مناضلات من نوع آخر... أرامل شابّات في مواجهة الحياة!

مناضلات,أرامل,شابات,في مواجهة الحياة,صدمة الترمّل,دور المجتمع,المساندة,التحطيم,المصائب,فقدان,يتبدد,الحلم الجميل,الاستقرار,الحقيقة,مكسور,الجناحين,وجود,أولاد,إكمال,الأحيان,لينا هلال,أنجيل أبي عون,راميا شيبان كعيك

دينا الأشقر شيبان 24 ديسمبر 2016

لا تأتي المصائب فرادى! ولا شيء يعوّض فقدان شريك الحياة، وبخاصّة في مقتبل العمر...

عندما يتبدّد الحلم الجميل بالاستقرار والهناء، لتحلّ مكانه الحقيقة المرّة والوِحدة، يجد المرء نفسه مكسور الجناحين لكونه فقد نصفه الآخر. فالترمّل من أصعب ما قد يمرّ به أيّ إنسان، وبخاصّة المرأة، وفي حال وجود أولاد، ما يُضطرّها إلى تخطّي ذاتها، بغية إكمال الدّرب، بأقلّ أضرار ممكنة!

ففي الكثير من الأحيان، تقسو الحياة على الشّخص وتعاكسه بكلّ ما أوتي لها من قوة، لتجرّده من أبسط حقوقه النفسيّة والمعنويّة، وتسرق منه الفرح وتُرخي عليه بثقلها ليتخبّط في مواجهة مختلف تحدّياتها.


عندما يعقد شخصان قرانهما ويقرّران إكمال الحياة معاً، يخطّطان للمستقبل، ويرسمان الطّريق المؤدّي إليه ويحلمان ببناء أسرة وإنجاب أولاد... إلاّ أنّ كلّ ذلك قد يتبدّد بلمح البصر، عندما يخطف الموت أحد الطّرفين. ففقدان الزّوج فاجعة مزدوجة: هي صدمة بغياب الحبيب والصّديق والسّند من جهة، ومسؤوليّة ضخمة تفرض تحمّل الأعباء كافّة من جهة أخرى.
من البدهيّ أن تتبدّل النّظرة إلى الحياة بعد الاختبارات القاسية التي قد يمرّ بها أيّ أنسان. وغالباً ما يكون ردّ الفعل الأوّلي هو الاستسلام والانكسار! لكن المناضلات اللواتي نتطرّق إليهنّ لسن سوى جنديّات مجهولات، حاربنَ بكلّ ما أوتين من قوّة للوقوف شامخات واختيار المواجهة عوض الاستسلام. فـ»الأرملة» التي خسرت زوجها وفقدت الاستقرار والأمان، ترفض رفضاً قاطعاً أن تُصنّف «ضحيّة» مغلوب على أمرها، بل تأخذ على عاتقها مهمّة إكمال الحياة وتربية الأولاد وإعادة لمّ شمل العائلة.
تشرح الاختصاصيّة في علم الاجتماع راميا شيبان كعيك عن التحدّيات التي قد تواجهها الأرملة، وتكشف عن نظرة المجتمع إليها وعن مختلف الصّعوبات التي تعمل على تذليلها. كما تتكلّم على الانعكاسات النفسيّة المترتبة عن فقدان الشّريك وتربية الأولاد. وتدلي أرامل بشهادتهنّ الحيّة عن كيفيّة صمودهنّ ومتابعتهنّ لحياتهنّ وتربيتهنّ لأولادهنّ.

صدمة الترمّل
ممّا لا شكّ فيه أنّ صدمة الترمّل قاسية، مهما حاولنا التخفيف من وطأتها. فكيف إذا أصابت المرء في سنّ يافعة؟ تقول كعيك «إنّ أزمة الترمّل أشدّ وطأةً وعبئاً على الأرملة الشّابة التي تتعرّض للكثير من الأزمات والصّدمات المفاجئة بنتيجة فقدان شريكها، ما يؤدي الى صعوبات في الاندماج الاجتماعيّ، ويؤثّر في الرّاحة النفسية. إذ تجد نفسها فجأةً أمام مسؤوليّات إضافية تترتّب عليها، وبخاصّة عبء تربية الأولاد بمفردها! فتأخذ على عاتقها مهمّة تكريس حياتها لهم وتلعب دور الأمّ والأب معاً، في محاولة لسد الفراغ وتعويض النّقص في حياة الأسرة جمعاء».
وتضيف كعيك: «من البدهيّ أن تحاول الأرملة التأقلم مع وضعها الجديد بأقلّ ضرر ممكن، فتوفّق ما بين مصدر عيشها، أي عملها، وأسرتها، أي أولادها، في محاولةٍ منها للمضيّ قدماً. وغالباً ما نلاحظ عليها، إمّا انهياراً تاماً ورفضاً قاطعاً وعزلة وعدم استقرار، أو تماسكاً وقوّة وعزيمة ومثابرة. إذ إنّه عقب وفاة الزّوج، تنقلب الحياة رأساً على عقب، وقد تحتاج الأمّ إلى بعض الوقت للنهوض من مصابها الأليم ومعاودة حياتها شبه الطّبيعيّة».

دور المجتمع بين المساندة والتحطيم
تؤكد كعيك: «يلعب المجتمع دوراً أساسياً في مساندة المرأة أو في تحطيمها إثر ترمّلها. إذ إنّ الوعي والثقافة يضطلعان بدور كبير في تشكيل الصّورة الاجتماعيّة التي يكوّنها الأفراد، بحيث لا يتسرّعون في إطلاق الأحكام المسبقة»... موضحةً: «في المقلب الإيجابيّ، غالباً ما يلتفّ الأهل والأصدقاء حول الأرملة وأولادها للمواساة وإبداء التّعاطف ومحاولة تقديم المساعدة، معنويّة كانت أو حتى مادية، مما  قد يخفّف من وقع الفاجعة ويدفع بالأسرة الصّغيرة إلى محاولة التأقلم السّريع مع الحالة الجديدة المفروضة عليهم. إذ إنّ تفهّم مشاعر الأرملة وأولادها، ومراعاة وضعهم الخاص ومعاملتهم كأفراد متساوين في الحقوق والواجبات... أمور تساعدهم على التكيّف السّريع والاندماج في المجتمع وكسب نوع من الاستقلاليّة والاستقرار في الوقت عينه».
وأمّا في المقلب السلبي، فتقول كعيك: «قد يتحوّل المجتمع من جهة أخرى، رقيباً وحسيباً دائماً على المرأة وتصرّفاتها بعد فقدانها زوجها، ما ينعكس على أسرتها الكاملة بالطّبع. فكثرة الانتقادات والأقاويل والشائعات من شأنها أن تحطّ من قدر الأرملة وتدمّر رغبتها في متابعة حياتها. فالتدخّل الزائد في أدقّ التفاصيل، ومحاولة الأهل الهيمنة والسيطرة على تصرّفات الأرملة الشابة قد يخلقان نوعاً من النّفور لديها، ويولّدان أزمات نفسيّة إضافيّة جرّاء الضغط المتواصل الذي تخضع له يومياً».
ومن جهة أخرى، قد يؤثّر انسحاب المحيطين وابتعادهم تدريجاً عن الأرملة وأولادها نوعاً من العزلة والانطواء على الذّات. فبين نظرات الإشفاق وعدم الاستقرار الاجتماعيّ، يزيد الشّعور بالنّقص بسبب تصرّفات أهل الزوج أو حتى أهل الزوجة والمجتمع المصغّر».

تحدّيات الأرملة
لا بدّ من التّنويه بأنّ كلّ فرد مختلف عن سواه من حيث القدرة على تحمّل الضغوطات ومواجهة صعاب الحياة. ومردّ ذلك الى الشّخصيّة والتربية والبيئة الحاضنة والتجارب...
تقول كعيك: «يخلق غياب الزوج فجوة عاطفيّة ونفسيّة وماديّة وعائلة مهولة عند زوجته، التي غالباً ما تحاول استجماع قواها لتنهض بعائلتها. إذ نلاحظ قوّة عزيمة وإرادة صلبة تتمتّع بهما بعد خروجها من صدمة الفراق، لترفض أن تكون عالة على عائلتها، فتحاول التوفيق ما بين دور الأمّ والأب معاً، لملء الفراغ العاطفي والتّربوي الذي قد يشعر به الأولاد». في معظم الأحيان، تكرّس الأمّ حياتها لتربية أولادها، فلا شيء يؤنس وحدتها ويؤمّن لها الاستقرار مجدّداً أكثر من عائلتها الصغيرة، التي باتت تعتمد عليها في كلّ شاردة وواردة.
فبعد نوبات البكاء والقلق والأرق والاكتئاب النفسي والعزلة والانطواء والصّدمة والنكران والرّفض، تخلع الأرملة ثوب الثّكلى وتحاول بكلّ ما أوتيت من قوة لملمة جراحها النفسية والتكيّف مع وضعها الجديد.
وتضيف كعيك: «إنّ قوّة الإرادة التي تتمتّع بها الأرملة تدفعها إلى اعتناق حبّ الحياة من أجل عائلتها، فتنخرط في العمل وتتفاعل اجتماعياً قدر الإمكان لتأمين الشّعور بالاستقرار العاطفي والأسري والاجتماعي لأولادها. فتؤمّن لهم المدخول المادّي من جهة، وتعطيهم القوّة والإرادة للعيش من جهة أخرى. فتتعالى على جراحها وتستمدّ الصّبر والمثابرة من خلال الصّلاة والابتعاد عن مصادر القلق والتوتّر واكتساب معارف جدد ومعلومات جديدة، وتعزيز استقلاليّة عائلتها الصّغيرة».

شهادات حيّة


لينا هلال: لم أستسلم!

لينا هلال أرملة شابّة، ناضلت لتأمين حياة أفضل لأولادها الثلاثة بعد رحيل زوجها. فبعدما فقدت والدها في سنّ مبكرة أثناء الحرب في لبنان، تحمّلت مسؤوليّة أشقائها الأربعة ودخلت دار المعلّمين وعملت لتتمكّن من مساعدة والدتها في تربية إخوتها وتأمين مستقبلهم. وبعد زواجها، تحمّلت مسؤوليّات إضافيّة بحكم مركز زوجها آنذاك، لكنّها تمكّنت من التغلّب على الوضع القائم وتابعت تحصيلها العلميّ وأصبحت مديرة مدرسة قرنايل الرسمية. لكنها لم تنعم بحياة هانئة طويلة، إذ خطف الموت زوجها باكراً ووجدت نفسها أرملة شابة مع ثلاثة أطفال! تؤكّد لينا أنها لم تستسلم مرّة أو تضعف لأنها معتادة منذ صغرها على مواجهة الأزمات والتغلّب عليها. فلجأت إلى عائلتها لتنال الدعم المعنويّ، وناضلت طويلاً لتُبقي أطفالها على الطريق المستقيم. وقد كرّست حياتها لهم وواكبتهم حتى دخولهم الجامعات وحرصت دوماً على إبقاء صورة والدهم محفورة في أذهانهم. وتشير لينا إلى أنّها انكسرت سراً وبكت وتألّمت، لكنّها رفضت أن تستسلم لليأس والعزلة والانطواء. لكنّ الدّاعم الأساسيّ في محنتها هذه، كان أمّها وإخوتها، ما مكّنها من النهوض والمثابرة.

أنجيل أبي عون: هكذا ربيت وحدي أولادي السبعة
أنجيل أبي عون مناضلة من نوع آخر. هي اليوم في التاسعة والثمانين من العمر، وقد ترمّلت حين كانت في الثانية والثلاثين من عمرها. هي أمّ لسبعة أولاد وقد فقدت زوجها بعد إنجابها لولدها الأصغر بخمسة عشر يوماً! تقول إنّ وقع الصّدمة منعها بدايةً من الصلاة وفقدت الرغبة في العيش. لكنها سرعان ما تداركت الأمر وطلبت العون من الله، فقرّرت أن تربّي أولادها من عرق جبينها! هي أمّيّة، لا تتقن القراءة والكتابة، فما كان أمامها إلاّ اللجوء إلى الطبيعة والحقول للعمل في قطاف الزيتون حتى تتمكّن من تأمين لقمة العيش. تخبر أنجيل أنها تعذّبت كثيراً لأنها كانت تستيقظ قبل بزوغ الفجر لتعجن وتخبز وتطبخ لأولادها، قبل التوجّه إلى عملها. تشكر الله الذي منحها نعمة الصبر، إذ تعبت ولاقت على حدّ قولها. هي فخورة بأولادها السبّعة وقد ساعدتهم في بناء حياتهم، كما ساعدتهم جسدياً في بناء بيوتهم، فحملت معهم الأحجار! وتؤكّد أنجيل أن ما مرّت به صعب للغاية، لكنها ليست نادمة على كلّ التضحيات التي قدمتها، لأنها الآن مُحاطة بأولادها وعائلاتهم، وهذا مصدر سعادتها في الحياة!