أو بحق آخرين، كما حدث في منطقة عابدين في وسط القاهرة، حيث ارتكب طفل يبلغ من العمر خمس سنوات جريمة بشعة بحق جاره السوري، كادت أن تنهي حياته أثناء لهوهما معاً وتفوق الأخير عليه. الواقعة سجلها محضر شرطة حرّره والد الطفل الضحية الذي يعمل فني تركيبات أسنان، اتهم فيه طفلاً آخر يدعى سيد، عمره خمس سنوات، بمحاولة قتل ابنه إذ سكب البنزين عليه وأضرم النيران فيه، ونقل على أثر هذا الحادث الأليم إلى مستشفى قصر العيني في حالة صعبة بعد إصابته بحروق بليغة في الساقين. تحريات رجال الشرطة كشفت أن الطفل المجني عليه كان يلهو مع المتهم الذي سيطر عليه سلوك انفعالي، بسبب تفوّق الأول عليه، فتوجه إلى دراجة بخارية مركونة في الشارع، وسحب منها كمية من البنزين ألقاها عليه ليشعل فيه النيران محاولاً قتله، إلا أن أحد المارة سارع الى إخماد النيران التي كادت تلتهم جسد الصغير ونجح في إنقاذ حياته. سلوك سيد العنيف برّرته أقوال جدّته في تحقيقات النيابة، حيث أوضحت أن الصغير يقيم معها بعد انفصال والديه عقب ولادته مباشرةً، وزواج الأم بآخر، لتكون النتيجة طفلاً يعاني سلوكاً عدوانياً دفعه لارتكاب جريمة بشعة.

ابن الأثرياء تركته والدته وسافرت الى أميركا فأصبح عامل نظافة
قد لا تصدّق عندما تعلم أن هيثم، عامل النظافة الذي يتردد على أحد أحياء القاهرة لتنظيف السلالم فيها، هو ابن أحد الأثرياء. ليس هذا فقط، بل إن والدته هي الأخرى طبيبة في إحدى الجامعات الأميركية وتعيش في الولايات المتحدة الأميركية، وتحظى هناك بمكانة كبيرة، في حين يعيش هو حالة من الفقر المدقع والضياع بسبب أنانيتها المفرطة وبحثها عن ذاتها على حساب طفلها، الذي تركته قبل أن يكمل عامه الأول. والقصة كما يرويها هيثم بدأت في كلية الهندسة، حيث كان اللقاء والتعارف بين والديه ليتم الزواج الذي أسفر عن إنجابه، وتبدأ المشاكل بينهما في الظهور الى العلن، بعدما رغبت الأم في السفر إلى أميركا لاستكمال دراستها، في حين رفض الأب قرارها، ليقع الطلاق ويكون هيثم من نصيب والده بعد تخلي الأم عنه.
وجد الأب في والدته البديل لمطلقته، فعهد إليها برعاية صغيره الذي ضاق ذرعاً بحياته معها وهو في الخامسة من عمره، لقسوتها معه وسوء معاملتها له بسبب ما فعلته والدته في الماضي، في حين انشغل والده مع زوجته الجديدة التي رفضت وجود هيثم في حياتها، فاتخذ قراره بترك المنزل والرحيل. عاش هيثم في الشارع لفترة حتى استقر به الحال في أحد المساجد، بعدما وجد العطف من الإمام الذي تركه ينام ليلاً داخل المسجد، ويغادره في الصباح ليعمل في تنظيف أحد المطاعم المجاورة، قبل أن يدرك إمام المسجد الحقيقة ويذهب إلى والده لإعادته إلى المنزل، إلا أنه لم يمكث طويلاً وعاد مرة أخرى الى الشارع. حياة ضحلة عاشها ابن الأثرياء بعد انفصال والديه إثر خلافات كبيرة، حتى أنه كان يحمل مواد البناء على ظهره، في حين يمتلك والده واحدة من كبرى الشركات في مجال البناء. وعندما بلغ الابن سن السادسة عشرة، قصد والده بغية استخراج بطاقة تثبت هويته، لتنجح بعض المحاولات في إعادة العلاقة بينهما، إلا أن الوفاق لم يدم طويلاً، فكلاهما أصبح ينتمي إلى طبقة تختلف عن الأخرى، كما أن أبناء الأخير نبذوه من حياتهم، فهو على حد وصفهم مصدر للعار، لدرجة أنهم رفضوا حضوره جنازة الأب الذي توفي منذ أشهر عدة.

الصيدلانية مصابة بداء السرقة بسبب عقدة سبّبتها لها والدتها
وبعيداً من التشرد، قد يجد البعض في شخص آخر بديلاً للأم يحافظ عليه من الضياع، وفقاً لما ترويه سارة محمد علي، خبيرة العلاقات الأسرية، لكن تظهر نتيجة ذلك في بعض السلوكيات الشاذة كالكذب أو الرغبة في خداع الآخرين وإيذائهم.
تقول سارة إن من بين الحالات التي عرضت عليها كانت لصيدلانية تعاني سلوكاً متوتراً يدفعها إلى سرقة متعلقات الآخرين، رغم أنها تنتمي إلى أسرة ثرية جداً، لكن ظروفاً معينة عاشتها قد أوصلتها الى هذه الحالة المرضية.
تشير سارة إلى أنه من خلال دراسة الحالة، تبين أن الأم التي كانت تعمل في إحدى الدول الخليجية بصحبة الأب، اضطرت الى ترك الصغيرة مع خالتها لترعاها بعد أسبوعين من ولادتها، لئلا تفقد عملها الذي لا يسمح بوجود طفل رضيع، في حين اصطحبت معها ابنتها الكبرى، لأنها كانت تتركها بمفردها في المنزل.
ورغم العناية التي أولتها الخالة للصغيرة، والتي كانت تحبها أكثر من والدتها، لأنها انتقلت للإقامة معها وهي في العاشرة من عمرها، إلا أن هذا خلق لديها إحساساً بالاضطهاد جعلها تكره شقيقتها، بل دفعها إلى الاستيلاء على متعلقاتها وإخفائها تعبيراً عن ذلك، ليتطور الأمر إلى سرقة أصدقائها في مرحلة عمرية متقدمة.

هبة محمود: لم تستطع أن تعيل ابنتها فتخلّت عنها
وقد تضطر الأم مُجبرة للابتعاد عن صغيرها، كما تروي استشارية العلاج النفسي هبة محمود، من خلال استعراض إحدى الحالات المترددة عليها، وهي لطفلة في سن الخامسة عشرة تعاني كذباً مفرطاً، وبالبحث في ظروفها تبين أن والديها انفصلا وهي تبلغ من العمر شهرين، ولأن الأم عجزت عن تحمّل تكاليف نفقاتها المادية، اضطرت إلى التخلي عن طفلتها للوالد الذي كان ثرياً، وتزوجت هي بآخر لينفق عليها.
الطفلة عاشت مع زوجة أب كانت تفرّق في المعاملة بينها وبين أطفالها، فتولّد بداخلها نوع من المرض النفسي ظهر في صورة لجوئها الى الكذب بشكل مستمر.

الدكتورة سعاد صالح: رعاية المرأة لصغارها سبيلها إلى الجنة
تقول الدكتورة سعاد صالح أستاذة الفقه المقارن، إن رعاية المرأة لصغارها هي سبيلها الى الجنة مصداقاً لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «الجنة تحت أقدام الأمهات»، فماذا عن امرأة أضاعت طريقها الى الجنة، بعدما ميزها ربّها عن سائر خلقه وكرّمها. عندما سأل أحدُ الصحابة الرسول الكريم عن أحق الناس بحسن صحابته، قال عليه الصلاة والسلام: «أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك»، لذا فإن من تتخلى عن رضيعها هي امرأة ملعونة.
وتؤكد الدكتورة سعاد صالح إن الأولاد عطاء من الله، وقد أوكل الله إلى الأم والأب رعايتهم في الدنيا، لذا يجب أن يحسنوا الوكالة ويشعروا بكامل المسؤولية تجاههم، بعيداً من الأنانية وتفضيل الذات، والإنجاب قرار يجب على من يتخذه أن يكون على قدر المسؤولية، ويترفع عن كل الأمور التي قد تتسبب في حرمان رضيع من حنان والدته.

سمير إبراهيم: تخلت عن طفلتيها لتربكني وتضغط عليّ
سمير إبراهيم رجل مطلق ولديه طفلتان (الأولى في التاسعة من العمر والثانية في السابعة) يعمل على تربيتهما والاعتناء بكل تفاصيل حياتهما، بعدما تركتهما والدتهما وغادرت البلاد. يقول سمير: «تزوجت زواجاً تقليدياً وعشت مع زوجتي ما يقارب 7 سنوات أنجبنا خلالها طفلتين. كنت كل هذه الفترة أعمل على ترميم العلاقة بيني وبين زوجتي، وأحاول تحمّل تصرفاتها التي لا تروق لي، وعلى الرغم من ذلك لم أستطع الاستمرار بالزواج، فالمشاكل الزوجية بيننا كثرت وباتت تؤثر في جو المنزل وفي نفسية طفلتينا، هذا الوضع أتعبني وجعلني أفكر بضرورة الانفصال عن زوجتي، وخصوصاً بعد انعدام العاطفة بيننا. بدايةً، عارضت هي فكرة الطلاق وحاولت التمسك بزواجنا، ولكن بلا جدوى، فأنا لم أعد أستطيع تحمّل تصرفاتها، ولا تقبّل الاستمرار بهذا الزواج معها، ناقشت الموضوع معها وحاولت حلّه بطريقة حضارية واتفقت معها على كل شيء، الفتاتين، المهر، النفقة... وأبديت استعدادي لأي حل ودّي بعيداً عن المشاكل أو الدعاوى. فوجئ سمير بترك زوجته البيت قبل إنجاز معاملات الطلاق، وببقاء ابنتيه من دون أمهما معه، وأدرك أنها أرادت بتصرفها هذا إرباكه والضغط عليه، ليرضخ ويتراجع عن قراره، لكن الخطة لم تنجح وثبُت سمير على موقفه. يقول: «لم يكن الوضع سهلاً عليّ، كما لم يكن صعباً، فأنا لم تكن لديّ مشكلة بالاحتفاظ بطفلتيّ، هي أرادت (تربيتي) بهذه الخطوة لربما أتراجع عن الطلاق، لكنني تمسكت به أكثر. في البداية لامني الجميع، حتى والدتي خافت أن تكون هي كبش المحرقة وتُجبر على الاهتمام بهما ومساعدتي في تربيتهما، لكنني صبرت ولم أطلب منها هذا. لا أنكر أنني في البداية أُربكت وصُدمت، فانقلب برنامج حياتي إذ كانت السنة الدراسية في بداياتها والمدرسة بعيدة عن المنزل، وصار عليّ أن أهتم بالفتاتين وأُلبسهما ثيابهما وأوصلهما إلى المدرسة، ثم أرجعهما إلى البيت وأكمل العناية بهما وأتولى تدريسهما! كل ذلك يتضارب مع ظروف عملي... وزادت الأعباء عليّ ولا من مساعد. أمام هذا الوضع الطارئ كان لا بد من إحداث تغيرات سريعة وجذرية في شتى مجالات حياتي. تركت بيتي وشغلت غرفة عند أهلي كي أعيش فيها مع طفلتيّ، واستبدلت مدرسة البنتين فوراً بمدرسة قريبة من منزل أهلي، كما غيرت دوام عملي بما يتناسب ودوام مدرستهما ونقلت كل حاجاتنا الضرورية الى منزل أهلي».

أب وأم لابنتيه
يعيش سمير عند أهله منذ سنتين يقول إنهم قد يواجهون مشكلة اليوم في حال قرر الاستقلال، لأنهم تعودوا على البنتين اللتين أصبحتا جزءاً من حياتهم. أما بالنسبة إلى الطفلتين ووضعهما بعدما تخلّت عنهما أمهما فيوضح سمير: «بصراحة لم تجد ابنتاي صعوبة في الانفصال عن والدتهما، لأنهما كانتا معتادتين على المبيت عند أهلي فترات طويلة، ففي أغلب العطل المدرسية كانتا تمضيان أيامهما عند جدّهما وجدّتهما. وبالنسبة إلى علاقتهما بوالدتهما فقد حضّرتهما نفسياً لموضوع الطلاق والانفصال، وتقبّلتا الموضوع ولم تتأثرا كثيراً، وجلبت لهما جهازاً حديثاً للتواصل مع والدتهما والاتصال بها ساعة تشاءان، إلا أنهما قليلاً ما تتصلان بها لأنهما لا تحبان التحدث على الهاتف. بالنسبة إلي لا مانع لدي في لقائهما بها ولم أمنعهما». وها قد أصبح سمير الأب والأم والصديق بالنسبة إلى ابنتيه، وصارتا تتسابقان في الحديث معه والنوم بجانبه، وهو لا يستطيع فراقهما ولو لساعات.  لم يقع الطلاق بعد بين سمير وزوجته لأن مهرها مرتفع ولا قدرة له على ذلك، خصوصاً أن مسؤولياته تجاه الابنتين رتبت عليه الكثير من الأعباء المادية وأجبرته على صرف المزيد من الوقت والمال على حساب وظيفته ومهنته.

زياد ديراني: نظَّم حياته بما يتوافق مع تربية ابنته
يعيش زياد ديراني، ذو الخامسة والعشرين عاماً، مع طفلته الوحيدة البالغة سنة ونصف السنة منذ أن تركت الأم بيتها، وهو يحاول بشتى الوسائل الاهتمام بها ورعايتها وتأمين الحنان والدفء اللذين فقدتهما بفقد مصدرهما الطبيعي: الأم. «ليس من السهل على الرجل تربية طفلة لم تتجاوز سنتها الأولى بعد بمفرده»، يقول زياد، فالمهمة شاقة وتحتاج الى صبر وخبرة ووقت وأعصاب هادئة.
يروي زياد قصته مع زوجته التي تركت طفلتها ذات الستة أشهر ويقول: «تزوجت عن حب، وكنت وزوجتي نعيش كعاشقين، نخرج معاً ونعمل معاً ونحاول بناء بيت سعيد معاً. أعمل في ورش البناء، ألتزم الإمدادات الكهربائية فيها، وزوجتي كانت سيدة منزل فحسب، فلم أرد لها أن تعمل وتتعب، خصوصاً أنها حملت فور زواجنا. كانت هي تحب العمل والخروج من المنزل، ولا تطيق المكوث فيه فترات طويلة، وخصوصاً أنني أعمل طوال النهار خارج البيت ولا أعود إلا في المساء. كانت خلال فترة حملها تتأفف كثيراً من وضعها، ومن عدم قدرتها على الخروج دائماً بسبب مضاعفات الحمل المزعجة، وكنت أنا أخفّف عنها».
كما أنها لم تتقبل شكلها وهي حامل، وباتت تكره زوجها وتفتعل المشاكل معه كلما عاد إلى المنزل. بعد الولادة كانت متوترة كثيراً ومربكة، لا تعلم ماذا تفعل وكيف تتصرف مع الطفلة، رفضت طفلتها وامتنعت عن إرضاعها، وفضّلت إعطاءها حليباً اصطناعياً كانت تقول لي: «الطفلة كبّلتني وقيّدتني بالواجبات. أنا لم أكن أطمح لأصبح أماً فور زواجي، كنت أريد العمل وتحقيق ذاتي قبل الإنجاب.» كان زياد وفق قوله يحاول دائماً تهدئتها واستيعاب حالتها، وتأمين كل ما تحتاج إليه، كما كان يعِدها بأنها حينما تكبر الطفلة سيدعها تكمل دراستها وتتوظف.

في حضانة الأطفال
«لكنها كانت تتعامل مع الطفلة بفتور وعدم اكتراث، إلى أن جاء يوم طلبت فيه الطلاق وأصرّت عليه، ورحلت متخلّية عن حقها في حضانة ابنتها. كانت حجّتها أنها غير سعيدة وليست هذه هي الحياة التي تطمح إليها، هي تريد العمل وتحقيق ذاتها».
ويوضح زياد أنه حاول كثيراً إقناعها بالعدول عن الطلاق، ولكن عبثاً، فوافق هو واحتفظ بابنته ونظّم حياته بما يتوافق مع الوضع المستجدّ. بدايةً لجأ إلى أهله مستعيناً بهم في تربية طفلته، لكن عندما كبرت قليلاً وضَعها في حضانة للأطفال في النهار وتكفّل هو بالاهتمام بها بعد دوام الحضانة.
لم يكن سهلاً على زياد أن يأخذ دور الأب والأم معاً، لكن «ما من شيء صعب، وبإمكان المرء التحكم بحياته ووقته بما يتناسب مع وضعه، أعترف بأن وجود الطفلة في حياتي يعوق عملي في بعض الأحيان، لكن لا أسمح لهذا بأن يؤثر في علاقتي بابنتي أو يدفعني إلى التقصير نحوها حتى لو اضطررت إلى اصطحابها معي إلى العمل. بالنسبة إلي ابنتي حياتي وجزء مني ولن أتخلى عنها وسأربيها أفضل تربية».

عارف قاسم: تركتْ طفليها بعدما واجهْتها بأخطائها
عارف قاسم رجل في العقد الخامس من عمره، مطلّق ولديه شابان (الأول بعمر الثلاثين والثاني في السابعة والعشرين) ربّاهما وعلّمهما «بدموع العيون» كما يقول، إذ عاش في مقتبل عمره تجربة زواج فاشلة جعلته يعاني ويصارع وحيداً مع ولديه لسنوات.
يقول عارف: «تزوجت زواجاً تقليدياً من فتاة جميلة جداً، وأسست معها عائلة وأنجبنا طفلين. في بداية زواجنا كانت قانعة راضية، لكن بعد فترة بدأت تتطلب وتطمح لتغيير المنزل وشراء الأثاث الفخم والأزياء والمجوهرات. ولما كان وضعي المادي متوسط الحال، حاولت تطوير مدخولي عبر زيادة ساعات عملي لكي أرضيها وألبّي طلباتها، وكانت كلما أقدم لها تطلب المزيد، ففكرت بالسفر والبحث عن عمل أفضل ينقلنا نقلة نوعية من الحالة التي نحن فيها إلى حال افضل. وحين لم أوفّق، بدأت تثور وتطالب بإيجاد حل يرضيها، كنت أؤمّن لها كل احتياجاتها وأعمل ليل نهار لكي تفرح وتهتم بالاولاد وببيتها، إلى أن بدأت تفتعل المشاكل وتزيد في طلباتها، وكانت كلما رفضتُ لها طلباً أو عجزت عن تأمينة غضبت وتشاجرت معي وهددت بترك المنزل، ثم راحت «تحرد» عند أهلها وتعتكف لحين تأمين ما تريد.
يعترف عارف بأنّه أحب زوجته كثيراً وأنه كان يعمل بأقصى طاقته لتلبية حاجاتها، لكن في الوقت نفسه كان يشعر بالتعب كمن يلهث وهو يركض وراء هدف كلما حصل عليه جاء هدف آخر، خصوصاً أن له ولدين بحاجة إلى مصاريف مختلفة اهمها الاقساط المدرسية والثياب وغيرها من المتطلبات، ولا يمكنه حرمانهما من حاجاتهما لكي يلبي حاجاتها. يقول عارف: «كنت أقدم لها كل ما تريد، وعلى الرغم من ذلك تتأفف وتتذمّر وتفتعل المشاكل إلى درجة لا تحتمل، وفوق كل هذا كنت أحاول استيعاب حالتها عبر تهدئتها حيناً والثورة عليها أحياناً. وذات مرة طلبت مبلغاً كبيراً لتشتري ثياباً جديدة، ولم أستطع تلبية طلبها لأنني كنت قد أنفقت أغلب ما لدي في تسديد الأقساط المدرسية، فثارت وجُن جنونها وتركت المنزل بما فيه ومن فيه، ولم تكن هذه المرة الأولى التي تخرج فيها لأسباب واهية، فطفح الكيل وقررت ردعها وعدم الاكتراث بها، وعاند كل منا الآخر لدرجة دفعتها إلى التخلي عن الأولاد وطلب الطلاق كي تضغط عليّ وتجعلني أخضع لطلباتها».

قاطعت زوجها وولديها
لم يمتثل عارف لطلب زوجته، وبدل أن يخضع لها هذه المرة قرر الطلاق، فما كان منها إلا مقاطعته ومقاطعة ولديها اللذين لم يكن كبيرهما قد تجاوز السابعة من العمر. لكن الأب تحمل المسؤولية بدلاً من الأم المتخلية، فأدى دوري الأب والأم معاً. يقول عارف: «طلقتها وارتحت من طلباتها وحالات جنونها، فهي لو كانت تحبني وتحب ولديها لما تركتهما وهما في عز الحاجة لها ولرعايتها، ولكانت عادت أو امتثلت لتدخلات الأهل والأقارب في الإصلاح. موقفها هذا جعلني أكرهها وأنزعها من قلبي وأنظّم حياتي ووقتي بما يتناسب مع مصلحة ولديّ. قررت العيش مع ولديّ ومن أجلهما بمفردي، كانت البداية صعبة إذ كان الصغير «متعلقاً» بأمه، ولكنني بالصبر والمواظبة ساعدت الولدين على تخطي هذه المرحلة».
ربّى عارف ولديه بكل صبر، وعمل على الاهتمام بهما حتى وصلا إلى الجامعة وتخرّجا منها وتوظّفا، إذ أمضى حياته في الاهتمام بهما وبمستقبلهما متناسياً نفسه وحاجاته الشخصية، فكان نجاحهما نجاحاً له كما يقول، وتفوقهما تفوقاً له أيضاً.  لكن لماذا لم يتزوج عارف ثانيةً؟ يجيب: «كي لا تأتي امرأة غريبة تتحكم بهما أو تظلمهما فتتكرر التجربة. ثم إنني لم أجد المرأة التي تستطيع التعامل معهما بتجرد ومن دون انحياز. خفت من الزواج مرة أخرى كي لا أظلم زوجتي الجديدة أو أظلم أولادي أو كليهما».
لم يبق عارف من دون زواج، لكنه أقدم على هذه الخطوة بعدما زوّج ولديه واطمئن اليهما وعليهما، وفرح بأولادهما. يضحك عارف ويقول: «زوّجتهما وفرحت بهما، وبعدها تزوجت واهتممت بنفسي. أشعر براحة نفسية لأنني اطمأننت وأوصلتهما إلى بر الأمان».

الدكتورة باسكال فغالي: خلل معين يخرج الألم عن طبيعتها
ترى الطبيبة والمعالجة النفسية الدكتورة باسكال فغالي أن تركيبة الأم النفسية والعاطفية بشكل خاص تخوّلها أن تكون مصدر العاطفة والحنان، والجهة الحاضنة للأولاد، لأن هذه الميزة موجودة في تكوينها الفيزيولوجي والجيني، وهي، بشراً كانت أم حيواناً، معروفة بطبيعتها العاطفية ودورها الحاضن لصغارها. وتقول: «نحن نلاحظ كيف تحتضن أنثى الحيوان صغارها وتدافع عنهم وتهتم بهم وبتربيتهم وحمايتهم، كما تهتم أي أم بأولادها، لأن هذه طبيعة الأنثى عموماً».  وتضيف فغالي: «هذه طبيعة الأنثى ودورها ما دامت المرأة أو الأم تعيش حالة طبيعية، ولكن قد يحدث أحياناً خلل معيّن يجعل الأم تخرج عن طبيعتها وطورها فتتخلى عن دورها تجاه أولادها وتتركهم ولا تهتم بهم، صغاراً كانوا أو كباراً. وعادة يعود الانفصال والتخلي هذا لأسباب عدة أبرزها طبّي بحت. فقد تصاب الأم بحالة اكتئاب ما بعد الولادة فور إنجابها، وعادة تكون أسباب هذه الحالة نفسية وعضوية، إذ تصاب الأم باضطراب في الهورمونات نتيجة الولادة... وتُعرف هذه الحالة بما يسمى «البيبي بلوز»، وقد تتطور إلى حالة اكتئاب شديد تجعلها ترفض طفلها بسبب شعورها بالمسؤولية التي فُرضت فجأة عليها، فتجد نفسها غير قادرة على القيام بها ولا تملك القوة والقدرة على تحمّلها، فترفض وضعها هي وطفلها، وتشعر بالكره نحوه لأنه سبب حالتها هذه، وعادة تكون المدة الزمنية لهذه الحالة محدودة، تمر غالباً من دون علاج. ولكن قد تتفاقم هذه الحالة لدى بعض النساء وتشتد وتحتاج الأم الى مساعدة اختصاصي نفسي وعلاج خاص ليساعدها على تجاوزها، خصوصاً إذا بقيت فترة طويلة». وتفيد فغالي بأن هذه الحالة غير خطيرة ويمكن معالجتها حتى تعود الأمور الى مجراها الطبيعي.

اضطراب الشخصية
وعن الأسباب الأخرى التي قد تدفع الأم إلى التخلي عن أطفالها، تقول: «هناك حالات أخرى تدفع الأمهات الى ترك أولادهن في مراحل متقدمة، كأن تكون الأم عانت كثيراً في زواجها وتعرضت لمشاكل وخلافات زوجية وتعنيف من الزوج بشكل لا يحتمل، وفي هذه الحالة تصاب الأم بحالة اكتئاب تسمى «الكاموفليه» تدفعها لترك أطفالها لأنها تريد التخلص من حالتها هذه بأي ثمن، لتقضي على العذاب الذي تعيشه، وتشعر الأم هنا برغبة في الهروب والاستسلام، إلّا أنها بعد فترة تعود وتفكر بأطفالها وتحاول استعادتهم واحتضانهم». أما السبب الأخير المحتمل والذي يدفع الأم إلى التخلي عن أطفالها فهو إصابتها باضطراب غير معلن في الشخصية، وعادة يكون هذا الاضطراب مخفياً ويتمثل بخلل في الشخصية وليس اكتئاباً ناتجاً من رد فعل تجاه واقع معيّن، وتسمى هذه الحالة «اضطراب الشخصية» الذي قد يدفعها الى ترك عائلتها والركض خلف هواياتها وأهوائها، أو أن تكون من النوع الذي يحب تحقيق ذاته، وفي هذه الحالة من غير الضروري أن تكون راغبة في الزواج، بل بالعمل وتحقيق الذات، فقد يكون العقل عندها غالباً على العاطفة. وعادة تكون علاقة أولاد هؤلاء بأمهاتهم مختلفة عن علاقات سائر الأولاد بسائر الأمهات، إذ لا يشعرون بعاطفة أمهاتهم، ولا بتأثرهن بهم وبأحوالهم. وقد تلجأ بعض الأمهات منهن إلى الضغط على أولادهن كنوع من الكيد لأزواجهن، كأن تضرب الأم أطفالها وتقسو عليهم، وتسمى هذه الحالة بـ«انعدام العاطفة»، إذ تكون عاطفة هؤلاء مفقودة وممسوحة من دماغهن. وهذا النوع عادة قليل حيث لا تشعر الأم بحزن أو خوف بسبب فراق أو حتى موت، فتكون العاطفة لديهن مكبوتة أو ميتة».
وتؤكد فغالي أن جميع الحالات التي ذكرتها: «الشخصيات المجرّدة من العاطفة بطبيعتها، الشخصيات المرَضية، الشخصيات التي تعيش حياة معذبة تدفعها لترك أطفالها، والشخصيات التي تحب بناء حياتها من جديد والعودة والاعتراف بالعائلة الأولى...» هي حالات خصبة للعلاج النفسي، إذ يمكن عبر العلاج مساعدتهن على تخطي الأزمات والتصالح مع صورة المرأة في داخلهن وإعادة تأهيل المنطقة الميتة في دماغهن. ويمكن عبر العلاج استخلاص القيمة التي ورثتها كل منهن عن صورة المرأة، ففي بعض الأحيان تكون الأنثى تنتقم من أمها عبر أولادها، إذ تكون صورة الأم لديها مشوشة، كما أن صورتها هي مشوشة، وهذا ما يجعلها ترفض الأمومة على العموم.
وأخيراً، ترى فغالي أن التحليل النفسي يفيد في معظم الحالات، أو يقدّم علاجاً ناجعاً، فهو يسلط الضوء على خيبات الأمل المعلّقة باللاوعي عندهن، والتي تمنعهن من التفاعل والعيش حياة طبيعية.