إزدحام السير ومشاكله

تحقيق, مشكلة / مشاكل نفسية, التوتر, سلامة الصحة, إزدحام السير, د. مارلين شختورة

24 أغسطس 2009

إنّ الإزدحام الخانق الذي يسبّبه السيل اللامتناهي للسيارات والشاحنات والباصات وسائر وسائل النقل، غالباً ما يتسبّب بمشاكل كثيرة على الصعيدين النفسيّ والجسديّ. بحيث أنّ الزحمة الخانقة اليوميّة التي تُصادف المرء في معظم تجوّلاته، من شأنها أن تعكّر صفو باله، وتقضّ مضجعه، وتضايق إنسياب يومه بكلّ راحة.

كما أن الإنتظار لوقت طويل يتعدّى الساعة أحياناً، في خضمّ «عجقة» السيارات وأصوات الأبواق الغاضبة وصراخ السائقين الحانقين والإهانات المتطايرة وسواها من الإزعاجات المتكرّرة، تؤدّي إلى الشعور بالإحباط والحنق يومياً، كما تولّد جواً من التوتر يؤثّر في بقيّة النهار ويُعرقل الراحة النفسية للمرء مما ينعكس على أدائه وفعاليّته.

تشرح الدكتورة مارلين شختورة، الإختصاصيّة في الطبّ العام، الآثار السلبيّة الجسديّة المتأتية من جرّاء الإنتظار في زحمة السير وما تسبّبه من مشاكل وأمراض. كما تعرض المعالجة النفسيّة سحر عبيد، الإختصاصيّة في علم النفسيّ العياديّ، للإنعكاسات النفسيّة الناجمة عن التوتر الحاصل في إزدحام الطرق.

إزدحام السير

يمكن القول، لا بل الجزم، بأنّ كلّ شخص يقود سيّارته إلى العمل أو لقضاء حاجيّاته يومياً، أو يركب باصاً لينتقل من مدينة إلى أخرى، أو حتى داخل المدينة الواحدة، أو يستقلّ سيّارة أجرة، قد تعرّض في مرحلة ما لهذه المُعضلة التي لا حلّ جذريّاً لها. وكلّ واحد بيننا قد إختبر هذا الشعور بالتوتّر والإحباط الناتج عن ذلك الإزدحام الخانق للسير على الطرق الأساسيّة وحتى الفرعيّة أحياناً.

ولعلّ أبرز أوقات الزحمة هي تلك التي تتوافق مع بداية دوامات العمل والمدارس والجامعات، ومع إنتهائها وعلى وقت الظهيرة. ذلك أنه لا مجال مطلقاً للهروب من هذه الزحمة حينما تكون في أوجّها، بل يعلق المواطن في دوامة متكرّرة يومياً، ليعاني من سخط السائق المجاور وصخب ومحاولات تغيير خطّ السير من الذين يريدون تعديل وجهتهم أو إستباق السيارة التي أمامهم! ومن جرّاء ذلك، يحاول قدر المستطاع أن يتحمّل الوضع ويتحمّل حرارة الشمس القويّة خاصة في فصل الصيف، ويجاهد للحفاظ على هدوئه... لكنه يفشل بعد تكرار المحاولات عبثاً، ليتوتّر ويغضب ويثور أحياناً، وينعكس ذلك على طباعه ونفسيّته وحتى على حالته الجسدية وصحّته!

تعطي عالمة النفس كوني ليلاس Connie Lillas مثلاً تشبيهياً تستعين به بـ «حالة القيادة» لتوصل الفكرة عن ردّة فعل الإنسان حينما يواجه وضعاً مثيراً للتوتر، فتقول إنّ الشخص قد يتعامل مع الأمر بثلاث طرق مختلفة ألا وهي:

 الدوس على دوّاسة البنزين Foot on the gas: وهي ردّة فعل غاضبة ومحنوقة تجاه عامل التوتر والضغط، يكون المرء خلالها غاضباً، متوتراً، منفعلاً وغير قادر على الإسترخاء.
 الدوس على دوّاسة الفرامل Foot on the brake: وهي ردّة فعل مكتئبة وإنعزاليّة، يكون خلالها المرء خائر القوى ويفتقر إلى النشاط وينزوي.
الدوس على الدواستين معاً Foot on both: وهي ردّة الفعل بال«جمود»، بحيث لا يدري الشخص ماذا يفعل، ف«يجمد» تحت الضغط ويظهر شبه مشلول الحركة، لكنه يكون في الصميم منفعلاً.


مشاكل نفسيّة وتوتّر

في البداية، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ جوّ التوتّر الذي يسببه إزدحام السير لا مفرّ منه. فمهما كان الشخص بطبعه هادئاً ومرتاحاً، يفقد هذا التوازن في مرحلة معيّنة، وإن ليس بالوتيرة والنمط نفسهما كالآخرين. تفسّر المعالجة النفسية سحرعبيد «إنّ لكلّ شخص قدرة إحتمال معيّنة، تختلف ما بين الناس بفعل العوامل الشخصية والعوامل الخارجية. ذلك أنه قد يحتمل البعض أكثر من سواهم بفعل طباعهم أو نفسيّتهم وحالتهم الصحية أو وضعهم العام ، فيما يثور الآخرون على الفور».

لكن يبقى أنّ الأمر الجامع بين الناس كافة هو معاناتهم بشكل أساسيّ من مشكلة التوتّر Stress والضغط النفسيّ إثر «حبسهم» في زحمة االسير بين كلّ أنواع السيارات والروائح المنبعثة منها والأصوات والزمامير...

تقول عبيد: «إنّ التوتر أو الـ Stress هو حالة نفسيّة شائعة للغاية في مجتمعاتنا التي تكثر فيها الضغوط الخارجية كالإقتصادية والإجتماعية والبيئية. وهو مجهود يتكيّف به الجسم مع العوامل الدخلية مثل الانفعال النفسي، حزن أو غضب أو حتى فرح مفاجئ، أو مع العوامل الخارجيّة مثل حادث سيرأو مرض أو وفاة. فالتوتر إذاً نافع، به نتجاوز صعاب الحياة من فشل ومشاكل وتنافس».

تضيف: «يمرّ التوتّر بمراحل ثلاث: أولاها مرحلة التربّص والتأهّب، تليها مرحلة المقاومة ومن ثمّ مرحلة الإرهاق. خلال مرحلة التربّص والتأهّب يزيد الجسم طاقته لمواجهة الإعتداء الخارجي عبر إفراز هرموني التوتر الكورتيزون والأدرينالين. وأمّا في مرحلة المقاومة فيستمرّ الإعتداء الخارجيّ المسبّب للتوتّر وبغية النجاح في تجاوز الاعتداء يجب الحفاظ على وفرة طاقات المرحلة الأولى التي تقتصر على سرعة النظم القلبي وارتفاع ضغط الدم وسرعة التنفس. وفي المرحلة الأخيرة، تحصل صعوبة إجتياز الإعتداء الخارجيّ وتظهر العوارض والمشاكل الجسديّة والنفسيّة على الإنسان». عندما يتوتّر الشخص، تصيبه حالات من العصبية والغضب والسخط والقلق وعدم القدرة على السيطرة على الإنفعالات، فتنشأ مشاكل في محيطه بحيث يصبّ غضبه وينفّس سخطه بطريقة سلبيّة على مَن حوله وفي عمله. كما يعاني الإكتئاب والحزن والإنزواء والإنعزال وحدّة الطبع والعدائيّة.

مشاكل صحيّة مختلفة

كثيرة هي مسبّبات التوتر، فمنها الأزمات الإقتصادية وصعوبة المعيشة وتعقيد العلاقات الإجتماعيّة وحالات الإنفصال والطلاق، والمشاكل الصحية وموت الأحباء والأقرباء والفصل من العمل والتغيرات الحياتيّة وإعالة العائلة والأطفال، والشجار مع الزوج أو فرد من العائلة او زميل من العمل، أو التعرّض لضغط عمل كثير أو إزدحام السير لساعات أو إنقطاع المواصلات أو الكهرباء أو الماء... كلّها مُعضلات في الحياة تلقي بثقلها على الإنسان.

تقول الدكتورة شختورة: «إنّ التعرّض المستمرّ لعوامل التوتر، مهما كان سببها، من شأنها أن تتسبّب بإنعكاسات صحيّة سلبيّة، من أبرزها الآلام في مختلف الأعضاء، الأرق ومشاكل في النوم، الإضطرابات هضميّة، الصداع، الإنتقاص في المناعة، المشاكل الجلديّة مثل الكزيما، البدانة المفرطة، الإكتئاب، إرتفاع ضغط الدم، وزيادة إحتمال الإصابة بجلطة دماغيّة أو بذبحة قلبيّة».

من جهة أخرى، تبرز مؤشّرات عديدة على كل المستويات، تكون بمثابة دلالة إلى التعرّض المستمرّ للتوتر والضغوط. تقول شختورة: «على المستوى النفسيّ والإدراكيّ، يمكن ملاحظة مشاكل في الذاكرة وعدم قدرة على التركيز وقلق مستمرّ وأفكار مضطربة وتشاؤم وتقلّبات في المزاج وغضب وعدم قدرة على الإسترخاء وشعور بالوحدة والإنعزال وحزن وإكتئاب ومشاكل في الأكل مثل الشراهة أو الإنقطاع عن الأكل، ومشاكل في النوم، وإهمال الواجبات وحتى إدمان الكحول أو العقاقير والأدوية والتدخين للإسترخاء. وحتى يمكن ملاحظة نشوء عادات قضم الأظافر للتخفيف من حدّة التوتر. وأمّا من المنحى الجسديّ، فيمكن ملاحظة بروز أوجاع وحالات إسهال أو إكتام، إضافة إلى غثيان ودوخة وصداع وتشنّج في الرقبة والكتفين ألم في الظهر وأوجاع في الصدر ودقّات قلب سريعة وتعرّق». وكلّ هذه العوارض ليست سوى نتيجة التوتر المستمرّ الذي يشكّل إزدحام السير أحد أبرز أسبابه اليوميّة المتكرّرة.

وعلى المدى الطويل، يسبب التوتّر أمراضاً إضافية تطال كل أعضاء الجسم دون أن يعرف المرء أنّ الضغط النفسيّ هو ما سبّب له ذلك أصلاً. تضيف شختورة: «يخفّض التعرّض الدائم لحالات التوتر من المناعة مما يسبّب حالات إعياء ومرض أكثر. كما هو مرتبط بحالات القرحة وإضطرابات الأمعاء ومشاكل الهضم، ويؤثر في صحّة القلب عموماً من ناحية التعرّض لذبحات، ويسبّب دقات قلب غير منتظمة، كما ينعكس سلباً على الشرايين وإرتفاع ضغط الدم وحتى على الصحة الإنجابية وعلى حالات الخصب والعقم والإنجاب والدورة الشهرية، وعلى  حالات الربو والمشاكل في الرئتين.

حلول داخل السيارة!

قد يشعر المرء أحياناً بأنه أسير في سيّارته على الطرق. وقد يحسّ بأنّ الضغط النفسيّ أكبر من أن يسيطر عليه فيرى أنه لا سبيل للخلاص، فتزداد حدّة التوتر أكثر! لكن كلّ ما في الأمر، أنه يجب أن يتعلّم كلّ إنسان كيفية السيطرة على زمام الأمور والتأقلم مع العوامل المختلفة لمواجهة التوتر. تقول عبيد: «لا يجوز مطلقاً أن يحوّل المرء توتّره نحو الأشخاص الذين يركبون السيارة معه. فلا يجوز أن يُحيل سخطه على الأطفال مثلاً، لأنهم على غراره متوترون وإن لم يعرفوا التعبير عن ذلك. يجب قدر المستطاع محاولة إلغاء عامل التوتر من دون العدائية. وإنما يجب التعبير عن ذلك والتكلّم في الموضوع للتنفيس عن الغضب».

تضيف: «من الممكن أن يستمع الشخص إلى الموسيقى داخل السيارة لينسى التركيز على الوقت ووجهة السير والسيارات المحيطة والزحمة. فعوض الصراخ والشتيمة وإستعمال الزمور وإفتعال الحوادث، من المفيد الإستماع إلى نوع الموسيقى الذي نفضل، بعيداً عن الأخبار والموسيقى الصاخبة التي قد تزيد التوتّر. ويمكن الإستعانة ببعض أنواع الألعاب التي تُلهي الطفل والراشد معاً، وتمنحهما وقتاً للتواصل والكلام». وعلى صعيد آخر، يجب أخذ كلّ التدابير سابقاً، كأن ياكل المرء ويدخل دوره المياه قبل ركوب السيارة. كما على الإنسان أن يتذكّر جلب كلّ ما يحتاج أثناء الرحلة ومن المستحبّ  إحتساب وقت كافٍ للوصول إلى وجهة كلّ شخص، فيجب ألا ينطلق قبل دقائق فقط من موعد الوصول، بل عليه أن يكون مرتاحاً ويحسب انه قد يتعرّض لتأخير. ولكن، عند الوصول إلى العمل أو المكان المرغوب، لا يجوز تحويل السخط و«فشّ الخلق»، فيجب ألا يؤثّر إزدحام السير على الإنتاجيّة والفاعليّة وعلى اليوم برمّته، بل إنّ أخذ الأمور ببساطة وإنسيابيّة وروح مرحة وتفاؤل، تجعل المرء أقلّ عُرضة للتوتر والضغط النفسيّ والمشاكل الخارجيّة.

حلول بسيطة ووسائل إسترخاء

على المرء ان يتحكّم هو في حياته وإنفعالاته وأفكاره ومواعيده ومحيطه وتعامله مع المشاكل ومع المجتمع. ترتكز فكرة التأقلم والمواجهة على الحدّ قدر المستطاع من العوامل السلبيّة التي تؤدّي إلى الإنفعال والتوتر، وعلى مجابهة الصعاب والسيطرة على الإنفعالات وردّات الفعل، وعلى تخصيص وقت للراحة والإستجمام والإسترخاء، وعلى إيجاد متنفّس للتعبير عن التعب والغضب، مثل الرياضة البدنيّة والحركة وتمارين التليين واليوغا.

تقول عبيد: «صحيح أنه لا يمكن إلغاء العوامل التي تسبّب التوتر من الحياة، لكن يمكن تعلّم السيطرة عليها للحدّ من مفاعيلها. إنّ المصادر المضادة للإكتئاب متعدّدة وما على المرء سوى الإختيار. فوسائل الراحة النفسية تساعد على الإحساس بالإسترخاء. فعلى سبيل المثال، إنّ جلسات التأمّل و الاسترخاء RELAXATION  وحلقات اليوغا والتمارين الرياضية، تخفّض مستويات الضغط وتعطي المرء مقداراً من الفرح والراحة والتفاؤل».