بين قصر موسى ومزرعة تعنايل

السفارة الباكستانية في بيروت, قصر موسى, مزرعة تعنايل, سهل البقاع, بلدة بيت الدين, البحر الأبيض المتوسط, مجسّمات من الشمع, بحيرة اصطناعية

01 يوليو 2009

 لقصر موسى حكاية جميلة أقرب إلى أساطير الحب الإغريقية. في أجنحة القصر كل التراث اللبناني. تعنايل فردوس أرضي يسكن في قلب البقاع.

كم جميل أن تزور بلدًا يدوخك سحره الطبيعي والإنساني إلى حد الخدر وخلال مسافة زمنية تتمنى لو أنها تطول إلى الأبد. هذا هو الحال مع لبنان الذي يتفق كل من يزوره أنه البلد ، ربما الوحيد في العالم، الذي في إمكانك الاستمتاع بشاطئه المستلقي على البحر الأبيض المتوسط، وجباله الشاهقة في اليوم نفسه.
تترك بيروت عاصمته وتأخذك الطريق صعودًا نحو بيت الدين في قضاء الشوف حيث يختبئ قصر تحضن جدرانه حكاية جميلة أقرب إلى الأساطير الإغريقية في معناها. إنه قصر موسى.
تروي صفحات الحكاية قصة رجل حقّق حلم الطفولة بأن يبني قصراً يشبه قصور ألف ليلة وليلة. وهو الطفل الصغير الذي كان يعيش مع أهله في غرفة جدرانها من الطين تشاركهم فيها الأغنام والدواجن، أحب فتاة صغيرة فراح يرسم لها على أوراق دفتر اشترته له أمه بمقايضة أربع بيضات من دكّان القرية، قصرًا جميلا كل حجر فيه بلون وشكل مختلف عن الآخر. ومن الورق إلى الأرض بدأ يبني قصره عام ١٩٤٥ حتى انتهى منه عام ١٩٩٧ ليتحوّل حلم الطفولة الورقي إلى واقع حجري يدهشك بنمطه الفريد ، وهو مستلقٍ على طرف منحدر إلى يمين الطريق بين دير القمر وبيت الدين في منطقة الشوف.
تدخل القصر عبر جسر معلّق فوق ساقية مياه تتراقص فيها الأسماك وكأنها سعيدة برفقة القصر. يستقبلك صاحب القصر الذي يبلغ من العمر الـ ٧٧ عامًا وقد حفر الزمن على وجهه تجاعيده من دون أن تشيخ روحه.
 يتصدر المدخل رسم يعود إلى صاحب القصر نفسه. ولهذا الرسم حكاية رغم أنها حزينة ولكنها تحمل معاني عميقة عن إرادة الإنسان التي لا يمكن أحداً أن يكسرها. وفي سطور الحكاية أن موسى حين كان طفلا كان يرتاد مدرسة القرية، لاحظ أستاذه أنه منكب على ورقة أمامه لا يهتم بما يجري في الصف، فاقترب المعلّم وحاول لفت انتباه موسى بضربه بالعصا على ركبته مرّات عدة. لم يشعر الطفل بالضربات، فما كان من الأستاذ إلا أن صاح به، وعندما نظر إلى الورقة وجد عليها رسمًا لقصر أحلام موسى فمزّقها إرباً. وعندما عاد الصغير إلى المنزل أعاد لصق الأجزاء الممزقة بصمغ شجرة اللوز وأكمل رسم قصره.
يحتوي القصر على أجنحة عدة  تضم مجسّمات من الشمع تمثّل حياة اللبنانيين في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. فهنا جناح تشغله مجسّمات تمثّل الحرف اللبنانية القديمة، وجناح آخر يعرض للمواصلات التي كان يستعملها اللبنانيون في الزمن القديم، وجناح يضم مجسمات تروي طريقة الاحتفالات اللبنانية الفلكلورية، وآخر يجسد العمل القروي ومنه، طحن الحبوب بواسطة الجاروشة. فيما عازف الناي يطرب الجالسين. وهناك مجموعة الأسلحة القديمة من العصر العثماني حتى الاحتلال الفرنسي للبنان، وتعدُّ هذه المجموعة من أكبر المجموعات الموجودة في الشرق الأوسط وتضمُّ ١٦ ألف قطعة سلاح.
وفي أحد ممرات القصر نقشت كلمات كتبها صاحب القصر: «علّمتني الحياة أن هذا العالم لن يتوقف عن استمراره بعد موتي، كما أن الأرض لن تحجم عن دورانها والشمس لن تكف عن شروقها وغروبها».
تترك قصر موسى وتصعد ثم تنزل نحو البقاع حتى تصل إلى واد يختبئ بسلام في قلب البقاع. إنها مزرعة تعنايل التي تشبه قطعة من الجنة سقطت بين الجبال الشاهقة. هنا المشهدية تأخذ الألباب: بحيرة اصطناعية وغابة صغيرة محمية، ونهر يخترق المكان، وأشجار وارفة يساند حفيفها خرير مياه النهر في اختراق السكون وكأنها أوركسترا طبيعية تعرف كيف تتلاعب بإيقاعاتها لتجعل المزرعة ملاذًا للباحثين عن المتعة في أحضان الطبيعة، لا سيما تلامذة المدارس الذين يستقبلهم المسؤولون عن المزرعة ويعرّفونهم إلى حياة المزرعة اللبنانية وكيف تصنع الألبان والأجبان وكيف يتم الاعتناء بالقطعان، فيعيش التلميذ يومًا قرويًا بامتياز.
هكذا هو لبنان.  وكما قال عنه جبران جبل رهيب وديع جالس بين البحر والسهول، جلوس شاعر بين الأبدية والأبدية، صلاة مجنّحة ترفرف صباحًا عندما يقود الرعاة قطعانهم إلى المروج وتتصاعد مساء عندما يعود الفلاحون من الحقول والكروم.‏ تغريد الشحارير وحفيف أغصان الحور والسنديان، و صدى النايات في المغاور والكهوف.‏ وصبية يتسلقون الصخور ويركضون مع الجداول.‏