سيرة نجيب محفوظ بختم النسر

خاص - "لها" 22 سبتمبر 2019

بمناسبة ذكرى رحيله، يحتضن متحف نجيب محفوظ في وكالة محمد أبو الدهب، الواقعة بجوار مسجد الأزهر الشريف، معرضاً عن المستندات الوظيفية التي تروي رحلة نجيب محفوظ "الموظف"، الحاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1988.


هذه المستندات تكشف عن رحلة محفوظ عبر 37 عاماً، قضاها موظفاً متنقلاً بين ثلاث جهات: الجامعة المصرية، إذ عُيّن كاتباً فيها بين عامي 1934 و 1939، ثم وزارة الأوقاف من عام 1939 إلى 1955، وأخيراً وزارة الثقافة منذ عام 1955 وحتى بلوغه السنّ القانونية للمعاش في 1971.

وللمرة الأولى يُقام معرض يتضمن المستندات الموقّعة بختم النسر، وتخص نجيب محفوظ، وذلك في ما يتعلق بتعيينه في الوظائف المختلفة، وإجازاته التي كان يحصل عليها سنوياً بانتظام، وكذلك عناوين إقامته المختلفة، والقرارات التي اتخذها، لا سيما في فترة تولّيه الرقابة على المصنّفات الفنية، ورئاسة مجلس إدارة دعم السينما.

المعرض من إعداد الكاتب الصحافي طارق الطاهر، رئيس تحرير جريدة "أخبار الأدب"، وهو مأخوذ من كتابه الصادر عن هيئة الكتاب، بالتعاون مع مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية، ويحمل عنوان "نجيب محفوظ بختم النسر... سيرة تُروى كاملة للمرة الأولى".

يضم المعرض ما يزيد على 70 وثيقة تحمل ختم النسر، تخص نجيب محفوظ، على مدار حياته، بدءاً من شهادة إتمام المرحلة الابتدائية، والتي جاء فيها: "الدولة المصرية... وزارة المعارف العمومية... امتحان إتمام الدراسة الابتدائية (البنين)... نجيب محفوظ بن عبدالعزيز إبراهيم والمولود في القاهرة 1911، أتمّ الدراسة الابتدائية ونجح في الامتحان الخاص بذلك في عام 1925... وزير المعارف... القاهرة في 29 صفر 1344 من الهجرة و17 أيلول/سبتمبر 1925 من الميلاد"، ويظهر في هذه الشهادة توقيع نجيب محفوظ باللغتين العربية والأجنبية، وكذلك شهاداته في المراحل الدراسية المختلفة، حتى حصوله على ليسانس الآداب من الجامعة المصرية.

وضمن الأوراق الرسمية "كشف الممتلكات" الذي قدَّمه للتعيين في الجامعة، وفيه دوّن محفوظ ممتلكاته: "... أنا موقّع هذا نجيب محفوظ عبدالعزيز الموظف في الجامعة المصرية أقر وأعترف بأنني لا أملك عقارات، أراضي كانت أو مباني ولست مشتغلاً شيئاً إلا في جهة عملي ولا في أية جهة أخرى وأتعهد بأنني إذا اشتريت أو استغللت عقاراً ما في دائرة توظيفي أو في غيرها من جهات القطر المصري، أبادر بإخبار الوزارة أو المصلحة التابع لها، إمضاء الموظف أو المستخدم نجيب محفوظ 4 / 11 / 34".

بالإضافة إلى عشرات الأوراق التي تحمل إجازات مؤرخة ومحدّدة المدة، وتقارير سرّية، وقرارات تخص فترة توليه الرقابة على المصنّفات الفنية، وتدرّجه في عدد من المناصب الأخرى في وزارة الثقافة، المرتبطة بالسينما، بعضها بأوامر إدارية أو بقرارات وزارية، وأخرى بقرارات رئاسية،منها الأمر الإداري الذي أصدره عبدالمنعم الصاوي بصفته وكيلاً لوزارة الثقافة والإرشاد القومي بنقله من ديوان عام الوزارة إلى مؤسسة دعم السينما اعتباراً من أول أيار/مايو 1961، وقبل هذا القرار كان محفوظ يشغل بالفعل منصب مدير مؤسسة السينما "ندباً"، رغم أنه وقتها كان في الدرجة الثانية.

وعن قصة هذا الكتاب يقول المؤلف: "بحثتُ طويلاً عن الملف الوظيفي للأديب الكبير الراحل نجيب محفوظ، بعد أن قرأت عن بعض تفاصيله في الموضوع الذي أجرته زميلتي بركسام رمضان، ونُشر في جريدة الأخبار في 11 كانون الأول/ديسمبر 1992، ولم يتجاوز الألف كلمة، وكانت هناك كتابة أوسع عنه من جانب الراحل الكبير الدكتور مدكور ثابت في موسوعة "نجيب محفوظ والسينما 1947 – 2000"، الذي اختار عدداً من الأوراق ليتحدّث عنها، لكن رغبتي في أن أرى الملف كاملاً، ظلت أمنية تطاردني لسنوات طويلة، إلى أن استطعت التوصل إلى هذا الملف، بمساعدة الدكتورة إيناس عبدالدايم وزيرة الثقافة، والدكتور خالد عبدالجليل رئيس المركز القومي للسينما، وأثناء تفحّصي لأوراقه في مكتب الأخير، تولّدت فكرة أن أحوّل هذه الأوراق إلى كتاب، فتحمّست وبدأت على الفور".

ويضيف: "عندما انتفى أي حائل بيني وبين هذا الملف، شعرت بأنني تعجلت في قرار الكتاب، فماذا أفعل أمام هذه الأوراق الوظيفية، التي تتجاوز الثلاثمائة ورقة، بعضها يخص خطوات تعيينه في الأماكن المختلفة، فنجيب محفوظ من الموظفين القلائل الذين لهم خدمات وظيفية في ثلاثة أماكن مختلفة إدارياً: جامعة القاهرة، وزارة الأوقاف، وأخيراً وزارة الإرشاد القومي في أكثر من مكان داخلها: مصلحة الفنون، ثم مؤسسة السينما، وفي الأخيرة شغل العديد من المناصب، منها: مدير الرقابة، مدير مؤسسة دعم السينما، رئيس مجلس إدارة المؤسسة العامة للسينما أكثر من مرة، وقد استغرقت هذه الرحلة سنين طويلة".

ويؤكد صاحب كتاب "نجيب محفوظ بختم النسر" أن أوراق محفوظ الوظيفية، لم تكن مثل أوراق الموظفين العاديين، فقد غمس فيها من مداد قلمه وفكره، ولا أبالغ إذا قلت إننا أمام موظف طوّر من لغة الموظفين الإدارية، وليس أدلّ على ذلك من الإجازات التي تُكتب بشكل نمطي، ويشبعها محفوظ من روحه ولغته، ففي أثناء تولّيه الرقابة على السينما، طلب إجازة اعتيادية، أورد فيها لفظاً، أزعم أنه الوحيد الذي استخدمه في طلب إجازة وهو "قانعاً"، فكتب محفوظ: "السيد الأستاذ وكيل وزارة الثقافة والإرشاد القومي... تحية طيبة وبعد... فأتشرف بأن أرجو الموافقة على منحي إجازتي الاعتيادية، قانعاً منها بالمدة من 12 / 9 / 1959 إلى 1 / 10 / 1959 مراعاةً للفترة التي أمضيتها في رحلة يوغوسلافيا".

ويستطرد قائلاً: "هذه الأوراق الروتينية حوّلها محفوظ إلى حياة، تنطق بمسيرته، فتستطيع من خلالها أن تتعرف على الأماكن المختلفة التي عاش فيها، وكذلك مسيرة حياته الاجتماعية، وأسفاره الى الخارج، يوغوسلافيا واليمن". وبعد الوظيفة سافر في عام 1991 إلى لندن للعلاج، كما نرصد من خلال هذا الملف مواقفه الوظيفية التي تنبع من ثقافة رفيعة، فعندما أصدر له الدكتور ثروت عكاشة قراراً بتوليه منصب مدير الرقابة، دُهشت الأوساط الثقافية والفنية، كيف يقبل أديب في حجمه وثقله بهذا المنصب؟ فيجيب محفوظ بحِرفية السنوات "اختلاف درجات النضج بين الناس يستلزم الرقابة"، و"أن الرقابة موجّهة نحو القيمة الفنية"، وقد استُعرضت مواقفه المختلفة أثناء شغله لهذا المنصب، الذي ترك فيه بصمة كبيرة، فقد استطاع أن ينتشله من مسلسل الرشاوى، التي كانت منتشرة في ذلك الوقت في هذا الجهاز، حسب شهادة محفوظ نفسه لرجاء النقاش.

ويوضح الكتاب أن محفوظ اتّسم أيضاً بجرأة كبيرة في اتخاذ القرارات التي يراها مناسبة، لا سيما في مرحلة عمله في مؤسسة السينما، وقد خاض العديد من المعارك، تصدّياً لأي محاولة للنيل من هذه المؤسسة وعملها، وفي أي أزمة كان يتعرض لها، كان يقف دائماً على أرض صلبة، بامتلاكه من القدرة والمهارة ما يمكّنه من تجاوز هذه الأزمة أو تلك، بثقة شديدة. وقد غادر آخر منصب تولاّه، انتصاراً لفكرة المسؤولية، وذلك عندما ترك منصبه رئيساً لمجلس إدارة المؤسسة العامة للسينما، إذ طلب من الدكتور ثروت عكاشة إعفاءه من هذا المنصب، واتفقا على تعيينه مستشاراً للوزير، وهو آخر منصب تولاّه، إلاّ أن شهادة عكاشة، تلخّص الصفات الأساسية لمجمل مرحلة محفوظ الوظيفية، ففي كتابه "مذكرات في السياسة والثقافة"، يكتب: "وأشهد أن رفقة الأديب المحبّب إلى القلوب نجيب محفوظ، كانت رفقة ممتعة مثمرة، فما أكثر ما زوّدني بالنُّصح الرشيد السديد في واقعية مترعة بالإنسانية الرهيفة وحكمته البالغة وإدراكه العميق للمشاكل، مما خفّف عني الكثير من أعباء تلك الفترة المضنية".

أخيراً، هذا الكتاب ما هو إلا سيرة تُنشر للمرة الأولى كاملةً عن نجيب محفوظ، من خلال ملفه الوظيفي، دوّنتها في فصول سبعة، الأول: حياة في أوراق رسمية، الثاني: الموظف في الجامعة المصرية، الثالث: في وزارة الأوقاف، الرابع: في مصلحة الفنون ووزارة الثقافة والإرشاد "وزارة الثقافة"، الخامس: الجوائز والتكريمات، السادس: أزمات وظيفية، والسابع: ببليوغرافيا، وأرفقت بهذه الفصول "ملحقاً" يضم الكثير من الوثائق الخاصة بنجيب محفوظ التي تُعرض مجتمعةً للمرة الأولى.