كراكوف المدينة البولندية التي تخلّت عن لقب السياسة واحتفظت بألقابها الإنسانية

كراكوف,المدينة البولندية,لقب السياسة,الدراجة الهوائية,زابييكانكي,متحف تشارتوريسكي Czartoryski,بلاك نوفي Plac Nowy,مقاهي الرصيف,المدينة العتيقة,هضبة فافيل Wawel,عالم بولندي,بولندا

ديانا حدّارة 08 نوفمبر 2015

أهلاً بك في كراكوف. هكذا ترحب بك المدينة البولندية التي تخلّت في القرن السابع عشر عن لقبها عاصمة بولندا، لمصلحة وارسو العاصمة الحالية.
هذا الانكفاء في كواليس الأحداث السياسية، جعل من كراكوف جميلة، لم تعتزل دور البطولة على مسرح التاريخ وروائعه الهندسية والفنية، ولم تسمح لتجاعيد الزمن باجتياحها، ولا لشيب التاريخ بأن يضربها، بل بقيت مدينة شابة تعيش بروحها المتجدّدة. كل ما في كراكوف يدعوك إلى عالم بولندي فريد، فأينما جلت في هذه المدينة تجدين نفسك وسط فنون معمارية متناثرة توقعك في جمالها من النظرة الأولى.
هنا طبقات متتالية لأنماط معمارية مختلفة تراكمت على مدار العصور. مدينة عتيقة تحضن شعلة المعمار القوطي والباروكي وعصر النهضة وتروي 750 سنة من التاريخ، فيما تصطف المباني التاريخية في ساحة السوق الكبرى بكل فخر، لتحاري في أي فندق تنزلين وأي مقهى ترتادين.
وكراكوف القرن الواحد والعشرين مدينة دينامية تتزاحم فيها الحركة الثقافية، مهرجانات الجاز، ومسرح الشارع والعروض الفنية الأولى، إضافة إلى أنها مدينة الطلاب. كل هذا يجعل كراكوف ترحب بك في عالمها بكل ثقة.


هضبة فافيل Wawel ولوج في العصر الوسيط
على قمّة هضبة تشرف على نهر فيستلا، تستحضر أبراج القلعة، وأبراج الكاتدرائية سحر كراكوف العصور الوسطى وغموضها.
فهذه القلعة كانت مقرّ إقامة الملوك والملكات لخمسة قرون، لتصبح راهنًا متحفًا للفن والتاريخ. التجوال في هذه القلعة يدخلك إلى عالم أبطال بولندا وقد وضع نصب تذكاري لهؤلاء الذين ضحّوا بأرواحهم لتصبح بولندا على ما هي عليه اليوم.
بنيت القلعة الحالية في القرن الرابع عشر، وتحضن راهنًا مجموعة متاحف كرّست لتاريخ القلعة، والأحداث التي دارت فيها خلال قرون.
تجولين فيها وتقرئين تفاصيلها وتتعرّفين إلى روايات أبطالها... بينما تسافرين عبر الزمن في رحلة تاريخية تقدمها لك كاتدرائية فافيل الأهم والأشهر في بولندا، وهي ثالث كنيسة شُيدت عام 1364 على هضبة فافيل.

المدينة العتيقة
تشكّل المدينة العتيقة في كراكوف مصدر جذب للسياح من جميع أنحاء العالم. فهي أحد المواقع التاريخية الأربعة عشر في بولندا التي تمّ وضعها على لائحة اليونسكو للتراث العالمي.
بقي الكثير من معالمها المعمارية على سيرتها الأولى ولم تتأثر بنوازل الزمن، بل احتفظت بأنماطها المعمارية القوطية والباروكية وعصر النهضة.
يدخلك التجوال في المدينة العتيقة في متاهة من الحركة والازدحام. فهنا الجميع يريد أن يتعرف إلى تفاصيلها. خذي دورك في هذا الازدحام وابدئي جولتك في ساحة السوق الرئيسة، واحدة من أكبر الساحات في أوروبا والتي ازدهرت عندما مُنحت كراكوف حقوق ماغديبورغ عام 1257.
تستقبلك الساحة بالزهور المنتشرة في أكشاك، فيما برج قاعة المدينة، وقاعة Sukiennice المعروفة أيضًا بقاعة القماش، والمساكن القديمة تدخلك إلى عوالم القرون الوسطى بكل جمال هندستها المعمارية، ليرجعك إلى اللحظة الآنية لحن بوق هينال Heynal القابع عند أعلى برج كنيسة سانت ماري.
ولعلّ من أطرف ما يصادفك أثناء تجوالك في ساحة المدينة العتيقة الأوبفارزانكي Obwarzanki، وتعني الخبز وهو رمز كراكوف. لذا لا تتفاجئي أثناء تجوالك في الساحة ببائع خبز كل بضع خطوات، يعرض عليك خبزًا بالسمسم أو بالملح الصخري أو حتى بيتزا الخبز. ولمَ لا تشترين قطعة وتتلذذين بمذاقها، وأنت تتنقلين على عربة تجرّها الخيول بينما تجوب وسط هذا الجمال الإنساني، ثم تترجلين  وتتبخترين بين أحد رموز المدينة العتيقة، وهو حمام كراكوف، وتتبرعين له ببعض ما تبقّى من فتات الخبز؟ وللحمَام في كراكوف أساطير عدة تبرّر وجود أسراب كبيرة منه في الساحة الرئيسية.
ووفق إحدى الأساطير، أن هنري الرابع بروبس، أراد الاستيلاء على مقاطعة سينيورال Senioral خلال فترة تفكّك بولندا، فحاول السفر إلى روما  لتقديم عرض مالي ضخم من أجل الحصول على الموافقة البابوية لتتويجه أميرًا.
وبناءً على رغبته، حوّلت بعض الساحرات فرسانه إلى أسراب حمام نقرت بعض الحصى من جدران كنيسة سانت ماري، فتحولت إلى قطع ذهبية. ومع هذه الثروة، توجّه الأمير إلى الفاتيكان، ولكنه خسر كل شيء أثناء السفر ولم يتمكن من الوصول إلى وجهته. عاد إلى كراكوف، ولم يتمكن أحد من فرسانه من استعادة شكله الإنساني، وهو لم يتوّج أميرًا. وبقيت كراكوف محتفظة بأسطورتها.
يبدو أن كل الأساطير تحوم حول كاتدرائية سانت ماري المتاخمة لسوق المدينة العتيقة. إذ لهذا المعلم التاريخي الذي جاء على النمط القوطي، أسطورة حول كيفية بنائه، ولا سيّما برجيه المختلفين في الارتفاع. ووفق الأسطورة، فإن هذا الفارق في الارتفاع هو نتيجة شجار بين مهندسين شقيقين أُوكل كل واحد منهما ببناء برج، فقتل أحد المهندسين شقيقه خشية أن يتخطى ارتفاع برج الأخير برجه، وبعدها قتل نفسه بسبب شعوره بالذنب. شُيّد البرج الأول على ارتفاع 69 مترًا ليضم أجراس الكنيسة، بينما البرج الأكثر ارتفاعًا فكان للمراقبة والرصد، وراهنًا يطلق منه بوق هينال مارياكي Hejnal
Mariacki كل ساعة لحنًا حزينًا مذكّرًا بعازف البوق الشهير في القرن الثالث عشر الذي قتل بعيار ناري في حلقه خلال نفخه في بوقه محذّرًا من غارة يشنّها المغول على المدينة. ومنذ ذلك الوقت، يُطلق بوق هينال عند ساعة الظهيرة وتسمعه راهنًا كل بولندا.
كيف! عبر بث الإذاعة البولندية الوطنية لحن البوق يوميًا عند الساعة الثانية عشرة ظهرًا. لمَ لا تصعدين إلى أعلى البرج وتستمتعين بمشهد بانورامي فريد لكراكوف وهي تتأمل نهر فيستلا الذي تستريح على ضفتيه؟  جولتك في المدينة العتيقة لن تنتهي بسرعة كما تتوقعين، إذ لن يمكنك تفويت الجلوس في أحد المقاهي، وارتشاف القهوة.

كراكوف تحت الأرض عالم سفلي يحضن كل الفرح
إذا كانت صور جحيم العالم السفلي في الملحمة الشعرية «الكوميديا الإلهية» للشاعر الإيطالي دانتي أليغييري تثير الرعب والرهبة فينا حين نقرأها، فإن العالم السفلي في مدينة كراكوف رحلة في عوالم الموسيقى والفن والجمال. نعم بعيدًا عن وجه الشارع الظاهري، ترنّم أحشاء كراكوف بفرح رغم الهدوء الذي يسود المكان.
تصلين إلى باحة تبدو فارغة، تقتربين من سلّم سقفه منخفض، تنزلين درجاته نحو الأعماق، تعبرين ممرًا ضيّقًا، تشعرين بنسائم منعشة تبدأ باستقبالك، وبعدها تتسرب إلى مسمعيك أصوات وحرطقة صحون وفناجين وكؤوس، ولعلعة ضحكات، وأنغام موسيقية تصدح في الأجواء... لتجدي نفسك وسط عالم سفلي يعود إلى القرن الرابع عشر.
فإذا كانت غالبية المعالم التاريخية في كراكوف قد شيّدت في تلك الفترة، وحافظت على مظهرها الأصلي، فإن جدران الآجر وخزائن هذا العالم السفلي تدخلك في عالم مشحون بالتاريخ والغموض.
هل يمكنك أن تتصوّري نفسك تتناولين عشاءك، أو ترتشفين قهوتك أو فنجان الشاي في قبو يعود إلى سبعة قرون؟ هل فكرت يومًا في نوع كهذا من المغامرات في العالم السفليّ؟ إذًا كراكوف تفعلها مع سكانها وزوّارها. وأنت سوف تدركين أن كراكوف تخبئ لك أفضل ما لديها من المطبخ العالمي، والسهر هنا في جوفها الممتلئ بالتاريخ وآثاره.
يمكنك تناول العشاء في Pied Aniolami أو أكوا فينو Aqua Vino، أو تكملين سيرك نزولاً نحو بلاك غاليري. أمّا إذا قررت الاستماع إلى الموسيقى، فهناك الكثير من النوادي الليلية في الطوابق السفلية بأسقفها المقبّبة التي توحي لك بأنك اخترقت ساعة الزمن فعادت بك عقاربها الى الماضي السحيق لترميك في جوف القرون الوسطى.
ما رأيك بالاستمتاع بموسيقى الجاز في أحشاء المدينة حيث تقع معظم نوادي الجاز مثلPiec’ Art وJazz Club U Muniaka و«جاز روك كافيه» وهنا يتم تنظيم العديد من الأحداث والحفلات الموسيقية والمعارض.

التجوال في أروقة المعرفة
عندما تكونين في كراكوف، لا يمكنك أن تفوّتي زيارة جامعة جاجليون التي شيّدت في منتصف القرن الرابع عشر عام 1364 وكليتها مايوس Collegium Maius التي أُسست في القرن الخامس عشر.
وجاجليون أقدم جامعة في بولندا، وواحدة من أقدم جامعات أوروبا. أما جوهرتها ففناء خارجي بقناطر أنيقة، يمكن الدخول إليه من دون قيد أو شرط. كل يوم عند الساعة الواحدة تطلق الساعة الغريبة أغنية  الطلاب القديمة «Gaudeamus Igitur» خلال استعراض مجموعة من التماثيل الصغيرة.
وفي داخل الكلية تكتشفين بعض الكنوز الجامعية، بما في ذلك الآلات الفلكية النادرة التي تعود إلى القرن السادس عشر، يقال إنها تعود للعالم الرياضي والفلكي نيكولاس كوبرنيكوس استعملها خلال أبحاثه. ولا تفوتي رؤية أقدم مجسم للكرة الأرضية في العالم، يعود إلى عام 1510.
لا تترددي في المرور بصالة أولا Aula  المثيرة للإعجاب التي تنظم فيها الاحتفالات بسقفها المزخرف بنمط عصر النهضة، فيما تشغل جدرانها صور الملوك وأساتذة الجامعة والشخصيات المموِّلة لهذا الصرح الثقافي عبر التاريخ.

بلاك نوفي Plac Nowy استعمتي بالسوق وغاليريات الفن ومقاهي الرصيف
يمكن الادعاء أن بلاك نوفي كانت قاعة مستديرة من الطوب الأحمر تضم سوق اللحوم. ولكنها تحولت اليوم سوقًا يضم مقاهي الرصيف التي يرتادها طلاب الجامعة ومحبو السهر ليتناولوا شطيرة زابييكانكي Zapiekanki والوجبات الخفيفة الأخرى.
ويمكن القول إن هذه السوق ملاذ الفنانين البوهيميين بكل مذاهبهم، المأخوذين بالتاريخ الفني الثري. تصطف في هذه الساحة الفريدة من نوعها المقاهي والنوادي الليلية، وتحديدًا ألشيميا Alchemia  وهي مكان مثالي لمراقبة المارة وفي الوقت نفسه للتنقل بين النوادي الموسيقية.
فيما تتكاثر غاليريات الفن في الشوراع المحيطة بها، وكذلك سوق البرغوت وسوق الطعام. ورغم أن بلاك نوفي كانت جزءًا من المدينة الملكية كازيمييرز Kazimierz التي يعود تاريخ إنشائها إلى عام 1335 والتي كانت تعتبر مدينة مستقلة حتى بدايات القرن التاسع عشر، فإنها تستحق اسمها «الفضاء الجديد» Plac Nowy، فوجهها يتغير دائمًا والإبداع فيها لا يتوقف.

متحف تشارتوريسكي Czartoryski
 لا يمكن أن تفوّتي زيارة متحف تشارتورسكي في كراكوف، فهذا المتحف يضم مجموعات الأعمال الفنية الأقدم في بولندا. وفي التاريخ أنه عام 1796 قرّرت الأميرة إيزابيلا Czartoryka تأسيس أول متحف عن تاريخ بولندا، في مدينة بولوي. ثم بعد ذلك، تم نقل كل المجموعات إلى كراكوف عام 1874 ووضعت في الترسانة القديمة، داخل أسوار المدينة. ومنذ ذلك الوقت، أصبح هذا المتحف من أغنى المتاحف في المدينة ويعرف بمتحف تشارتوريسكي.
عند المدخل تُستقبلين بعرض السلاح والدروع والسروج والسجاد التركي وخيمة الحملة... كل هذه المعروضات استُرجعت بعد معركة فيينا عام 1683.
فيما يحتوي جناح الآثار على بعض كنوز المتحف: المومياءات المصرية، توابيت الأترورية، الأختام الأسطوانية البابلية، والزهريات اليونانية أو التماثيل الرومانية. في الطبقة نفسها ينتظرك الكثير، بما في ذلك قناع الموت لفريدريك شوبان، وقبعةTricorn Hat التي تعود إلى آخر ملوك بولندا: ستانيسلاف أوغوست بونياتوفسكي الثاني.
أمّا الطبقة العلوية فتضم روائع الفن الأوروبي بما في ذلك «سيدة الإرمين» The Lady With an Ermine  للفنان الإيطالي  ليوناردو دا فينشي وتعود إلى عام 1482، وستؤخذين بالمناظر الطبيعية بلوحة رامبرانت «ريف السامري الصالح» عام 1638. لا أحد يستطيع أن ينكر الذوق الراقي والمرهف لأمراء تشارتوريسكي.

زابييكانكي
شطيرة زابييكانكي، عبارة عن باغيت فرنسية مفتوحة، يوضع فيها الفطر الأبيض المقلي ومن ثم تُدهن بالجبن، ويمكن إضافة مكوّنات أخرى وفق الذوق، وتحمَّر في الفرن إلى أن يذوب الجبن.


تجربة لا بد منها... الدراجة الهوائية في البلدة العتيقة

انطلقي بسرعة في شوارع معبّدة مغلقة أمام السيارات وتجاوزي بكل سرور المشاة وأنت تركبين دراجة هوائية في البلدة القديمة. يمكنك استئجار درّاجة والانضمام إلى جولة Krakow Bike Tours. تستغرق الجولة أربع ساعات، وهي وسيلة رائعة لاكتشاف كراكوف بكل تفاصيلها.

حقوق ماغديبورغ، هي حقوق وضعها الإمبراطور أوتو الأول (936-973)، وتضم مجموعة من الامتيازات كان يمنحها الحاكم المحلي للمدينة الواقعة تحت الحكم الروماني استنادًا إلى القانون الفلمنكي. وتمنح هذه الحقوق، المدن والقرى درجة من الحكم الذاتي الداخلي. وقد سمّيت باسم المدينة الألمانية ماغديبورغ.