الحوار الأخير مع الفنان التشكيلي وجيه نحلة: أعيشُ بهجة الألوان والأنوار... الحياة تلاوين نراقبها ونتزوّد من جمالها

الفنان,التشكيلي,وجيه نحلة,الألوان,الأنوار,الحياة

إسماعيل فقيه - (بيروت) 12 مارس 2017

كان من المفترض أن ننشر هذا الحوار مع الفنان التشكيلي وجيه نحلة (الذي رحل قبل أيام قليلة) في توقيت يتيح له قراءة ما باح به من شؤون وشجون الفن، في مجلة يكنّ لها، كما قال، كل المحبة. لكن الموت لم يمهله ولم يسمح له، ولا للمجلة، بتحقيق ما أراده وتمناه. فاجأه الموت، كما فاجأنا وأربكنا، أخذه الى قلعته البعيدة، وترك كلماته وألوانه في متناول البصر والسمع والإصغاء. كنت قد التقيته في مساء هادئ في قصر الأونيسكو في بيروت، في مناسبة ثقافية فنية حاشدة، وبعد انتهاء تلك المناسبة، انفردت بالراحل في مكتب داخل القصر، وباشرنا فوراً في هذا الحوار.


اللون المفتوح
اللون، أو النور الذي يرسم به لوحته، كما يقول الراحل الفنان التشكيلي النوراني وجيه نحلة، هو لون الحياة وما في داخلها وخارجها. اللوحة التي يرسمها هي لوحة تسعى الى بناء هرم الحياة تحت أنوار شاسعة. كما لو أنها درج يمكن الصعود إليه ومن خلاله الى أعلى مسافة في الضوء والزمن. ففي أغلب أعماله ولوحاته، رسم الفنان صورة النور المفتوح على الدهشة وأرفقها بنغمات لونية متتالية، وكانت هذه الألوان بمثابة الإيقاع الذي يدوزن لون المعنى ويحوله الى طرب منغّم يمكن سماعه بالعين أكثر من الأذن.
معارض كثيرة وأعمال متنوعة قدمها الفنان خلال مسيرته الفنية الحافلة منذ أكثر من نصف قرن. وحضرت لوحته وتربعت في القصور والمطارات والأماكن المحلية والعربية والعالمية، وكان لها النصيب الكبير من الجوائز المهمة. نجح في حشد الطاقة الإبداعية في داخله، ورفعها الى عنان التجربة الفريدة. واصل بناء المشهد اللوني النوراني الكاشف، الذي استطاع من خلاله ترسيم حدود جميلة للحياة.

وقائع الحوار
 تحدث الفنان الغائب عن لوحته التي تمثل ذروة الجمال الذي يسعى إليه، وتناول مشهد حركته اليومية والدائمة الهادفة الى إقامة مساحة الاتصال مع كل مبررات هذا الجمال. وكشف عن تفاصيل اللون الذي استطاع من خلاله بناء الحالة الإبداعية التي حرضته أكثر على الاجتراح والفن.
سألته عن لوحته التي حافظت على نشاطها اللوني ــ النوراني الذي لا تغيب عنه حيوية النغمة المرئية، وعن هذا اللون الذي بدأه، وكيف بقي فيه كمن يمكث في النور لتجرّع صيحات البهجة؟ فسارع الى الإجابة، تحدث بهدوء، وقال الكلام بنبرة اللون ذاته: «اللون الذي بدأت به أعمالي ولوحاتي أو مسيرتي الفنية هو لون يتحرك في الخط التصاعدي المنتمي الى المسافة المفتوحة التي لا تتوقف عند حدود ثابتة، ولا تتحرك إلا ضمن شروط النور وامتداداته في المكان والزمان. اللون الذي بدأته ليس هو نفسه الذي أستعمله اليوم حتى لو بدا كأنه هو، فمن يدخل الى تفاصيل هذا اللون وما يحتوي عليه من تناغم داخلي وأنوار مبتهجة سيكتشف سر الحضور اللوني الذي تعتمد عليه لوحتي. لوحتي هي المشهد المتنوع والذي يحوي مشاهد الحياة كلها، بنبرة نور، وأغلبها نور على نور، فكيف لا يتناسل اللون مع النور ويفتح أفق المسافة الكبرى. الحياة كلها ألوان ومهما غرفنا من هذه الألوان تبقى الحاجة إليها أكبر مما نظن ونعتقد، ومبدئي في الرسم واللون هو هذا التشابك اللوني الذي يؤسس لنور ثاقب تحتاج اليه الروح قبل العين والبصر».
- هل وصل الفنان نحلة بلوحته الى مسافة لا يمكن تخطيها أو القفز عنها، الى أين وصلت به اللوحة وألوانها وأنوارها، أو الى أين أوصلته هذه اللوحة في سلوك درب البحث عن جمال أو معنى أو حياة يمكن أن تتجسد في حركية منضبطة داخل الإطار؟
لا شك في أنني أبحث من خلال لوحتي عن تفاصيل الجمال وما يحويه من قدرات خلاّقة باهرة تساعد الروح على الأمل الدائم. لكنه بحث شاق ــ ممتع. البحث الذي أسير في مرتكزاته هو بحث عميق ويستدعي كل لحظات الزمن، وتالياً لا بد من تحقيق ما هو قائم داخل تلك الرغبة التي تدفعني دائماً الى الابتكار.

- الى أين أوصلتك هذه اللوحة؟
وهل من الضروري أن أصل؟ لقد أوصلتني اللوحة الى اللاوصول، الى حيث تكمن اللحظة المليئة بالحياة ومتطلبات هذه الحياة. وصلت الى الذروة، ذروة الحاجة، فالمتطلبات كثيرة ولا يمكن التوقف عند بعضها فقط، لذلك أجدني في دوامة الأمل الذي يقودني الى بناء اللون على أسس متعددة، وهذا أمر ضروري لامتلاك النغمة المتحركة داخل الحياة. ولوحتي تتكفل بهذه القدرة على العمل والتواصل مع كل مبررات الأمل والجمال، لبلوغ الذروة الجمالية والتي لا يمكنني إلا الدخول الى مباهجها عن سابق إصرار وتصور. الوصول لا يكتمل، واذا اكتمل فهو خروج الى أقرب، أو عودة الى أبعد.

- ولدى سؤاله عن الثوب الذي يحاول نسجه لهيكل لوحته، ومن أي نسيج خاص يأتي به، لابتكار ما ينوي ابتكاره؟
أجاب قائلاً: «عليّ أن اختار بين البهجة والبهجة، بين النور والأنوار، فأسير وفق شروط الدهشة، وأترك مفاعيل النور تحرّكني وتتبعني في نفس اللولب المتحرك على مساحة إقامتي وخيالي. وما عليّ الا الابتكار الخاص لتقديم الطبيعة وأنوارها على هيئة جديدة قد تكون بمثابة تغيير أو قلب لمفاهيم اللون والجمال داخل العمل الفني، وخصوصاً داخل اللوحة وألوانها.

- لماذا دخلت في هذا اللون، وكيف؟
الدخول أو الخروج، إنها مسألة في غاية الجمال والأمل. حين دخلت الى عالمي اللوني، لم أكن أخطط لقلب المفاهيم وتحويلها الى مناخات أخرى. ولم أسع الى تركيب خطوات جديدة للحياة التي ولدت فيها. كل ما في الأمر، كل ما فعلته هو انني استطعت تدارك اللحظة والدخول الى أعماقها من خلال هذه الألوان، هذه اللحظة التي تحوي مشهد الحضور والغياب في حياتنا وأيامنا وأحوالنا. وحين تعمقت كثيراً وتداخلت أكثر في مباهج هذه الألوان وجدت نفسي في مساحة لونية ربما هي مساحة خاصة وجديدة ولم تتعود العين بعد على حركتها اللولبية. والأهم هو أنني رسمت خط الأفق الذي هو بمثابة الولادة المتجددة لكل فكرة تنتجها لحظة الحياة المعيوشة.

- أنوار وألوان وأفكار ومواضيع ومشاهد كثيرة رسمتها، وكان للمرأة أيضاً هذا الحضور الخاص في لوحتك، ما هذا الحشد الجمالي الذي تقصده في أعمالك؟
المرأة في لوحتي هي المرأة التي تعكس جمال الإنسان والحياة. وهج المرأة أو طيفها هو الزائر لموضوع المعنى الذي أتحرك من خلاله. فالحياة جميلة جداً بناسها، وأجمل ما في حياة الإنسان، هو جمال المرأة وروعة هذا الجمال.
تحضر المرأة في لوحتي حضور الوردة التي تحتاج اليها العين والروح، لذلك أجدني على تماس مباشر ودائم لبناء هذا التماسك والاتصال بين ما تبثه المرأة من جمال في الحياة وبين العين التوّاقة الى قطف مشهد الوردة التي تصنعها المرأة بحضورها والتي تصنعها أيضاً بغيابها. أما هذا الحشد الذي يتحرك داخل اللون واللوحة والفكرة والموضوع، فهو مشهد حضور خافت أردته، بنبرة نور، بنبرة لون، ليرى معي من أراد أن يرى، صورة ذاته، صورة الحياة بمباهجها السرية. 

- هل رسمت مشاهد الحياة المفصلية والأساسية ولوّنتها، أم  أنك ما زلت في المسافة المفتوحة؟ أو الولادة المتجددة؟
من الصعب جداً ختم اللون بنقطة لون نهائية. يستحيل على الفنان الوصول الى أهدافه الفنية الكاملة، لا يمكن امتلاك الحالة الجمالية كلها، مهما كان العمر طويلاً، ذلك أن جمال الحياة مفتوح الى ما لا نهاية، وكلما تقدم الفنان في مشاهد البحث والوصول، سيجد نفسه أمام مساحة مفتوحة على مسافات لا تنتهي. وهذه المسافة المفتوحة هي الأمل الذي يتسلّى به الفنان طوال حياته، ولن يجد نفسه خارج هذا السياق أبداً.

- هل ترسم بشكل دائم؟
بالتأكيد. ريشتي لا تتوقف، وإذا توقفت تصدأ يداي.

- الرسم نشاط يومي في حياتك؟
لا يمكنني مباشرة نهاري أو ليلي من دون أن أمتشق ريشتي ولو للحظات. الرسم هو حالة يومية معيوشة في حياتي، ولا يمكنني الخروج من هذه الحالة حتى لو قررت ذلك. من الصعب عليّ الخروج الى مساحة أخرى لا يكون للون والصورة والحركة فيها دور فاعل ومؤثر. العمل في اللوحة هو حاجة ماسة للعين والقلب والروح، فإذا توقف أحد هذه العناصر، تتوقف الحياة، بالنسبة إليّ، على الأقل.

- هل تعيش تحت تأثير اللون؟
أعيش بهجة الأنوار والألوان، حتى لو لم أدخل الى لحظة الرسم المباشرة عبر الريشة. أتأثر باللون طبعاً. أليست الحياة هي تلاوين نراقبها ونتزوّد بحركة جمالها؟

- كيف تفسر خيالك الذي يجترح ويبتكر عبر اللون واللوحة؟
ربما يصعب التفسير هنا، فلا يمكن تفسير النور إلا بالنور والأنوار، أي باللون والألوان. إلا أنني سأحمل في خيالي كل المشاهد وأسارع لاحقاً الى تدوينها في الإطار.

- كيف تعثر على المشهد لترسمه؟
أراه ويراني. يلاحقني المشهد وتلاحقني الحالة التي تشدني بجمالها، تلاحقني حتى في نومي، وكم أجد نفسي في أوقات كثيرة على موعد معها، كأننا تواعدنا مسبقاً.

- كفنان يرى ويتحسس أكثر من سواه، كيف ترى الجمال، وكيف تعرّفه؟
لولا الجمال لما عرفنا الفن. الجمال هو جوهر الحياة، من عرفه، عرف مباهج جمّة. ومن لا يعرفه، فقد غابت عنه حاجة تشبه الحياة نفسها.-