هذه قصّة بربارة نصار التي رفضت الموت إلى أن حققت «الحلم»!

قصّة,بربارة نصار,الموت,الحلم,المرض,صورة جميلة,المستشفى,أمثولة,العلاج,الإمكانات المادية,مريضة سرطان,الاحتفال,قمم لبنان,العلاج الكيماوي,نوبات كهرباء,العملية,علاج الأشعة,الفحوص الروتينية,الأطباء

كارين اليان ضاهر 01 أبريل 2017

لم تقف بربارة نصار في مواجهة مع المرض فحسب، لا بل تحدّت الموت نفسه بعدما أتى تشخيص الاطباء القاسي ليعلن أنها لن تعيش أكثر من شهرين. عاشت بعد التشخيص الأول 5 سنوات لتنشر رسالة شجاعة وتكون قدوة لكثر غيرها من المرضى ليتحدّوا المرض بقوة.
عاشت بربارة خلال السنوات الخمس حياة جديدة مختلفة وكأنها ولدت من جديد وانطلقت في الحياة وهي تحمل معها رسالة إلى العالم كلّه، هي رسالة شجاعة وأمل وفرح، فحتى اللحظة الأخيرة لم تتخلّ عن إيجابيتها وعن ضحكتها الجميلة التي لطالما تزيّنت بها حتى في اصعب اللحظات، حتى أنها أبت أن تفارق الحياة قبل أن تحقق «الحلم الكبير» فتوفيت بعد أيام معدودة من انطلاق الجمعية التي سعت جاهدةً إلى تأسيسها لمساعدة مرضى السرطان ودعمهم.

من اللحظة الأولى التي عرفت فيها بربارة نصار بمرضها المنتشر في جسمها، قررت أن تستفيد من كل لحظة تعيشها وكأنها أرادت أن تملأ الحياة بفرحها وجهودها فلا يترك غيابها فراغاً بوجود كل تلك الذكريات الجميلة والمؤثرة التي بقيت محفورة في قلب وعقل كل من عرفها.
فقد اكتشفت المرض وكان قد انتشر في أنحاء جسمها فأتى تشخيص الأطباء قاسياً لا يدعو إلى التفاؤل ولا يعدها إلا بشهرين تعيشهما مع عائلتها ومحبيها.
عن تلك المرحلة التي اكتشفت فيها إصابتها بالسرطان، يتحدث زوجها هاني نصار فيقول: «في عام 2009 وفيما كنا جالسين في المنزل، فجأة أُصيبت بربارة بكسر في عنقها ولم تكن تعاني سابقاً إلا آلاماً لم يظهر لها سبب.
وبعدما أجرت صورة شعاعية في المستشفى وغيرها من الصور والفحوص، تبين أنها مصابة بسرطان الثدي المنتشر في جسمها، ومصابة بكسر في القفص الصدري وكسور أخرى في العظام.
وعلى الرغم من أنها كانت قد أجرت الفحوص الروتينية، لم يظهر الورم لديها حينها، لكن تبين أنه لم يكن خطأ في التشخيص، بل ظهرت سابقاً في الثدي تكيّسات من المتعارف عليه أنها لا تتحول عادةً إلى سرطان، لكنها أًصيبت بالمرض رغم ذلك وكان من النوع الشرس للغاية فانتشر في جسمها بسرعة كبيرة حتى أصاب العظام، ولهذا السبب تعرضت لكسر بالغ في العنق وفي أماكن أخرى من جسمها.

تسلحت بالضحكة
ورغم صعوبة الوضع، لم تفارق الضحكة وجه زوجتي، بل تسلّحت بها حتى اللحظة الأخيرة لتتحدّى المرض والموت. دخلت إلى العملية ضاحكة وكأن شيئاً لم يكن على الرغم من ان العملية لم تكن سهلة وخضعت بعدها إلى العلاج الكيماوي وعلاج الأشعة.
ووفق تقدير الأطباء، لم تكن زوجتي لتعيش أكثر من شهرين. بعدها اتفقنا على القيام برحلة «العلم اللبناني» في كل المناطق اللبنانية لتشجيع مرضى آخرين يمرون بظروف مماثلة ولدعمهم وتزويدهم بالأمل وليكونوا أقوى من مرضهم. حضّرنا للرحلة طوال 6 أشهر قبل الانطلاق.
كنا نصل إلى الساحات في البلدات ونجمع التواقيع، وذلك على الرغم من الوضع الصحي المتأزم لبربارة والذي لم يكن يسمح لها بالتنقل الدائم.
كنا ندخل إلى البلدات ويكون في انتظارنا استقبال رسمي، ونقيم مركز استقبال ترتاح فيه بربارة ثم نعود إليها. لكن ما ليس سهلاً وفي الوقت نفسه يعتبر مشجعاً لكثيرين من المرضى الذين قد يشعرون باليأس في لحظة من اللحظات، معرفة أن بربارة أصرت على متابعة الجولة في 800 ساعة قيادة.
وفيما تبين في مرحلة من جولتنا وجود كتلتين في الثدي لا بد من استئصالهما والتوجه إلى المستشفى، رفضت وأصرّت على استكمال الجولة، ثم أجرت بعدها العملية وكان قد مر على تشخيص المرض لديها حوالى السنة ونصف السنة. كانت تخضع إلى العلاج الكيماوي أثناء الجولة وتتابع الجولة بعدها فنصطحبها إلى الطوارئ ولا ترتاح أبداً. كانت تصر على ان تعيش مرحلة المرض بهذه الطريقة لتتحدّاه بقوة».

تمسّك بالحياة
وفيما ساعد عزم بربارة وإرادتها الصلبة على استمرارها في الحياة، لم يحدّا من انتشار المرض في جسمها. وكان معروفاً من البداية أن المعالجة لم تكن ممكنة، إلا أن ثمة علاجات قد تعمل على وقف المرض أو إبطاء انتشاره.
كانت بربارة تستعين بجرعات المورفين لتتمكن من المتابعة وحتى لا تضعف أمام الألم. ويتابع هاني بالقول: «في إحدى المراحل كانت تعاني آلاماً شديدة أشبه بنوبات كهرباء في وجهها وفي رأسها لأن المرض كان قد أصاب ماء الرأس، وكان وضعها متأزماً جداً ولم تنجح مساعي الأطباء في الحد من صعوبة الحالة.
وكان العلاج الفيزيائي هو الحل الوحيد. عندها أتى وقع تقدير الأطباء أكثر صعوبة من المرة الأولى حيث لم يتوقعوا لها ان تعيش اكثر من أسبوعين. يومها أرادت زوجتي أن نودّع بعضنا في رحلة نقوم بها معاً كعائلة فسافرنا رغم سوء حالتها ورغم العلاج الكيماوي الذي تحصل عليه في المنزل بشكل عقاقير ورغم كميات المورفين التي كانت تتناولها لتتحمل الألم.
استشرت طبيباً عندها وقال لي إن سفرها ممكن، وأقصى ما يمكن فعله عندها هو أن أستقلّ أقرب طائرة للعودة إذا حصل مكروه. وبالفعل سافرنا، وكانت تنام في الغرفة فيما يستمتع الأولاد في الرحلة وهم سعداء بوجودها معهم وإن كانت في السرير. وكنا في المساء نصطحبها وهي على الكرسي المدولب في نزهة.
 وبعدها بسنة كان عيد زواجنا فصعدنا إلى أعلى قمم لبنان حيث التقطنا صورة مع تسجيل صوتي لها أرسلتهما إلى الطبيب الذي قدّر لها ألا تعيش أكثر من أسبوعين تذكّره فيهما بتشخيصه وتقول له في التسجيل إن الأعمار بيد الله.
كانت حينها حالتها صعبة وتعاني ورماً في ساقها فتوجهنا بسيارة رباعية الدفع إلى قمة «القرنة السوداء» المعروفة بطريقها الوعرة ووجود الثلج فيها حتى في ايام الصيف. لكن لحسن حظنا كان الثلج قد ذاب واستطعنا الوصول إلى اعلى القمة.
حتى انه قبل شهر من ذلك، أردت الاحتفال بعيد مبكر لزواجنا لأنني خفت ألا تكون بيننا لنحتفل به إذا انتظرتُ. فاجأتها به فيما كانت ترفض الحضور وكانت متعبة جداً وتحت تأثير كميات كبيرة من المورفين تصل إلى 240 مللغ، والتي تتناولها لتخفف من ألمها.
جمعت الأهل والاصدقاء من دون أن أخبرها وأقنعتها بالذهاب إلى السهرة وكانت أجمل مريضة سرطان في السهرة فلم تتوقف عن الرقص حتى أنني تعبت وجلست واستمرت هي في الرقص مع الباقين وهي بكامل نشاطها. فرحت كثيراً عندما رأت الكل في انتظارها وتفاجأت بهم.
وكنت قد تابعت يومها فيلماً مع ابنتي وابني فيه شهادات وقصصتها عليها، كما كتبت لها أغنية «طائر الفينيق» الذي لطالما شبّهتها به. كما وقّعت عندها أوراق الجمعية التي أرادت أن تؤسسها لتدعم مرضى آخرين بعدما رأت أصدقاء لنا يموتون لعدم توافر الإمكانات المادية للحصول على العلاج لتكاليفه الباهظة. اختبرنا ذلك، ونعرف كم أن العلاجات مكلفة ومن ليس قادراً على تحمّلها يموت، وأن من المؤسف جداً أن يموت الإنسان لعدم قدرته على تحمل تكاليف العلاج.
لكن قيل لنا إن الجمعية تحتاج إلى ما لا يقل عن 7 أشهر حتى تنطلق، لكنها في اليوم العالمي للسرطان وعبر شاشة التلفزيون وجّهت رسالة إلى الوزير تطلب فيها أن يحقق لها هذا الحلم.
في تلك المرحلة كانت حالتها في غاية الصعوبة وتعاني آلاماً شديدة فتضرر نظرها ولم تعد ترى بعينها. وفيما كانت حالتها الجسدية سيئة جداً، لم تتهاوَ روح بربارة وبقيت جميلة كما عهدناها».

إرادة حياة لا تتزعزع
لا يمكن ألا تبدو بربارة في قصتها هذه أمثولة وقدوة لكل من يمر بظروف مماثلة أو لكل إنسان يفكر بأن يضعف في مواجهة التحدي في أي وقت من الأوقات.
بعد يومين لا أكثر من رسالتها الموجهة إلى الوزير، أُدخلت إلى المستشفى بشكل طارئ وقيل إنها لن تعيش أكثر، فسجلت فيديو بصوتها تقول فيه: «لا تخافوا مما يقتل الجسد، بل خافوا مما يقتل الروح»، وطلبت أن يُنشر هذا التسجيل في مراسم دفنها. وفي الوقت الذي كانت فيه في المستشفى بين الحياة والموت، كانت تصر على النهوض بنفسها لتدخل إلى الحمام.
وبعد ذلك عادت وخرجت من المستشفى ثم تم التوقيع على العِلم والخبر للجمعية فتحقق حلمها الكبير. لكن بعد أيام ساء وضعها وتطلب إدخالها إلى المستشفى وكانت في حاجة إلى دم. وفي الطريق سألتها عما تريد وكان جوابها أنها ترغب في تناول الآيس كريم فوصلت إلى المستشفى وهي تأكله.
وكان الكل يعشقها في المستشفى لإيجابيتها الدائمة وحبّها للحياة ولضحكتها التي لا تفارق وجهها. عاشت بعد ذلك 11 يوماً وكان وضعها يسوء أكثر فأكثر».

صورة جميلة بعد الموت
استطاعت بربارة أن تترك أجمل الصور لعائلتها ولولديها ولكل من يحبها بعد موتها. ولطالما أرادت أن تترك ذكرى وصورة جميلة لها حتى بعد موتها.
عاشت بذلك 5 سنوات بعد أن توقع لها الأطباء الموت المباشر. ولعل إيجابيتها وحبها للحياة قد لعبا دوراً أساسياً في ذلك، إلى جانب دعم العائلة الذي يعتبر من العناصر الرئيسة التي لا بد من التمسك بها لمواجهة المرض.
فكيف للمريض أن يتمسك بالحياة إذا لم يجد إلى جانبه كل من يحبونه. كانت بربارة تقول دائماً: «الحب هو أهم علاج للمريض»، وهذا أمر لا مجال للشك فيه.
لم أتركها ولو للحظة، رافقتها في كل المراحل وعشنا كل الأعياد معاً واحتفلنا حتى في أصعب الأوقات، وهذا ما يسعدني ويفرح أولادي إذ استغللنا كل لحظة وأمضيناها معاً قبل وفاتها.
حتى أن وفاتها لم تشكل صدمة، لا لأن موتها كان متوقعاً، بل لأنها عاشت حياتها على أكمل وجه واستغلتها حتى اللحظات الأخيرة، وهذا أيضاً ما يعزّي أولادها الذين أمضوا أجمل الأوقات إلى جانبها وتقبّلوا موتها فأتى وقعه أخف.
وقد عرض عليّ اليوم تصوير قصتها فيلماً لأنها تستحق ذلك وأفكر حالياً بالأمر. ويكفي أننا اليوم وبفضل بربارة واندفاعها للمساعدة ولتأسيس الجمعية استطعنا مساعدة كثر من المرضى في تأمين العلاجات والاستشفاء بطرق عدة».
مما لا شك فيه ان قصّة بربارة تبدو بكاملها أمثولة يمكن تعلّم الكثير منها حول معاني الأمل والإيجابية، فلطالما كانت قدوة لكثيرين في المراحل التي مرت بها في مرضها وهي تتمسك بالحياة مستخفةً بتوقعات الأطباء، ومصرّةً على أن الله وحده يأخذ منا، ساعة يشاء، هذه الحياة التي وهبنا إياها ولا يمكن إنساناً أن يحكم في ذلك.