الشاعر شوقي أبي شقرا... يتذكر

الشاعر,شوقي أبي شقرا

إسماعيل فقيه - (بيروت) 08 أبريل 2017

شاعر من نسيج خاص جداً، لا يشبه أي شخصية أدبية جايلته أو سبقته أو تلته. شوقي أبي شقرا اسم لا يمكن المرور على ذكره من دون التلفت والانتباه والسؤال. من هو هذا الشاعر الغريب الذي يبدو أنه يغرّد خارج السرب، يمسك بلغته الخاصة الطرية المفعمة بكيمياء التحول والتواصل! لغة عربية متينة يكتبها أبو شقرا، لكنها ليست كاللغة العربية المتداولة في معاجم الأدباء والكتاب، رغم أنها تحمل حروف العربية على أصولها، لها قاموسها الخاص والفريد، وقصيدته تشهد على هذه الخصوصية، على هذا النأي بومضات وأفعال ومفاعيل متناسقة، تتضارب وتتدافع وتتناغم وفق إيقاعها المبرمج «شوقياً» فقط.


ولد  الشاعر شوقي أبي شقرا في بيروت، لكنه عاش طفولته في رشميا ومزرعة الشوف بسبب عمل والده في سلك الدرك، والذي فقده في سن العاشرة بسبب حادث سيارة. ويردد شوقي دائماً: «مات والدي متدهوراً في الوادي».
درس في دير مار يوحنا في رشميا، ثم التحق بمعهد الحكمة في بيروت، وتخرج فيه عام 1952.
كتب محاولات شعرية أولى بالفرنسية، ثم نظم قصائد عمودية. أما بدايته الحقيقية فكانت في إنجازه قصائد التفعيلة، قبل أن ينتقل الى قصيدة النثر في ديوانه الثالث «ماء إلى حصان العائلة».
أسس أبي شقرا «حلقة الثريا» مع ثلاثة آخرين هم: جورج غانم، إدمون رزق وميشال نعمة. وهو يعدّ أحد أبرز أركان مجلة «شعر» التي جمعت أدونيس، محمد الماغوط، يوسف الخال وأنسي الحاج، وقد عمل فيها سكرتيراً للتحرير. وحاز ديوانه: «حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة»، جائزة مجلة «شعر» في العام 1962. ترجم أبي شقرا نصوصاً لشعراء مثل: رامبو، لوتريامون، أبولينير وريفيردي.
أنشأ أبي شقرا أول صفحة ثقافية يومية في الصحافة اللبنانية، إذ عمل صحافيًا منذ العام 1960، وتسلّم في العام 1964 مسؤولية الصفحة الثقافية في جريدة «النهار» اللبنانية، التي عمل فيها نحو أكثر من أربعين عاماً. وأصدر مجموعات شعرية عدة، منها: «أكياس الفقراء»، «ماء الى حصان العائلة»، «سنجاب يقع من البرج»، «يتبع الساحر ويكسر السنابل راكضاً»، «حيرتي تفاحة جالسة على الطاولة»، «لا تأخذ تاج فتى الهيكل»، «صلاة الاشتياق على سرير الوحدة»، «ثياب سهرة الواحة والعشبة»، «نوتي مزدهر القوام»، و«تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة». وهو يستعد لإصدار مذكراته بعنوان: «شوقي أبي شقرا يتذكر... كلمتي راعية وأقحوانة في السهل ولا تخجل أن تتعرى».
اللقاء بشوقي فرصة ثمينة جداً، إن لم تكن نادرة. إنه الشاعر الوحيد الذي ما زال يقبع بين الكلمات على مسرح الحياة والشعر، بعدما غادره وغادر الحياة أغلب أبناء جيله... شوقي أبي شقرا في هذا الحوار.


- كيف بدأت مع الشعر والقصيدة. أما زالت قصيدتك تخرج وتدخل من المدخل والمخرج نفسهما واللذين اعتمدتهما في مسيرتك؟
أنا مقيم في العطاء الشعري، ودائم الحضور في القصيدة المتجددة. منذ بدأت الكتابة في القرن الماضي، منذ كنت تلميذاً في مدرسة الحكمة، عشت الحيرة على أيامي ومستقبلي، وكنت أنظر الى الحياة المقبلة بعين قلقة وحالمة. وما زلت الى الآن أسأل نفسي: لماذا كان الشعر يأخذني؟ لماذا كان مشواري في هذه الحياة؟
كان البؤس يحوطني بسبب غياب الوالد مجيد. ورأيت أن الشعر هو ملاذي، وفي قبضة يدي. أُتيح لي الشعر في باكر الأيام، ومنذ تلك الأيام خرجت مع أصحابي الى القصيدة والشعر، التقينا واجتمعنا وكتبنا. وكأن الصدفة لعبت دورها، إذ إنني التقيت ببضعة من الأصدقاء وأسّسنا حلقة الثريا: ميشال نعمة وجورج غانم وإدمون رزق وأنا. وقبل ذلك، لعبت قريحتي دوراً فاعلاً في انطلاقتنا الشعرية.
في مزرعة الشوف، في الصيف، هناك بدأ الشعر يراودني، وبدأ قلمي يخربش على الورقة والأيام... كأنني كنت في حينه أحتاج، بغياب الوالد والعاطفة، الى التعويض، الى الشعر، وكأن الشعر ينوب عن الوالد. كانت القصيدة ملجئي. القصيدة الأولى والتي كتبتها على الوزن، قصيدة عمودية. كل هذا كان قبل خروجي من الشوف ونزولي الى بيروت. القصيدة هي التي أنبأتني بالعيش، وعليّ أن أذكر أن السيد حسيب عبدالساتر ساعدني في انطلاقتي، وكنت أعرض عليه بعض نتاجي الأدبي والشعري في تلك الأيام من مرحلة الخمسينات. ولا أنسى فضل الكاتب الكبير فؤاد كنعان، لأنه فتح لي مجلة «الحكمة» لأكتب فيها، وكانت مجلة قيّمة وناطقة بالحياة اللبنانية والحياة الثقافية بامتياز. فؤاد كنعان هو الذي ساهم في كشف موهبتي الشعرية والثقافية وإبرازها.

- أين أنت اليوم... متقاعد، غائب، أم متفرغ للكتابة؟
بعد كل هذه السنوات، وبعد انقطاعي عن المهنة، أعيش اليوم حياتي على مهل. أعيش في نوع من الاطمئنان المعيشي. ولا تنس أنني كنت صحافياً، وكانت جريدة «الزمان» أول جريدة كتبت فيها. وفي ذلك الحين، برزت شخصيتي في الكتابة، ومن ثم أصدرت كتابي «أكياس الفقراء»، وكان فاتحة للمشوار الطويل والسليم... أنا اليوم أعيش بهدوء مع عائلتي، ومع الكتابة. متفرغ للكتابة، ولا شيء أقدر من الكتابة على تحقيق رغباتي وأفكاري وأحلامي.

- كيف تنظر الى تجربتك الشعرية وتباشيرها التي تتحدث عنها دائماً؟
تلك التباشير كانت منذ عام 1959. ومن يومها انطلقت الى الشعر والقصيدة والحياة. ثم تدرجاً وصلت الى مغارة علي بابا. نشرت «خطوات الملك»، وقبلها نشرت «أكياس الفقراء» عند الشاعر يوسف الخال. وعندما نشرتها كان التجاوب كبيراً معها، وأُعجب بها يوسف الخال، وآمن بها، وكانت قصائد الكتابين قائمة على التفعيلة... مشيت طريق الصواب في الكتابة، واهتديت الى الجديد. وما زلت الى اليوم في هذا المسير الجميل.

- اسمك مقرون بتجربة الحداثة الشعرية، وتجربة مجلة «شعر» أحدثت ثورة شعرية وأنت كنت من أبرز روادها، كيف تقرأ اليوم في هذه التجربة الفريدة؟
تحدثت كثيراً عن هذه التجربة، ولها فصول في كتابي المقبل والذي يصدر قريباً. ما يمكنني قوله الآن عن تجربة «شعر» إنها تجربة غنية وثرية بالشعر والفكر والأدب. وكنت أنا الفارس المضيء والمرشد الجمالي لها، وفق تسمية الشاعر محمد الماغوط. فقد عملت مديراً للتحرير في «شعر»، وكنت حارسها ومرشدها الجمالي والشعري والأدبي... كلهم عبروا مع حبر قلمي.

- ما جدوى الكتابة في حياتك؟
لا تنس أن والدي قضى بحادث سيارة، وتركني وإخوتي في قفص الطفولة والرعاية الواجبة وفي قفص المدرسة. هذا الخيط المأسوي للوالد قد أشعل فيّا نوعاً من الحنين والحزن الخفي، فاستمر الدفق العاطفي في ما بعد. وكانت الجدوى كبيرة في التعويض والتحصيل، حيث حلّت الكتابة بديلاً عن العاطفة المفقودة. لذلك حملت قلماً أحمر لوّن وأعطى وأكمل الهالة التي تلفّ قصيدتي منذ تلك الأيام.

- تتحدث بثقة كبيرة عن تميز قصيدتك؟
قصيدتي قائمة على حركة التطور والتجدّد. غيري من الشعراء كتب الوزن والقافية، وكنت على العكس من هؤلاء، حيث كتبت الموزون المتميز جداً. كتبت الوزن بإيقاع حداثي. كتبت الحرية، وعملت على دفع الجملة الشعرية الى ذروة الحداثة بنَفَس حداثي زاخم وهادئ وجميل. وصفني عبدالقادر الجنابي بأن قصيدتي تخلو من العيب الذي يعتري قصائد غيري. تجربتي فريدة منذ تلك المراحل التي عبرتها، وتعامل معها النقاد والأدباء بكل جدية.

- تجربة الصفحة الثقافية التي أطلقتها في ستينيات القرن الماضي، تجربة فريدة وكانت أساس المراحل الثقافية اللاحقة، كيف تنظر الى هذه التجربة اليوم؟
طبعاً هي تجربة فريدة وأساس متين في الصحافة الثقافية اللبنانية والعربية. بدأت العمل الصحافي في جريدة «الزمان»، ثم انتقلت، بدعوة من أنسي الحاج، الى جريدة «النهار»، لأن ملحق النهار كان بحاجة إليّ. عملت في الملحق وكانت لي فرصة للحضور والالتصاق بالواقع وبالقارئ، وحصل كل تواصل بهذا الأمر. وأذكر أن فرانسوا عقل (مدير التحرير في «النهار») أعطاني صفحة بيضاء، وجعلتها صفحة ثقافية يومية، وكانت توازي الصفحة السياسية. وتطورت الصفحة الثقافية التي ابتكرتها في بدايات 1964وصارت حلماً جميلاً ثم تطورت وجذبت الأقلام الكثيرة لكبار الكتاب والأدباء. وفي تلك المرحلة كانت الصفحة الثقافية زينة الجريدة وزينة الصحافة، بل خلقت عذوبة في المشهد الثقافي المقروء.

- هل أنت حقاً شاعر سوريالي؟
هذا كلام عمره بعيد. ولا تنس أنني نلت جائزة الشعر سنة 1962، وكانت السطوة الأسطورية محركنا في ذلك الزمن... في كتابي «ماء الى حصان العائلة» كسرت نمط الشعر ودخلت الى لغة وأسلوب جديدين، وأنزلت كل الصفات الحلوة في قصيدتي. وكانت مصدر وحي لي. كانت تجربة تنفذ الى كل مكان والى كل قارئ.

سمّوني السوريالي، الكاتب والناقد التونسي محمد علي اليوسفي كتب عن عيني الطفل وهما يطلاّن على السوريالية. أنا لم أضع قناعاً، لامست كل جميل في بلادي، ومارست الانفتاح على كل شيء، كأنني سوريالي.

- بلغت الثمانين... عندما تنظر خلفك، كيف ترى شكل هذا الزمن الغابر ولونه؟
بصراحة، أستغرب حالي بعد هذا العمر. وربما أنا خائف من حالي. ولكن هذا الخوف كان وبقي وسيبقى بمثابة خطوات الى الأمام، خطوات تجدّد وتطوّر... رأيت بلادي بعينين بريئتين، وما زلت أرى بلادي بعينين واعيتين. كيفما نظرت سأرى الزمن بالعين الباسمة، والكلمة النابضة بالجمال والسعادة.

- والحب في حياتك وأيامك؟
أحب بلادي، وأحب زوجتي وعائلتي وأولادي وأحفادي. الحب ليس موجوداً في علبة من ذهب أو في خزانة أو في عنصر جمالي آخر. الحب بأن تخترع به العاطفة والرغبات والمشاوير. الحب بأن تكون المرأة جميلة الجميلات. ولا تنس أنني أحب المرأة كثيراً، وأحبها في كل مراحل عمرها.

- المرأة جميلة وساحرة في عين كل شاعر... كيف ترى جمال المرأة؟
تعني لي المرأة الكثير. تعني لي أنها غير سوريالية. هي النعمة الحاضنة، وهي مثل قصيدتي تمشي على الأرض ورأسها مرفوع الى السماء.

- هل أنجزت مذكراتك؟
أصبحت على وشك الصدور. وقد كتبتها بلغة أدبية صافية. ولي فيها بعض النقد الأدبي، وقريباً تظهر ويتعرف عليها من ينتظرها.

- هل ما زلت تكتب الشعر؟
طبعاً. لقد أنجزت مجموعة شعرية جديدة وهي لا تزال محفوظة في الدُّرج، بانتظار الانتهاء من مشاغل صدور كتاب مذكراتي.

- لديك أحفاد اليوم، وأنت الشاعر الذي لم يشبع من والده «الذي مات متدهوراً في الوادي»، ماذا تقول عن هذا التحول في حياتك؟
نعم، صورة خسارة الوالد تبرز في حياتي قاسية ومؤلمة، أما أحفادي فإنني أقول (يضحك) أنا أشطر منهم، لأنني وصلت الى الابتكار والتجديد في وضح النهار. أحفادي هم عاطفة لي، عاطفة كبيرة جياشة في عمري، وهذه سنّة الحياة.

- الشعراء الكبار: نزار قباني، محمود درويش، سعيد عقل، عاصي ومنصور الرحباني، أنسي الحاج، جوزف حرب، ميشال طراد، جورج شحادة، ميخائيل نعيمة، عمر أبو ريشة، محمد مهدي الجواهري...، وأغلب هؤلاء الشعراء جايلتهم وعرفتهم، كيف تقرأ وترى مساحة غيابهم الممتدة الى حاضرنا؟
تلك هي الصدفة التي جمعتني بهؤلاء، وغالبيتهم كتبوا عندي في الصفحة الثقافية، وكانوا الأقرب الى روح الثقافة التي فتحت أبوابها في الصفحة. ماذا أقول عن غيابهم؟ لا شك في أنهم تركوا ظلمة تصعب إنارتها بسهولة. هكذا هي الحياة، موت وولادة والعكس بالعكس.-