إميلي نصرالله... راوية الزمن وناسه

إميلي نصرالله,راوية,الزمن,وناسه

إسماعيل فقيه - (بيروت 14 يناير 2017

حملت الروائية والشاعرة إميلي نصرالله الكلمات مثل مصباح وطافت بها في ليل الحكاية. هي اسم مميز ولافت في عالم الكتابة، فرواياتها الكثيرة وكتاباتها المتنوعة تشهد على خصوصية وقدرة ولغة متناسلة في ذاتها، في مكانها وزمانها، وتتشابك مع وعي الإنسان والمعرفة والحياة. أغلب كتاباتها تستغرق وتتوسع في مناخات الجمال الذي يرسم معالم المكان، ومسافة الزمان الممتدة بين حاضر ومستقبل وما بينهما. استغراقها صوفي ونابع من قلب يفيض بالمحبة والسعادة. وهي قبل كل شيء شاعرة تضخ الرواية بالمفردات المرهفة. ولأنها كاتبة كل الفصول، استطاعت تحديث المناخ بلغتها القديرة والفاعلة، وحديثنا معها يدل أكثر على هذا اللون الجميل في الكتابة، فماذا تقول كاتبة «طيور أيلول»، تلك الرواية التي رسمت في كلماتها نغمة الحياة وجغرافيا الزمن؟


- الكاتبة إميلي نصرالله روائية وشاعرة تستغرق في جماليات المكان استغراقاً صوفياً، مساحته القلب المنصهر في وجدان متحرك وفاعل... ما سر هذا العبق السحري في كتاباتك الروائية، وما سر كلامك الدافئ؟
لا بد من الكتابة، ولا بد من الكلمات المفتوحة على جمالية الحياة. بالنسبة إليّ، الكتابة هي سحر الوجود، كما أنها سر يحفظ هذا السحر. أرى الكتابة حركة جمالية بامتياز، تعطي الزمن مسافته الطويلة المزدانة بوردة متفتحة على مر الفصول... أنا روائية تكتب بروح شفافة وصافية، وتعتمد على لغة هادئة مألوفة لا تعرف التغريب ولا التكلّف، وتمضي إلى جمالها على جناح العفوية والثقافة المرتكزة على موهبة عميقة، تختزن معرفة واسعة. وما ذكرته في سؤالك ربما هو أمر قائم منذ تفتح وعيي الأول، حيث كانت البداية مع الكلمة. ودائماً تكون البداية هي الفعل الأجمل في حياة الإنسان، فكيف الحال بالنسبة الى الكاتب أو الكاتبة! نعم الكتابة هي زاد وطاقة وقوة لحياة المبدع، واذا ضعفت هذه الطاقة أو كلّت، هلك الكاتب، وما أصعب هذا الهلاك.

- بعد هذا العمر المديد، أين أنت اليوم، أين هي روايتك وماذا تقولين فيها؟
الكتابة هي ذروة الحياة. وكل رواية أكتبها هي بمثابة نشاط روحي لا يفارقني أبداً، بل يعزز لدي الأمل. لذلك أتواصل مع الكلمات بدون توقف، وأستعد دائماً لكل جديد في الكتابة. ورغم النشاط الروحي المتوقد في الكتابة، أجدني لا أزال عند نقطة البداية في الكتابة. البداية لا تتوقف، وتجعلني أنظر الى الأمام بعمق، الى المسافة الممتدة في كل اتجاه وفي كل مكان... أتلفّت حولي دائماً، وأحاول السير مع خطّ واضح رسمته لنفسي في بداية حياتي الأدبية، وأعتمد عليه بشكل أساسي ورئيسي. هو يلازمني أحياناً، وفي بعض الأحيان يغادرني ويتركني أتخبّط في الحيرة والقلق، وأصبح شاردة لا بل تائهة في بحار تأملاتي وتطلعاتي، فأقف دائماً أمام مرآة ذاتي لتصفية الحسابات مع كل كلمة وكل معنى يراودني. حساباتي كثيرة مع الكلمات، وكلما راقبت كلماتي، أجد فيها ما كنت قد فقدته أو نسيته في أرض المعنى والزمان.

- تكتبين الرواية منذ عقود، هل حققت التجربة الروائية هدفها في حياتك، وهل أمتعتك الكتابة بما يكفي؟
الكتابة هي كل المتعة. مهما شعرنا بلذة الكتابة، تبقى اللذة ضعيفة ونحتاج اليها أكثر. الكتابة هي أساس الفعل والوعي والحياة التي عرفناها، ولذلك تبقى الرواية التي أكتبها هي المسافة المشوّقة التي أسير على هديها... تبقى هاجسي ما دام القلم يطاوعني، والتوق إلى فتح أبواب المجهول يحثني على المضيّ قدماً. روايتي مدخلي الى عالم جميل لا أحب مفارقته أبداً. ربما لم أشبع من القول بعد، لذا أرى أن لمتعة الكتابة بقية، وعلينا مواصلتها حتى الرمق الأخير.

- إميلي الكاتبة القلقة والمثابرة على سؤال الزمن والحياة، هل ازداد قلقك اليوم؟
القلق مثل نبض القلب، لا يمكن أن يتوقف. لكن أكثر ما يقلقني هو أن يحين موعد الرحيل قبل أن أروي حكايتي الأخيرة. هذا قلقي الكبير وسؤالي الدائم لنفسي. ولكن الأمل أكبر، فكلما زاد القلق تضاعف الأمل، وهذا سر الزمن الذي فتح بابه لكلماتي.

- لماذا تواصلين الكتابة؟
أجد متعةً في الكتابة وهي تُشعرني بالرضا عن النفس عندما يحين موعد المحاسبة، كما تضعني على شرفة يمكنني أن أرى من خلالها الحياة بكل ألوانها وأشكالها.

- الحب الكبير حاضر ومستوطن في كتاباتك، ماذا عن هذا الحب الذي يبدو صافياً ومذهّباً في كلماتك، وكيف تنظرين إليه وإلى أين أوصلك؟
دعني أستحضر ما كتبته في روايتي «طيور أيلول». لقد رسمت حواراً يدور بين بطلتيْ الرواية: توجّه مارسيل سؤالاً إلى صديقتها منى: ولكن هل أحببت يا منى؟ فتردّ عليها بسؤال: أنا، هل أحببت؟ أنا، هل عشت لحظة بدون حب؟ يا لمارسيل الطيبة! وعندما تفرغ من هذا السؤال تردّ عليها بالقول: نعم، لقد أحببت كثيراً يا مارسيل، وكان الحبّ مصدر قوتي التي تعجبك. إن معاصر العنب تعجّ بالحياة في فصل الخريف، إنما للحب معصرة دائمة في قلبـي.
لكن كنا نختلف في أسلوب الحب يا مارسيل، ومنى هي أنا في تلك الرواية. ويمكن الإجابة عن هذا السؤال أن تكبر في تفاصيل الرواية.

- كيف تعيشين حياتك اليوم؟
أعيش حياتي بحلوها ومرّها، فقد جئت من القرية حيث لا يتوقف العمل في البيت أو في الخارج. وبعدما انصرفت إلى الكتابة والعمل الصحافي، حرصت على الحفاظ على عادتي هذه ولم أتوقف عن القيام بواجباتي المنـزلية والعائلية، رغم أنها تلتهم نسبة كبيرة من وقتي، لكن في الكتابة، لا شيء يذهب سدى، بل يتحول إذا شئنا إلى مصدر لتغذية القصة أو الرواية، التي لا يجوز أن تنقطع عن الحياة أو عن التجربة العملية والانسانية. ومن هذا المنطلق استطعت المزاوجة والمواءمة بين الحياة العامة والكتابة. وبصراحة، أجد متعة كبيرة في ترجمة الحياة العامة وصبّها في قالب روائي.

- ماذا عن الأمومة، وأنت الأم المبدعة والمثالية التي تدير شؤون عائلتها الكبيرة بنجاح؟
الأمومة لا تقل أهمية عن الكتابة في حياتي، وقد قالت لي الكثير الكثير. ولا تنس أنني أمٌ وجدّة في هذه المرحلة من العمر، ورغم ذلك لا أعتقد بأنني مثالية، بل أسعى في كل خطوة إلى تجاوز الأخطاء والهفوات ومحاسبة الذات. أنا ناقدة وصارمة مع نفسي.

- أوَليست الأمومة نعمة للإنسان؟
الأمومة هي فعل الحياة النقي والجميل الناصع بالمحبة... ولا شك في أن الأمومة هي إحدى النِعم التي جاد بها الخالق على الأنثى، وأحياناً أقول بين الجدّ والهزل: يا ليت هذا العالم الذي كان ولا يزال يتخبط في مشاكله، وفي مقدمها العنف، يا ليته يحكم بقلب الأم فقط، وليس بمنطق الرجال وطموحاتهم. حضرت الأم في كتاباتي كما هي، كما أراها وأحسّها وأعرفها، الأم التي ترى الحياة من عيون أعزائها وأولادها وخلاّنها. وأعترف اليوم بأنني أقدّم منطق الأمومة على سائر الأحكام والنظريات، في الكتابة، كما في شؤون الحياة. الأمومة هي احتضان العالم، ما يعني احتضان الحياة.

- هل تهتمين بالسياسة؟
أبداً، السياسة عالم لا يقاربني ولا أقاربه. لي عالمي الخاص، وأبقى الى جانب أهلي من العمال الكادحين.

- كيف تنظرين في مرآة تجربتك الإبداعية، وهل تندمين في مراحل معينة منها أو العكس؟
المرآة كبيرة، ودائماً ما أنظر اليها بشغف. من الطبيعي أن أستعيد تجربتي، ولكنني لست نادمة على أي خطوة خطوتها في حياتي أو في تجربتي الابداعية، إذ كنت أنقاد الى ما يمليه علـيّ حدسي وعقلي. ولا أقول إن الطريق كان ممهداً، فقد كانت حياتي صراعاً متواصلاً. المهم هو أنني راضية ومقتنعة وسعيدة جداً بتجربتي. القناعة تصب مباشرة في قلب المتعة، متعة التجربة والكتابة.

- هل ستتوقفين عن الكتابة؟
دعني أعكس لك شعوري الحقيقي: إذا كان في مقدور الإنسان التوقف عن الطعام والشراب طوال حياته، سيكون في إمكاني التوقف عن الكتابة... طالما ينبض قلبي بالحياة، لن يسقط القلم من يدي. سأستمر في الكتابة طالما أنها ليست ملزمة بنقطة أخيرة... في حياتي على الأقل.