منى السعودي: «أحيا لأنحت وأنحت لأحيا»

منى السعودي,نحت,الخشبي,الحجري

إسماعيل فقيه - (بيروت) 15 أبريل 2017

تحيا الفنانة الأردنية منى السعودي لتنحت، فتجسد الشكل (الخشبي والحجري) كما تراه عينها وكما يسمعه قلبها وروحها. تعيش لتنحت، وتنحت لتعيش. هكذا هي دائماً، كانت وستبقى، وستواصل بناء الشكل واستحداث الهيكل الذي يرضي نبض وعيها.

فنانة متميزة الخيال والفعل، تستعمل القوة البدنية والعضلية في سبيل الرهافة والشفافية الفذة. تطوع الصلب حتى يلين ويصير نسمة تدوم وتدوم. تنحت الشكل، تستولده من الحجر، ترسمه بالخشب والحديد، وترفعه الى أعلى النظرة.
للتعرف أكثر إلى أعمال الفنانة، وإلى أساس الأشكال التي تبتكرها وأسسها، التقينا النحاتة منى السعودي، وكان معها هذا الحديث المشوق.


- النحت، كيف اختارت منى السعودي هذا الفن الصعب ولماذا؟
النحت ربما هو عمل شاق وصعب كما تقول، لكنه بالنسبة إلي هو عمل هادئ ومريح ويساعدني على الراحة والاستراحة. وحين اخترت أن أكون نحاتة، اخترت طريقة في الحياة. ولكي تكون نحاتاً، ينبغي أن تكون عاشقاً للأرض وما عليها، وأن تلمس نبضها الحي... النحت لدي هو تجسيد للشعر، قول ما لا يقال، لمس ما لا يُلمس، هو الكلام الصامت، الحركة في السكون، الكشف والسر، الطيران بلا أجنحة، مزج الكوني بالأرضي، إدخال الزمن في المكان.

- كيف تبلورت مشاهد انطلاقتك مع الحياة؟
كانت عَمان (العاصمة الأردنية) حيث ولدت عام 1945، مدينة صغيرة نشأت على سفوح سبع تلال، بينها وديان وسيل ماء يتحول نهراً في الشتاء، وجدولاً في الصيف. قيل أنها كانت تُسمّى «ربّة عمّون»، ومن ثم فيلادلفيا في العهد الروماني. ثم هُجرت المدينة في القرن السادس عشر إثر زلزال وأوبئة، وغابت عنها الحياة والبشر، حتى أتاها في نهاية القرن التاسع عشر مهاجرون من الشراكسة وتجار قوافل من سوريا بدأوا يستقرون حول ينابيعها وآثارها المهجورة ويقيمون بيوتهم من طين وحجر... كنت ابنة عائلة هاجرت من دمشق واستقرت في عمان في ذلك الزمن. كانت اللهجة الشامية هي السائدة في عائلة كبيرة من الأعمام والخالات، عائلة تقليدية متدينة، إلا أنه كان لدي شعور عميق بأنني ابنة الأرض. كنتُ أنمو في حلم آخر، غامض وبعيد.

- كيف سطعت الصورة في مخيلة الفنانة النحاتة، وما الذي جذبك الى ما أنت فيه من اهتمام بالشكل والصورة والمشهد؟
كان من حظي أن أذهب باكراً الى مدرسة بعيدة عن البيت، فقد أتاح لي ذلك أن أمشي على قدمي يومياً ذهاباً وإياباً، وكنت أترك الطريق المعبدة وأسلك طرقاً ترابية عبر تلال عمان اللولبية، وكانت سفوح الجبال حقول قمح أحياناً، أو بقايا مقالع قديمة. وكان هذا السير يقربني من الشجر والأرض والحجر، ومن الناس والطبيعة، وكان مسافة للحلم والتأمل. بدأت أتأمل جسد الأرض، استداراتها، تداخل الوديان والجبال، أشكال الغيم، فجوات الصخور... هذا كله ساهم في تفتّح الوعي المبكر لدي. ثم بدأت أبحث عن منابع الإبداع الإنساني عبر كتب الفن والشعر. كما بدأت أدخل هذا العالم النابض، مع بداية محاولاتي في الرسم وكتابة الشعر. وبدأ الحلم بالسفر الى العالم الكبير، من أجل أن أحيا وأتعلم وأعرف. وكانت باريس مدينة هذا الحلم، وكان لا بد لي أن أكسر تقاليد العائلة وأمضي في طريق الحلم.

- هل شغلتك الأفكار القلقة في بداية تكوُّن وعيك الفني، وماذا تقولين عن هذه الأفكار؟
في طفولتي شغلتني أسئلة ميتافيزيقية عن الخلق والتكوين، من أين تأتي والى أين تذهب... عرفت الموت باكراً بفقدان أخي فتحي. كان شاباً مولعاً بالأدب والشعر، قرأ لي «نبي» جبران خليل جبران، أخبرني عن احتلال فلسطين، وحكى لي قصة جلجامش. كان هذا الأخ نسيجاً مختلفاً في عائلتنا التقليدية، وكان صديقي. كنت في العاشرة من عمري حين أخذه الموت بعد مرض غامض. حين سمعت بخبر موته في الصباح، غرقت في البكاء ولكنني حين رأيت وجهه مسجى في التابوت الخشبي، وكان مبتسماً كأنه ينام بعمق، عرفت أن الموت تحوّل وليس نهاية فاجعة، بل إنه من نسيج الحياة. تركت المأتم في البيت وخرجت أمشي في شوارع المدينة وسفوح التلال... وكان ذلك أول وعيي بأن الزمن الذي نعيشه هو رحلة  ونكون فيها نبضاً فاعلاً، وعلينا أن لا نخاف من المجهول، ونحيا في المغامرة والحلم والحرية.

- هل فتنتك الأعمال الفنية مثل المنحوتات التاريخية  الشهيرة وسواها؟
طبعاً. عشت هذا الشعور الكبير. فتنتني المنحوتات منذ طفولتي، وأول ما عرفت منها المنحوتات المبعثرة في ساحة المدرج الروماني في عمان، وكان ملعب طفولتنا. أما بيتنا، فكان جزءاً من الموقع الأثري المسمى «سبيل الحوريات»، الذي كان يشكل بأعمدته المنقوشة وأقواسه وينابيعه ساحة بيتنا الأمامية. لقد عشت طفولتي في مكان أسطوري، بين هذه الحجارة المنحوتة مسحورة بجمالها وديمومتها.

- لك منحوتات يظن من ينظر اليها أنها تتكلم وتتحرك، خصوصاً منحوتاتك «أمومة الأرض»، كيف تفسرين هذا؟
لا شك في أن المنحوتة المستخرجة من جوانية الإحساس لا بد أن تترك أثراً في عين الناظر إليها. أبعد ما أذكره في طفولتي، أنني كنت أذهب مع أمي لزيارة إخوتي في السجن، أحمل سلة فاكهة صغيرة، وأقف لأتحدث معهم من وراء القضبان. كانت أمي تبكي، وتهمس لي أنهم في السجن لأسباب سياسية تتعلق بفلسطين. بعد أشهر قليلة عام 1948، وصلت الى بيتنا عمتي وعائلتها، جاؤوا من غزة، وكانوا يحملون بضعة أكياس فيها حاجات وملابس، عرفت يومها أن الإسرائيليين قد احتلوا فلسطين وطردوا الناس من بيوتهم ووطنهم، وانتشرت مخيمات اللاجئين في أطراف عمان، وكان هذا أول وعي لي بالمأساة الفلسطينية، ومنذ ذلك اليوم تسكن فلسطين في قلبي ومنها ستولد منحوتاتي «أمومة الأرض».

- صداقة الحجر كيف يمكنك وصفها؟
عشت أكثر من نصف قرن مع هذا الفن، وما زلت أعيش في كنفه راضية مطمئنة. أحيا لأنحت، وأنحت لأحيا. مسيرة طويلة  مثيرة ورائعة ما زالت مستمرة مع النحت. مسيرة صداقتي مع الحجر والنحت. فقد أنجزت خلال هذه المسيرة مئات المنحوتات، لكني ما زلت أشعر بأنني في بداية الطريق وأن مخيلتي مليئة بالتكوينات، وأن الحجارة ما زالت حبلى بأشكال تولد في الأيام المقبلة.

- هل تعتبرين النحت الشكل الأجمل في الحياة؟
ربما يكون كذلك. وحتماً هو الجمال بعينه. النحت بالنسبة إلي هو بحث في الشكل، وهو توليد وبحث لا متناهيان، لأن إمكانات التشكيل لا متناهية، وإن كنا قد تعلمنا أن العالم قد تكون على أحسن صورة وانتهى، فقد علمني النحت أن الحياة والكون في استمرارية التكوين الدائمة. حتى أني عشقت كلمة تكوين وبدأت أمنحها للعديد من منحوتاتي.

- تنحتين كل يوم؟
أعمل عادةً في ساعات النهار، لمعالجة تكوين النحت في سقوط الضوء الطبيعي، حيث يتآخى الضوء والحجر، ويتكون نشيدي الحجري بين مطرقة الروح ورنين الإزميل، عزفاً يولّد من الحجارة مخلوقات تسعى في الأرض. ثم أنني أعيش دائماً بين منحوتاتي، تتناثر حولي، أحيا بها وتحيا بي، أتأملها كمخلوقات أليفة، أعرف كل لحظة من تاريخ تكوينها، منذ كانت حجراً في مقلع أو معمل، على طرف جبل أو في مجرى نهر، فيشكل تنوعها وتسلسلها تاريخ حياتي.

- هل من تأثيرات سلبية على الأنوثة حين تمارس القوة البدنية لتطويع الحجر؟
أعتقد أن النحت حين تمارسه المرأة، أي الأنوثة، فإن ذلك يجوهر أنوثتها ويجعل قوتها البدنية أكثر قدرة وحيوية، وتالياً أكثر أنوثة وأكثر جمالاً. صحيح أن المرأة تستهلك، بالنحت، قوة عضلية وطاقة جسدية، لكن هذا الأمر هو نشاط عارم يؤثر إيجاباً في تلك الحيوية، يرفع بريق أنوثتها الى مستوى بالغ وناعم وشفاف.

- الحب كيف ترسمه أو تنحته الفنانة منى السعودي، وما هو الحب بنظرك؟
الحب هو الحياة، هو الإنسان. لا حياة ممكنة خارج الحب، لا أمل خارج الحب. يعيش الإنسان الحب  من أجل أن يبقى جميلاً، الجمال هو الحب، والحب هو الجمال. كل كلام جميل في الحب لا يفي بغرض الحب والجمال. الحب هو أن نبقى على أهبة الاستعداد للحب والجمال. الرغبة في الحب هي الخطوة الثابتة نحو الحياة، نحو الحب.-