بين الأب وابنته...الحبّ الأوّل والبطل الأزلي

بين الأب وابنته,الحب الأول,البطل الأزلي,أوقات عصيبة,أهواء,متقلبة,بر الأمان,الطمأنينة,أغلب,الرجال,ضمانة,علاقة,منذ الطفولة,توتر,المراهقة,تفاهم,مرحلة النضوج,إيجابيات,سلبيات,شهادات,مريم أبو نادر,إلياس,لونا سعد,إسكندر,ميا أبو شقرا,فؤاد أبو شقرا,روبير مرعي,ميلين وسيليا,جوزيف قرقماز,موريس ديراني,ماري-هيلين

دينا الأشقر شيبان 20 نوفمبر 2016

 بين الأب وابنته علاقة لا يفهم خباياها إلاّ الطرفان، إذ قد تمرّ بأوقات عصيبة وأهواء متقلّبة ولكنها سرعان ما تتحوّل إيجابيّة وترسو على برّ الأمان والطمأنينة.

فصحيح أنّ أغلب الرجال منحازون ضمنياً إلى أولادهم الذكور، ويفتخرون بوليّ العهد، أي ضمانة استمراريّة العائلة واسمها، لكنهم يُكنّون معزّة خاصة لبناتهنّ، سواء اعترفوا بذلك أو لم يعترفوا. إذ يُقال إنّ الفتاة سرّ أبيها ومدلّلته الأولى، وهو مثالها الأعلى وحاميها! فكيف يمكن تفسير علاقة الأب بابنته؟


يتجلّى حلم كلّ زوجين في تأسيس عائلة وإنجاب البنين والبنات... وتختلف ردود الفعل الأولية إزاء جنس المولود، وخاصة من جانب الأب الذي يطمح بأن يصبح «أبو فلان»، لما في ذلك من مفخرة اجتماعية واكتفاء نفسي. إلاّ أن من المؤكّد أنّ معظم الرجال يبنون علاقة وطيدة ببناتهنّ، لا بل وتكون أقوى وأمتن من علاقتهم بأبنائهم، وذلك لأسباب نفسيّة وعاطفيّة عديدة، أبرزها قدرة الإناث على التواصل والتعبير عن المشاعر وإظهار المودّة والعاطفة بطريقة واضحة وعفويّة.
بيد أنّ العلاقة بين الأب وابنته خاضعة لمعايير مختلفة، وتتأرجح بين الإيجابيّة والسلبيّة، ما بين الطفولة والمراهقة وسنّ الرشد والنضج... إذ تكون تارةً «مثاليّة» وقويّة عاطفياً وسعيدة عائلياً، وطوراً مليئة بالألغاز العاطفية والتقلّبات المزاجيّة والتباين في وجهات النظر.
تشرح الاختصاصيّة في علم النفس والأستاذة الجامعية، الدكتورة كارول سعادة، عن طبيعة العلاقة ما بين الأب وابنته، ومختلف المراحل التي قد تمرّ بها، منوّهةً بالدور الإيجابيّ الذي تلعبه في حياة الوالد والفتاة على حدّ سواء، وعارضةً للجانب السلبيّ لها إن وُجد، ولانعكاسات غياب الأب عن العلاقة. كما نستعرض شهادات كثيرة لآباء وبناتهنّ، يتكلّمون عن طبيعة العلاقة بينهم.

علاقة منذ الطفولة
تقول الدكتورة سعادة: «في أيّامنا هذه، تنشأ العلاقة ما بين الأب وابنته منذ تكوّنها في رحم والدتها. إذ بمجرّد أن يعرف من خلال الصورة الصوتية أنّ زوجته حامل بفتاة، تنتابه مشاعر متعدّدة ويبدأ بإسقاط أحلامه وطموحاته ورغباته، كما هواجسه ومخاوفه على ابنته منذ هذه المرحلة. فالأب هو الحامي الأوّل للعائلة والأولاد، وتترتّب عليه مسؤوليّات مضاعفة في نظره إزاء ابنته الحسّاسة والرّقيقة، فيأخذ على عاتقه مهمّة متابعتها وحمايتها والانتباه إليها وإحاطتها منذ الصّغر». وتجدر الإشارة إلى أنّ الأب لا يفرّق عادةً في المحبّة بين أولاده، وإن كان علناً يفتخر بابنه الذي سوف يضمن استمراريّة العائلة! إذ إنّه نفسياً وفي اللاوعي يكوّن علاقة حبّ ومودّة مع جميع أولاده ويحرص على تأمين الأفضل لهم.
تتابع سعادة: «تفتح الفتاة عينيها على الدنيا محاطةً بنساء عديدات ولكلّ منهنّ دورها الخاص، ولا ترى إلاّ رجلاً واحداً: والدها الذي يكون حبّها الأوّل. وقد يتجسّد ذلك في «عقدة أوديب» في عمر الثلاث سنوات، الذي هو عبارة عن الحبّ اللامحدود من الفتاة للأب، ومحاولة احتلال مكان الأم التي تصبح المنافسة لها... ومع الوقت، تكتشف الفتاة أنها تحبّ والدها ولكنها ليست مغرمة به».
إلاّ أنّ الأب هو بلا منازع «البطل» في حياة ابنته الصغيرة، بحيث يمثّل «الرّجل الأفضل والأقوى والأجمل» في العالم بالنسبة اليها، وتلجأ إليه لأنه يدلّلها ولا يقسو عليها ولا يرفض لها طلباً. وفي مرحلة الطفولة هذه، يلعب الأب أيضاً دوراً بارزاً في تكوين شخصيّة ابنته ويساعدها على بناء ثقتها بنفسها وهي تتطوّر بحسب نظرته إليها وتشجيعه الدائم ومساندته لها في مختلف قراراتها وتفهّم حاجاتها.
تؤكّد الدكتورة سعادة «ضرورة المحافظة على العلاقة السوية والمتوازنة بين الأب وابنته منذ الصغر، فلا يجوز أن ينصهرا نفسياً وعاطفياً، وأن تغيب السلطة الأبوية عن العلاقة. فالعلاقة الأمثل هي تلك الثلاثية بين الأب والأم والابنة، لمعرفة حدود كلّ منهم داخل العلاقة. فلا يجوز مثلاً محاولة التعويض عن النقص العاطفي مع الأولاد وإهمال الشريكة».

توتّر أثناء المراهقة
يخضع الإنسان في سنّ المراهقة بحدّ ذاته لضغوطات وتقلّبات هورمونيّة ونفسيّة وعاطفيّة، ما ينعكس احياناً تبدّلاً واضحاً في التصرفات وحتى في الأولويات.
ترى الدكتورة سعادة أنّ «من البديهيّ أن تتبدّل أولويات الفتاة المراهقة عند اكتشافها لهويّتها. إذ تشهد هذه المرحلة من الحياة تقلّبات ورفضاً لصورة الأهل ومبادئهم وأفكارهم وطريقة عيشهم احياناً، فيكون هذا «التمرّد» طبيعياً في هذه السن. إذ تسعى الفتاة إلى تكوين هويّتها الخاصة وفرض وجهات نظرها وتتطوّر لتصبح «مشروع امرأة» ناضجة، ما يفرض نوعاً من الجفاء او البُعد الموقّت ما بين الفتاة والأب. إذ تتغيّر اهتماماتها وتحاول عيش قصّة حبّ خاصة بها، وتهتمّ بشكلها الخارجيّ... فترى نفسها في أمّها أكثر وتلجأ إليها طلباً للنصيحة والدّعم أحياناً». ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه المرحلة صعبة على الوالد أيضاً، إذ عليه أن يتقبّل البُعد والمسافة اللذين تخلقهما ابنته عنه بعد أن يكون قد اعتاد وجودها إلى جانبه واستشارته هو. كما قد تمرّ العلاقة بتوتّر وتشنّج ولحظات انكسار وتباين في وجهات النظر بينهما، لكنها عابرة في معظم الأحيان ولا تنعكس سلباً على العلاقة ككلّ.

تفاهم في مرحلة النضوج
تقول سعادة: «في مرحلة النضوج، تبرز سلسلة جديدة من التحديات التي ترخي بثقلها على الأب. فعند زواج ابنته، تنتاب الأب مشاعر متناقضة، بين الفرح والسعادة من جهة، والحزن والغصّة من جهة أخرى، إذ يشعر أنه لم يعد الرجل الأوحد في حياتها، لا بل إنها قد «استبدلته» بآخر. وبعد تخطّي «الصدمة العاطفيّة» تلك، ينهمك في التحضير لمكانته الجديدة المرتقبة، أي «الجدّ»، ويحوّل عاطفته نحو الأحفاد. وهنا، تصبح العلاقة بين الأب وابنته اكثر متانةً، إذ تلجأ «الأم الجديدة»، أي ابنته، إليه للنصائح والاستشارات». وتتطوّر العلاقة لتصبح علاقة من الندّ إلى الندّ، مع احترام السلطة الأبويّة والحدود العائليّة بالطبع.

إيجابيّات العلاقة بين الأب وابنته
تؤكّد الدكتورة سعادة أنّ «العلاقة المستندة إلى العاطفة والاحترام المتبادل والحدود الواضحة بين الأب وابنته، علاقة مثاليّة، يكمّلها وجود الأم المعنوي والعاطفيّ والجسديّ، لتكوين أسرة سعيدة. إذ إنّ وجود الأب في حياة ابنته منذ الصغر، يساهم في نجاحها، سواء في حياتها العائلية والشخصية أو حتى الاجتماعيّة والعمليّة. إذ يكون هو مصدر الأمان بالنسبة اليها، ويصقل شخصيّتها ويعزّز ثقتها بنفسها، ما ينعكس على خياراتها في الحياة، وبخاصة في انتقائها لشريك حياتها، الذي غالباً ما ترى فيه الصفات الحميدة التي تحبّها في والدها».
وتتابع: «وأما من جهة الأب، فهو فخور لا محالة بابنته، التي تشكل مصدر العاطفة والحنان بالنسبة إليه، إذ تهتمّ به «على طريقتها» في مختلف مراحل حياتها، ويبقى في نظرها «الملك والبطل»، ما يعزّز أيضاً ثقته بنفسه، ويفرض عليه مهمّة الإحاطة بها ورعايتها على الدوام، لأنه يشعر بأهمّيته بالنسبة اليها». فغالباً ما نلاحظ ميل الأب الى بناته على حساب أبنائه «عاطفياً» فقط، لأنه يتواصل معهنّ بطريقة مختلفة. ويبرز ذلك جلياً في شيخوخة الأب، بحيث تهتم به بناته وترعينه بلا تذمّر.

سلبيّات غياب صورة الأب
تنوّه الدكتورة سعادة بأنّ «غياب الأب من حياة الفتاة يؤثر سلباً في تعاملها مع الرجال، فقد تتعلّق بشاب بدرجة غير طبيعية، محاولة التعويض عن صورة الأب المفقود، للحصول على الحماية والحنان والأمان، ما قد يُدخلها في دوّامة كبيرة، تؤدي إلى القبول بعلاقة مضرّة بها ومسيئة إليها». كما قد يتسّبب ذلك في فشلها في التعامل مع المجتمع وفي ضعف شخصيّتها وخياراتها المتردّدة والخاطئة».

شهادات آباء وبناتهنّ
مريم أبو نادر ابنة إلياس الوحيدة ومدلّلته، تقول إنها بمثابة صديقة لوالدها، خاصة بعد انفصاله عن والدتها. فهي تحرص على تمضية اوقات خاصة معه وتشاركه أسرارها وتتقرّب منه وتستمع إليه. كما تستفيد من خبراته في الحياة وتستشيره قبل الإقدام على الخطوات المهمّة في حياتها. تؤكّد ان وجوده مهمّ كثيراً في حياتها وتعتبره من الرجال العصاميين وتفتخر بأنها ابنته.
لونا سعد وأبوها إسكندر يعيشان علاقة قريبة ومتوازنة ومتينة رغم البعد الجغرافيّ بينهما. إذ تتذكّر لونا تعلّقها بوالدها منذ صغرها وحنانه وحبّه لها. وتؤكّد أنّ قوّة العلاقة بينهما أزليّة مهما طالت مدّة غيابه وابتعدت المسافة. فهما على تواصل دائم رغم عمله خارج البلاد. فقد نجح في ألاّ يشعرها بغيابه النفسي والمعنويّ... وتقول لونا إنها تكلّم أباها يومياً وتُطلعه على تفاصيل حياتها وتأخذ بنصائحه وتفتخر به وتقدّر كلّ الأوقات التي يمضيانها معاً. كما تحرص على السفر مع أمها وأخيها لرؤية والدها في حال تعذّر عليه المجيء إليهم، وذلك للحفاظ على أواصر العائلة المترابطة دوماً.
ميا أبو شقرا ابنة المدرّب الرياضي فؤاد أبو شقرا تتمتع بعلاقة متينة مع والدها، وفق قولها، لأنها تشبهه كثيراً في طباعه، وهو مثالها الأعلى وتستمدّ منه القوّة في لحظات ضعفها. تقول إنها تتطلّع إليه منذ طفولتها، إذ يلعب دور «المدرّب» الذي يحفّز أولاده في البيت ويدفعهم دوماً إلى الأمام. تستفيد كثيراً من خبراته وتتمثل به وتحبّ أن تحذو حذوه، وهما يقومان معاً بنشاطات مشتركة. وهي فخورة بأنها تشبهه شكلاً ومضموناً.
روبير مرعي أب لفتاتين صغيرتين، ميلين وسيليا . يقول إنه خلافاً لما يرسّخه المجتمع من مفاهيم خاطئة عن البنات والأبناء، وعن ضرورة إنجاب ولد لضمان استمرارية العائلة وديمومة الاسم، فهو يرى أنّ الفتاة هي الأساس في العائلة وخاصة في المستقبل. إذ يؤكّد أن ابنتيه هما كلّ حياته ولا يفكّر في إنجاب المزيد من الأولاد. يقول إنهما متعلّقتان به كثيراً وتظهران له ذلك كلّ يوم مع أنهما صغيرتان في السن، إذ تحبّان «الاعتناء» به على طريقتهما، وتدليله وتقبيله واللعب معه باستمرار. ويشير إلى أنه سعيد للغاية وفخور برؤيتهما تكبران أمامها.
جوزيف قرقماز أب لشاب واحد، فريديرك، وثلاث بنات، لاريسا وسينتيا وفانيسا . يقول إنّ عاطفته بالطبع مقسّمة على كلّ أولاده، لكنه يشعر بالضعف إزاء بناته. فلا يرفض لهن طلباً ويدللهنّ ويحرص على تمضية أوقات الفراغ معهنّ والقيام بنشاطات خاصة بهنّ. من جهتها، تؤكّد ابنته الكبرى لاريسا أن أبيها بطل في نظرها وهو مثالها الأعلى في الحياة. كما أنه يقف إلى جانبها، وخاصة في فترة المراهقة، لأنها تحتاج إلى وجوده وتفهّمه ونصائحه. كما ان ابنتيه الصغيرتين فانيسا وسينتيا تحبانه كثيراً وتدلّلانه على الدوام وتلازمانه كالظل عندما يأتي إلى المنزل.
موريس ديراني والد ماري-هيلين ، المراهقة التي تخرّجت للتوّ من المدرسة ودخلت العالم من الباب العريض. يقول إنه يحرص دوماً على التواجد في حياة ابنته وعلى إحاطتها وحمايتها قدر المستطاع، لكنه يترك لها حرية الاختيار والتصرّف، فلا يقمعها أو يقسو عليها، وإنما يشعرها بوجوده وينصحها ويرشدها حتى تتمكّن من القيام بالخيارات الصحيحة. هو فخور بما قد أصبحت عليه ابنته «الصغيرة» ولن يدّخر جهداً لتوفير السعادة ورؤية الفرح في عينيها.