«الطفل الرجعي» وصورة الوالدين الملتبسة

الطفل الرجعي,شقيق,الطفل,المسؤولة,الأهل,الوالدان,ضعيف الشخصية,الأخت,مسؤول,المتابعة المدرسية,أهل

ديانا حدّارة 10 ديسمبر 2016

يفتخر هادي ( 9 سنوات) بشقيقه جهاد ( 25 عامًا)، فهو بالنسبة إليه مثاله الأعلى، يقتدي به ويحلم بأن يصبح شابًا مثله.
فجهاد مرجعه، وبيت أسراره الصغيرة البريئة. غالبًا هذا المشهد يبدو جميلاً ومطمئنًا بالنسبة إلى الوالدين طالما أن الشقيق الأكبر يهتم بهادي الصغير.
ولكن هل هذه استقالة لوظيفة الوالدين؟ وهل يجوز أن ينوب جهاد عنهما في وظيفتهما؟ وما هي المشكلات المحتملة التي قد يعانيها هادي؟


لماذا يفضل الأخ الصغير شقيقه الكبير أن يكون مرجعه وبيت أسراره وحلاّل مشكلاته؟
غالبًا تطلق صفة «طفل رجعي» على البنت أو الابن الذي وُلد بعد فترة طويلة من توقف الزوجين عن الإنجاب، وليس الطفل آخر العنقود الذي يكون لديه عدد من الإخوة، ولكن الفارق بينه وبين شقيقه البكر قد يكون عشر أو 15 سنة، وبالتالي يكون لديه شقيق قريب من سنّه ولا يتعدّى الفارق بينهما الثلاث سنوات. أما الطفل الرجعي فهو الذي نشأ في عائلة بينه وبين بقيّة أفرادها بعد زمني كبير، فهناك جيلان مختلفان في السن والأفكار والمعتقدات، مما قد يؤثر سلبًا في تربيته، ونشأته، وبالتالي في سلوكه الاجتماعي وأدائه المدرسي.
إذ إن صورة الوالدين بالنسبة إلى هذا الابن قد تبدو ملتبسة. فهو في مرحلة الطفولة وأثناء ذهابه إلى المدرسة يكتشف الاختلاف بين محيطه العائلي ومحيط أقرانه، ويسأل نفسه لمَ أهل أصدقائي شبان بينما أهلي لا! مما يؤثر سلبًا في نظرته إلى والديه.
ففي المدرسة مثلاً يلاحظ الفارق الكبير في السن بين والد صديقه الشاب الذي في مقدوره أن يقوم بنشاطات عدة معه، ووالده المسنّ الذي لا تكون لديه القدرة على تلبية حاجاته النفسية أو الترفيهية، لأن سنّه وصحته لا تساعدانه.
مثلاً لنفترض أن الوالد اصطحبه إلى النادي لمشاهدة مباراة في كرة السلة، فإن هذا الوالد قد لا يستطيع مجاراة ابنه الصغير، في التفاعل والهتاف، بل يكتفي بالمراقبة. لذا ففي غالب الأحيان، يتماهى الابن الرجعي بأخيه الأكبر، ويعتبره أقرب إليه من والديه ويصبح مثاله، والمرجع الذي يعود إليه ويواكب نموه الفكري والنفسي.

ولكن هل سن الوالدين المتقدّمة وحدها المسؤولة عن عدم وضوح صورتهما بالنسبة إلى الابن الرجعي؟
ليست ملاحظة الابن ومقارنته بين والديه وأهل أصدقائه وحدهما المسؤولتين عن تشوّه صورة الوالدين، بل الوالدان نفسهما. فهناك نوعان من الأهل الذين لديهم ابن «رجعي».
النوع الأول : الوالدان اللذان يفرطان في تدليل الطفل ويفتخران بأن لديهما ابنًا في مرحلة الطفولة، ويتعاملان معه على هذا الأساس حتى عندما يبلغ سن الرشد، لأنه يعزّز لديهما الشعور بأنهما لا يزالان صغيري السن، فلا يفسحان له في المجال لينمو ويتطوّر فكريًا، وبالتالي يربيانه على عدم تحمّل المسؤولية، وتدبّر شؤونه الخاصة، فيما هذان الأمران ضروريان في تكوين شخصية الطفل وتعزيز شعوره بأنه كيان مستقل عن الآخرين. وغالبًا ما يتحوّل هذا الطفل إلى مراهق وقح لا يكترث لمشاعر الآخرين.
أما النوع الثاني فهو الأهل الذين يتعاملون مع هذا «الابن الرجعي» بحزم وقسوة، ففي لا وعيهم يفكرون أن أبناءهم الآخرين قد كبروا، ولم يعد في مقدورهم التحكم فيهم، فيجدون في الابن «الرجعي» فرصة للعودة إلى ممارسة سلطتهم التي فقدوها مع مرور الزمن، فيمنعونه من التعبير عن رأيه ويحرمونه الكثير من الأمور التي يحوزها أقرانه، مما يؤدي إلى معاناة هذا الابن صعابًا نفسية سببها شعوره بالظلم، وبعدم وجود أحد يفهم اهتماماته ويشاركه أفكاره.
وفي الحالتين يواجه الطفل أزمة نفسية سببها عدم الثقة بوالديه. ففي الحالة الأولى لا يوجد من يقول له لا، فيما هو في حاجة إلى السلطة الواقعية كما تؤكد الدراسات التربوية، أي أن يعرف أن لكل شيء حدودًا، لأنه في حاجة إلى ذلك ليعرف كيف يبني شخصيته وحدوده الخاصة.
أما في الحالة الثانية فتؤدي السلطة العمياء إلى أن ينشأ الابن مكبوتًا لأنه لم يتح له التصرف بحرية، ويصبح مترددًا وقلقًا وضعيف الشخصية، ويلجأ إلى الكذب ليحمي نفسه ويخفي عيوبه، في الوقت الذي هو في حاجة إلى التعبير عن نفسه والوجود في محيط اجتماعي يسمح له بذلك.

ما هو دور الأخ الأكبر في حياة « الابن الرجعي» ؟
للأخ الكبير دور أساسي في حياة الأخ «الرجعي»، وهو دور يمكن تشبيهه بسيف ذي حدين، فقد يحتمل أن يكون إيجابيًا يساعد في تطوّره النفسي، أو سلبيًا يؤدي إلى مواجهة صعاب نفسية.
ويكون إيجابيًا مثل حالة هادي وجهاد، عندما ينظر الابن «الرجعي» إلى أخيه على أنه أقرب إليه من أهله، وبالتالي سوف يتعلّم منه الخصال الجيدة، ويلجأ إليهم عند الحاجة. فهو لن يلجأ إلى والده المسن لأنه يرى أنه لن يفهمه.
ففي المراهقة مثلاً، هل في استطاعة هذا الوالد مواكبته ومواكبة العصر الذي يعيش فيه، خصوصًا أن الفارق بينهما يتخطى الجيلين على الأقل؟ ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذه المشكلة لا تقتصر على الأهل كبار السن، بل أصبح الأهل الشباب يجدون صعوبة في مواكبة أطفالهم بمتطلبات العصر والمعلومات التي يحصلون عليها، فكيف بالوالدين اللذين هما أقرب إلى الجدّين من ابنهما؟ فضلاً عن أن الاستراتيجية التربوية المتّبعة في المدرسة، وطرق التعليم قد اختلفت. من أجل ذلك يلجأ إلى الأخت أو الأخ الأكبر.
وفي المقابل، يكون دور الأخ سلبيًا عندما يكون «الأخ الرجعي» في تواصل مستمر مع الراشدين من دون أن يكون له أصدقاء في سنّه.
فهذا الطفل يعيش في منزل كل أفراده راشدون، وهناك إمكانية مرافقة أخته أو أخيه الأكبر منه، والذي يكون قد تخطى مرحلة المراهقة إلى مكان لا يناسب سنّه ويتواصل مع أشخاص أكبر منه لديهم اهتمامات مختلفة جدًا عن اهتماماته، فيأخذ منهم عادات سيئة.
مثلاً قد يسمع منهم شتائم أو مشكلات خاصة بهم لن يفهمها أو يستوعبها، فضلاً عن أن إخوته قد يتذمرون من وجوده معهم طوال الوقت، فيشعر بأنهم يريدون التخلّص منه، وبالتالي لا أحد يكترث لوجوده. مثلاً قد يستاء الأخ الأكبر عندما تطلب منه والدته اصطحاب أخيه «الرجعي»، ويعترض بالقول لمَ علي اصطحابه فأنا لست في سنّه ولست والده.

إلى أي مدى يشعر الابن « الرجعي » بالظلم عندما يمارس كل فرد في العائلة السلطة عليه؟
أحيانًا يستقيل الوالدان من وظيفتهما الأبوية، ونسمع عبارة «لم يعد لدي القدرة على تربية الأطفال»، ويطلبون من الشقيق البكر الاهتمام بأخيه الرجعي، كما لو أنه هو المسؤول عن ولادته.
وفي هذه الحالة تتعقد المشكلة أكثر لدى الابنين معًا، الابن الأكبر يشعر بالغبن لأنه تحمل مسؤولية شخص لم يكن مسؤولاً عن وجوده في الأصل، مما يشعره بالنقمة على أخيه، والابن الأصغر تتشوّه لديه صورة الوالدين إلى درجة يعتبرهما غير موجودين، ويقول في نفسه: «لمَ أعترف بوجودهما في الوقت الذي نكرا فيه وجودي». فمن الصعب جدًا أن يشعر الابن باليتم المعنوي الذي هو أقسى من اليتم الواقعي.
مما يؤدي إلى انعدام شعور الابن «الرجعي» بانتمائه إلى عائلته فيبتعد عنها بطريقة لا شعورية لأنها لم تعد تمثل له أي مثال اجتماعي، ويصبح مجرد متلقٍ وليس فاعلاً، فتضعف قدراته التواصلية مع المجتمع.

أحيانًا يكون الابن الرجعي خالاً أو عمّاً لابن شقيق من السن نفسها ... ألا يسبب له ذلك إرباكًا حول هويته، خصوصًا إذا طُلب منه أن يكون مسؤولاً عن ابن شقيقه؟
في هذه الحالة، ثمة تأثير في الاثنين: الخال وابن الأخت. فالخال الصغير سوف يلعب مع ابن أخته ويجد شخصًا يشاركه أفكاره، فهو يريد أن يتواصل مع هذا الطفل على أساس أنه صديقه وليس ابن أخته.
وفي هذه الحالة، إذا استعمل سلطته تبعًا للمرتبة الاجتماعية فلن يمارسها في شكل صحيح، ففي الأساس هذا الابن سُحبت منه كل المسؤوليات، ولم يتح أمامه المجال، وكان دائمًا تابعًا لأحد ما في العائلة، ولم يعتد على المسؤولية، وفجأة يجد نفسه مسؤولاً عن شخص من سنّه نفسها، فنكون كمن أعطاه عصا سحرية لا يعرف كيف يستعملها.
كيف يمكن أن يكون مسؤولاً وهو لا يعرف معنى المسؤولية حتى عن نفسه؟ مُنح سلطة لا يعرف استخدامها. في النهاية، يريد أن يلعب معه ويشاركه همومه وأفكاره، ولا يريد أن يكون مسؤولاً عن شخص من سنّه.

أحيانًا يترك زمام المتابعة المدرسية للأخ الأكبر . إلى أي مدى يؤثر هذا الأمر سلبًا في الابن الأصغر لأنه في النهاية أخوه وليس أباه؟
عندما لا يتابع الأهل ما يحدث مع ابنهم في المدرسة بحجة أنهم غير قادرين على متابعة أدائه المدرسي ويلقون الحمل على الأخ الأكبر أو المدرسة، إضافة إلى الحكم على أن المشاركة في اجتماع الأهل لا تؤدي إلى نتيجة، يكون هناك تأثير سلبي.
فالدراسات أظهرت أن عدم مشاركة أحد الوالدين في اجتماع الأهل، وعدم متابعة أداء ابنهم المدرسي، يؤثران سلبًا في الاستيعاب عند التلميذ. هنا دور المدرسة أن تدعو الأهل إلى مشاركة ابنهم همومه ومشكلاته، وتنبههم إلى حاجته إليهم.
وفي كل الأمور التي تحدثنا عنها، نعود إلى الصورة التي كوّنها الابن عن أهله، هنا الوضع غير طبيعي. لذا يجب إيجاد حلول جذرية في الأساس عند العائلة بكل أفرادها، أي الوالدين والإخوة. ويجب التواصل مع الابن منذ الطفولة لا أن ينتظروا إلى حين يصبح في سن المراهقة وفجأة يقررون التواصل معه، ويقال له لا يجوز التعامل معنا بهذه الطريقة، وتصبح متابعته أمرًا محدثًا.

           
في المقابل،
هناك الكثير من الأبناء ممن يوصفون بـ «مفعول رجعي» نشأوا في شكل صحيح ونجحوا دراسيًا واجتماعيًا. وهذا يعود إلى وضع الأهل الاجتماعي والثقافي. فقد أظهرت الدراسات أن الأهل المتعلمين والمنفتحين على المجتمع، يتابعون أبناءهم بصورة مكثفة.
فإذا كان الأهل كبارًا في السن ولكن شخصيتهم منفتحة ومواكِبة للعصر، ولديهم روح الانفتاح الاجتماعي ويتواصلون مع أبنائهم، في هذه الحالة يكون الأثر إيجابيًا. والأهل لم يتخلّوا عن وظيفتهم بعدما كبر أبناؤهم الآخرون، بل على العكس يكونون متفرّغين أكثر لمتابعة الابن الأصغر، ويساعدونه بكل خبراتهم ويعدّلون تعاملهم معه ويصححون أخطاءهم التربوية التي ارتكبوها مع أبنائهم الآخرين. مثلاً إذا تعاملوا بقسوة مع أبنائهم الكبار، قد يصبحون أكثر مرونة مع ابنهم الأصغر. هنا يختلف الأمر بين أهل وآخرين. أمّا إذا كان الأهل غير منفتحين فكيف سيربّون من جديد؟