جبور الدويهي... يروي ما يريد أن يرى وليس ما يراه

جبور الدويهي,الكتاب,حي الأميركان

إسماعيل فقيه - (بيروت) 25 مارس 2017

يروي جبور الدويهي ما يريد أن يرى وليس ما يراه. يكتب ويروي ويقص، ويحاول أن يدخل الى بيت الكلام بخطوة هادئة، لا تلبث أن تليها خطوات متتالية سريعة، لكن غير متسرعة. وهو بذلك يخوض شروط الكتابة الوافية، وقد أخذته الكتابة الروائية الى «حي الأميركان»، حيث انطلق في بناء عمارته الأدبية الروائية، فماذا يقول لـ «لها» عن تجربته وعن تعبه قبل هذا البناء الأدبي وأثناءه وبعده؟


- جبور الدويهي، هل أنت راوٍ تروي ما ترى، أم تروي ما تريد أن ترى؟
بالطبع أروي ما أريد ان أراه وليس ما أراه، وهذا الخيار وطبيعته بين تفاصيل الأشياء والأحداث هو ما يحدد حساسيتنا وما يُطلق عليه أدبياً اسم أسلوبنا. فأنا كالآخرين أروي ما يستفزني، ما يدخل في أحاسيسي، والمحصلة هي هذا التلاقي المحتمل مع القارئ وذائقته ومشاعره. فعالم رواياتي هو عالم رغباتي وخيالاتي، وبهذا المعنى حتى الرواية الواقعية هي نتاج ذاتي، وهذا ما اختزله غوستاف فلوبير منذ زمن طويل يوم قال عن بطلة روايته: «إيمّا بوفاري هي أنا». 

- تروي سيرة من تاريخ، وتدخل في مناخها الزماني والمكاني كأنك تحفر وتنحت، لماذا هذا التركيز أو هذا التخصيص في سياق روايتك؟
أريد لرواياتي ان تحكي أحوالاً أعرفها عن كثب وأمكنة اختبرت هواءها وشخصيات تكون أليفة بالنسبة إليّ. وأعتقد ان «ترسيخ» الرواية في زمان ومكان محددين يُكسبها «صدقية» في لعبة الواقع والخيال اللذين تتحرك ضمنهما. ألجأ أحياناً الى المراجع التاريخية والوثائق، وفي أحيان أخرى كما في رواية «مطر حزيران»، أنهل من ذاكرة راكمتها على مرّ السنين، ما يتعلق بأحداث عشتها صغيراً وبقيت حاضرة في مرويات الأهل والأتراب بما فيها من تفاصيل ونظرة الى الآخر وتأويل وإغفال.

- «حي الأميركان» عمل روائي أتقنت بلورته، واستخرجت من أمكنته خصوصية لم يكن في مقدور أحد التعرف عليها، ما سر هذه العلاقة مع ذاك الحي، وكيف تعرفت عليه؟
مع تصاعد الظاهرة الجهادية، أدركت أنني أعرف عن قرب حيّاً في مدينة طرابلس اللبنانية يلتقي فيه البؤس والبطالة مع انتشار بعض النزعات المتطرّفة، وقد بات هذا التزاوج مشهداً مثيراً لاهتمام الجميع في العالم من إعلام ومسؤولين سياسيين. والواقع أنني تلقيت دروسي الابتدائية والثانوية في مدرسة «الفرير» المجاورة لهذا الحيّ، وكنت أتابع أخبار طرابلس التي درّست فيها وأقصدها يومياً. ومع شروعي في كتابة «حيّ الأميركان»، اقتربت أكثر من المكان الذي لا يمكن الوصول اليه إلا عبر الأدراج، وتحادثت مع شبان يدورون في فلك الحركات المتطرّفة، وراقبت يوميات الحياة والنماذج الاجتماعية، وقرأت بحثين على الأقل باللغة الفرنسية لميشال سورا وروجيرز حول الموضوع. 

- الرواية ربما كانت الأبلغ في تجربتك مقارنةً بالقصة التي كتبتها في بداياتك؟
تحرشّت بالكتابة السردية في بداية تجربتي من خلال القصص القصيرة «الموت بين الأهل نعاس»، لكنني شعرت بأن الرواية تسمح ببناء عالم متكامل فانتقلت بسهولة اليها وأطلقت العنان للعبة بناء الشخصيات وتوزيع الأمكنة ومتابعة مسارات الأحداث في الزمن، ولم أعد الى القصة القصيرة. في الحكايات القصيرة تحدث عملية فراق مع نهاية كل نصّ، سواء في الكتابة أو في القراءة، والكاتب وربما القارئ يميل الى العِشرة الطويلة مع الأماكن والشخصيات، وعليه يكون الفراق أصعب، كما يُروى عن ماركيز عندما رأته زوجته يوماً دامع العينين ففهمت ان «مئة عام من العزلة» انتهت وتوفيّ الكولونيل أوريليانو بونديا.

- لماذا تكتب، وهل تؤرشف روائياً، أي تكتب التاريخ الغائب أو الضائع، ولماذا اخترت هذا السبيل في الكتابة؟
ربما بسبب تأثري بالأدب الفرنسي الذي درّسته في الجامعة ويطغى عليه ما سمّي بـ«الرواية الواقعية»، فوجدت نفسي أنهل من تاريخ قريب أو من وقائع معاصرة تكون لدي القدرة على الإحساس بها عن كثب لأنني عايشتها او سمعت أخبارها. وفي كل رواياتي، أعتمد الأمانة التاريخية فأراجع وأبحث وأطلق في الوقت نفسه العنان لمخيلتي في تطوير الشخصيات والأحداث.

- نعرفك كاتباً يميل كثيراً الى الكتابة الفرنكوفونية، كيف تزاوج بين اللغتين، ومتى تشعر بأنك ملزم الكتابة بهذه اللغة أو تلك؟
أنا في الواقع مزدوج اللغة فكانت دروسي وتدريسي بالفرنسية وأحمل معي لغتي الأم حيث وُفّقت بأساتذة في مدرسة فرنكوفونية («معهد الإخوة المسيحيين» في مدينة طرابلس، وهو أقدم مدرسة أجنبية في المدينة) نجحوا في تقريبي من اللغة العربية الأدبية وسحرها، وكان أحدهم غالباً ما يوقف دروس القواعد الجافة ليلقي علينا قصيدة لبدر شاكر السياب او للأخطل الصغير. حاولت بدايةً الكتابة بلغة موليير، لكنني شعرت بالغربة، خصوصاً ان لأمكنتي الروائية وشخصياتي لغتها العربية، وهي قريبة أحياناً من العامية، كما أشعر بالقدرة على التنويع والابتكار تحديداً بسبب امتلاكي لغة أخرى. يبقى أنني ما زلت أكتب بالفرنسية عندما يتعلق الأمر بكتابة «عقلانية» أو نقدية، كما أفعل في ملحق «لوريان» الأدبي شهرياً.

- ماذا تريد أن تقول من خلال نصك الروائي، أتطلق موقفاً فكرياً فلسفياً، أم تطرح الأفكار كمحاولة اعتراضية على تاريخ لم يأخذ حقه في أقلام الكبار من الكتاب؟
لا أجيء الى الكتابة من فكرة أو تصور ذهني، بل من طريق صورة أو مشهد أو شخص أبني حوله وأكون مأخوذاً بدايةً بمتعة الكتابة وصناعة الحبكة وتسلسل السرد ورشاقته وتواصل الشخصيات، أي كل ما هو من صنعة الكتابة الروائية، وأسعى لتفادي الرسائل المباشرة التعليمية او التقييمية، فكرية كانت أو سياسية أو فلسفية. بالطبع، إن الإطار الذي اختاره لرواياتي ينضح غالباً، كما في كل رواية، بالمعاني والرموز وهي تحكي بحدّ ذاتها، وأترك للقارئ الخروج، مع متعته، بما يحدس به من معانٍ أو دروس إن وجدها. أحاول كتابة نص مفتوح قدر الإمكان وأصغي لاحقاً الى المراجعات التي تتناول الرواية بأبعادها المختلفة.

- الدم والموت والدمار والخراب... عنوان كبير لتاريخ حاضر نعيشه اليوم بكل أسف، هل لهذا الجحيم دور في تأسيس سياق ثقافي روائي كتابي، وما دور المثقف في التعجيل ببناء مشهد الخلاص، ولو بالكتابة فقط؟
ستكون لما نعيشه من خراب وانقلاب وحروب وثورات ترددات ستدوم لسنوات طويلة في المناخات الروائية العربية، ولا يمكن الكاتب المنتمي الى بلدان الشرق الأوسط اليوم أن يخرج من معادلة النزاعات المتعددة الأوجه التي يعاني منها، أو على الأقل يشهد عليها. ومن حيث أراقب أنا مثلاً الكتابات السورية والعراقية الراهنة فأراها مشبعة بهذا الزلزال وانعكاساته على مصائر الأفراد والجماعات، على الحياة العامة والعلاقات الحميمة... فالنزاع الأهلي و«الهويات القاتلة» طبعت ولا تزال غالبية النتاج الروائي اللبناني.

 - أين أنت من الحب، وأين الحب في حياتك وأيامك ومدينتك ومحيطك؟
لا يمكنني بناء رواية من دون أن تخترقها قصة حبّ. هو شغف لا أنجح في تفسير دوافعه او تفكيكها، يسكن الشخصيات ويغيّر مسارها. من «عين ورده» الى «شريد المنازل» وصولاً الى «طُبع في بيروت»... الحبّ في كتبي فعل جوهري، والمرأة العاشقة المعشوقة حاضرة بقوة. ففي أول قصة قصيرة كتبتها، أي أول نصّ سردي من توقيعي وهو بعنوان «الرجل الذي ذهب يبحث عن الروح»، تقع الفتاة في غرام شاب لا يلبث لأسباب غامضة أن يهجرها ويتيه في العالم فتُصاب الفتاة بمسّ من الجنون. فالحبّ ليس سهلاً، وهو كما جاء في أحد التشبيهات «صيد على علوّ شاهق».-