مع الشّاعر التونسيّ يوسف رزوقة «وداعاً براءة العالم»

إسماعيل فقيه (بيروت) 03 فبراير 2018

يوسف رزوقة، شاعر وروائي وأديب لامع في الثقافة العربية والأجنبية، وخاصة في مسقط رأسه تونس. كتب الشعر والرواية والترجمة وألّف قصصاً للأطفال، وأصدر أكثر من ثلاثين كتاباً، كان أولها «أمتاز عليك بأحزاني»، وليس آخرها رواية «وداعاً براءة العالم». وجديد الشّاعر ديوان «الذّئب وما أخفى»، تليه رشائيّة: «الغزالة والزلزال». وجاء على غلاف الكتاب وبلسان النّاقد التونسيّ د. مـحمّد صالـح بن عمر أنّ يوسـف رزوقـة من مواليد 21 آذار/مارس 1957 في قصور السّاف في تونس. تـخرّج في معهد الصّحافة وعلوم الإخبار، ومنه حصل على الأستاذيّة في الصّحافة وعلوم الإخبار (تـخصّص علوم سياسيّة)، كما حصل على ديبلوم في اللّغة الروسيّة من جامعة بياتريس لوممبا في موسكو. ويشغل خطّة رئيس تـحرير في جريدة «الصّحافة». ترأس تـحرير مجلّة «شعر» التّونسيّة (1982 – 1987). ويشرف على نادي «الأربعاء الأدبيّ» في النّادي الثّقافيّ الطّاهر الحدّاد في تونس المدينة منذ عام 1987. انتُخب عام 2005 سفيراً لدى منظّمة أميركا اللاتينية لشعراء العالم في الشيلي، ممثّلاً للعالم العربيّ فأميناً عامّاً لـها. عُيّن عام 2006 في جنيف سفيراً عالميّاً للسّلام.


حظى اسم رزوقة بانتشار واسع في الوطن العربيّ وفي البلدان النّاطقة بالفرنسيّة والإسبانية، بفضل كتابته، فضلاً عن العربيّة، بهاتين اللّغتين، كما يكتب بهما كبار المبدعين من النّاطقين بهما. وهو من الشّعراء التونسيين القلائل الذين أغروا شعراء من الأجيال اللاّحقة بتعقّب خطاهم والنّسج على منوالـهم والانتساب المعلن إليهم. لذلك هو يُعدّ بـحقّ ولا يزال رأس مدرسة في كتابة الشّعر، وقد احتلّ هذه المنزلة بفضل امتلاكه قدرة فائقة على تصريف الكلام فتراه يـُخضع اللّغة لمشيئته تـماماً. فإذاً هي تارة هادئة وطوراً متوتّرة، أحياناً راقصة وأخرى رصينة، في حالات ما منبسطة وفي غيرها منقبضة. كما يـمتاز بـحسّ حداثيّ مرهف ترى بصماته جليّة في انفتاح قصيدته على العصر والعالم، بتداعي كلّ الحواجز فيها، سواء القائمة منها بين الفنون أو بين المدارس الأدبيّة أو بين أجناس الكتابة أو بين الثّقافات، على نـحو يـجعلك تـحسّ حين تقرأ له بأنّك في قلب العالم. وهو ما وسم أسلوبه بطابع فريد حقّاً لا يـمكن وصفه إلاّ بأنّه «رزوقيّ».
من مؤلّفات رزوقة في باب الشّعر: «أمتاز عليك بأحزانـي»، «برنامج الوردة»، «إسطرلاب يوسف المسافر»، «الذئب في العبارة»، «بلاد ما بين اليدين»، «أزهار ثانـي أوكسيد التاريخ»، «إعلان حالة الطوارئ، الأعمال الشعرية» (الجزء الأول)، «يوغانا» (كتاب اليوغا الشعرية)، «الفراشة والديناميت»، «أرض الصّفر: الأعمال الشعرية» (الجزء الثّانـي).
وله في باب الرّواية: «الأرخبيل»، «مسمار تشيخوف»، «وداعاً براءة العالم!»، «ريكامو»، و»أعشاش مغشوشة»...

التقيت الشاعر في حوار هادئ، كشف فيه عن تفاصيل جديدة تعتمل في تجربته الأدبية، فماذا قال؟

- تكتب الشعر والرواية، أين أنت من الكتابة كبعد ومعنى وأسلوب عيش وحياة؟
الكتابة أسلوب حياة. هي فعلاً كذلك، لكنّ قانون اللّعبة في الإبداع هو اللّعب في الشعر كما في السّرد كما في سائر أجناس الإبداع. فلا إبداع بلا لعب. لا شعر بلا لعب. لا سرد بلا لعب. لا رقص بلا لعب. لا مسرح، لا دراما، لا تشكيل بلا لعب. السّرد، كما نرويه بـمسؤوليّة لاعب شطرنج وبشيطنة الحاوي وبتفكيكيّة جاك دريدا أو زها حديد، معمار في حكم الزّلزال يهندسه راوٍ في أرض بكر. قد ينهار ككلّ بناء شيّده بنّاء أعور، أو قد لا ينهار ككلّ بناء شيّده بنّاء شيمته اللّعب. أمّا الشّعر فهو اللّعب أصلاً. لا ينفعنا إلاّ لعب غاداميريّ، فَذّ ينسينا ما نـحن عليه وفيه من اشمئزاز. فلنلعب! ذلك ما نـحتاج إليه هنا والآن ولن نـحتاج إلى عقّار آخر. نـحن كبرنا أكثر ممّا  يلزم. يلزمنا، لنعيش قليلاً، شيء آخر ينسينا ما نـحن عليه وفيه من اشـمئزار. فلنلعب! فالعالم في ادلـهمام تامّ... حيث نظرت، ترى الغربان تغطّي عين الشّمس. تعملقت الغربان هنا، في القرية حتّى صار الأسود لوناً خفّاقا لا تـخطئه عين.

- ماذا يعني لك الشعر، خصوصاً أنك بدأت شاعراً بالكتابة؟ ولماذا انتقلت الى كتابة الرواية؟
لم يعد الشعر، للأسف، ديوان العرب، لأسباب عدّة مستجدة، لكنه مع ذلك، ما زال قائم الخصوصية والفاعلية والجدوى، وأرى أنّ الذي لا يحترم الشّعر وأهله، ستخونه نفسه أوّلاً وزوجته ثانياً والآخرون! ذلك أنّ الشّعر، ليس فقط مجرّد تهويمات ذاتيّة أو تجلّيات وجدانيّة رجراجة أو إيقاع شيطانيّ للإيقاع بامرأة غير واقعيّة أو هروب من واقع أو جنوح إلى ما وراء الأسوار حيث المدينة الفاضلة، بل هو إلى ذلك، أسلوب حياة نمارسه جميعاً، كلّ على طريقته وبالشّكل الذي يقتضيه الموقف والحال والواقع. أما لماذا انتقلت إلى الرّواية؟ فبهدف أن أكتب دراما الواقع ودماراته، خصوصاً بعد تحولات ما سُمّي بـ»الربيع العربيّ»، على نحو يستجيب متغيرات المرحلة.

- تكتب الحزن والفرح، لكنّ الحزن يبدو أقوى في نصّك، لماذا؟
أوّل ديوان لي مهرته بـ»أمتاز عليك بأحزاني» عام 1978... نظرت فيه الى الحزن ومشتقّاته، ثمّ تلته مرحلة «الكتابة المبتهجة»، ففي إزاء انفجار المسافات، المفاهيم والمصطلحات واتساع رقعة الحريق في الذاكرة (قلق، ضغط، إحساس فاجع بانقراض السلالة أو بانتفاء الدور، إلى غير ذلك)، فإن المرحلة اقتضت مني التنظير لتحقيق مناعة الحضور لمواجهة شتى الضغوط الحافّة بالنص أو بصاحبه، عبر التسلح الدائم، ولو في أشد المواقف خسراناً أو انكساراً، بالروح الانتصارية، العالية والتزام الكتابة المبتهجة مع الوعي الاستثنائي بشائكية الواقع الحضيضي، المتقلّب والمنفجر: قطعاً مع خطابات النكسة وأيديولوجيا البكاء. لكن مع فقدان الزوجة والبنت وشيء من قداسة الوطن، عدت إلى ما كنت عليه من همّ عظيم، أكتبه ويكتبني كمتنفّس لي في عالم متدهور، ملتاث وضنين.

- الحب... كيف يتحرك في نصك وحياتك وقصيدتك؟
العالم امرأة. هكذا أرى. وحين نكتب لها أو بها، فإن للأثر الإبداعيّ نكهته وسلاسته وسيولته على خلفية أن «المكان الذي لا يؤنث، لا يعوّل عليه»، وفق تعبير ابن عربي... أكتب المرأة وعنها ولها، لأن المرأة هي المرايا المتعاكسة، وبالتالي أكثر من أن تُحصى، ويطيب لي أن أجسدها سيميائياً في عديد البورتريهات «المؤيقنة».

- أين أنت اليوم وماذا تفعل وتكتب؟
أنا اليوم، «أرمل الرّمال الـمتحرّكة»، أو بعبارة أخرى، «يتيم في السّتّين»... غادرتني قبل سنوات قليلة، إلى مثواها الأخير، رشا ابنتي (26 سنة). رسّامة وصحافية، ماتت في العيادة، أثناء ولادة حفيدتي «ياسمين» التي ماتت معها هي الأخرى. وبفعل الصّدمة تلك، أُصيبت زوجتي بالجلطة مرّتين وماتت لأبقى وحيداً وشاعراً بمدى فداحة الوضع الجديد مع ابنين لي، آزر وإيّاد، الأوّل هاجر إلى كيبك في كندا، والثّاني يعيش معي في تونس العاصمة... وبقيت أنا موزّعاً بين ثلاثة أمكنة: العاصمة، قريتي زُرْدة، الرّحم الأولى وسَلَّقْطة للاصطياف. وفي هذه الأمكنة، أدأب، كعادتي، على كتابة ما يهمّني، في أكثر من لغة، وفي مراوحة منّي بين أجناس أدبيّة عدة: شعر، رواية وقصص للأطفال واليافعين...

- الشعر التونسيّ الحديث، باختصار، هل هو بخير اليوم، وكيف ترسم معالمه؟
ظاهرياً، يبدو بـخير. هو تلوين مغاربي في إفريز المشهد المشرقي، أو هو عبارة عن ضمائر مستترة تقديرها أقلام راعفة في مسيرة الألف ميل.

- متى تكتب وما هي العوامل والظروف التي تقودك الى الكتابة، ما الذي يشدّك الى الكتابة أكثر؟
في كلّ وقت، يطيب لي أن أكتب، فليس لدي وقت لأضيّعه في ما لا يعني... ما أكتبه، لا أكتبه وحدي. فلأجدادي ضلع فيه، ولأحفادي أيضاً. وحدي أرث التّاريخ وما أخفى. وحدي أتـحمّل هذا الإرث سعيداً، حدّ التّخمة، بالفردوس وما أخفى. من هذا الإرث، تـجيء كتاباتـي.

- هل قلت كل شيء بالكتابة أو تريد أن تقول بعد؟
كتاباتـي، لا همّ لـها إلاّ تلغيم القرية، قرية ماكلوهان في الممكن من حلمي. ما أكتبه، حرث في البحر، مـحاولة للقفز بـمنطاد الخفّاش إلى لبّ الموضوع، مباشرة: وتسألني: ماذا بعد؟ ما جدوى الشّعر؟ وأسأل بدوري: ما جدوى العيش بلا شعر؟ بل ما جدوى قلب لا ينبض؟ أو رأس لا يـحمل مشروعاً لحياة من نوع خاصّ؟ أن نسمو بالإنسان إلى الهدف الأسمى: أعلى ما يبلغه الإنسان، هنا والآن، ذاك هو الهدف... وهل قلت كلّ شيء؟ وجوابي: لم أقل بعد ما أريد، فما زالت في الرّأس أسئلة حارقة وطرق شائكة تغري سالكها في زمن الدّيستوبيا والزّلزال.