الدكتور جابر عصفور: لم أترك شيئاً ينبغي أن أتعلمه إلا وتعلّمته

الدكتور,جابر عصفور,وزير,الثقافة,كتاب,بعيداً عن مصر

طارق الطاهر - (القاهرة) 08 يوليو 2017

«بعيداً عن مصر»، هو أحدث كتب الدكتور جابر عصفور، والصادر عن الدار المصرية - اللبنانية، ويعد جزءاً من السيرة الذاتية للدكتور عصفور الذي بدأ حياته الأكاديمية بين جدران كلية الآداب في جامعة القاهرة، وتتلمذ على يد أساتذة كبار بقامة الدكتور طه حسين والدكتورة سهير القلماوي.


في هذا الكتاب، يروي الدكتور عصفور علاقته بهذين الأستاذين وتأثيرهما فيه: «كنت أحلم - وأنا طالب جامعي-  أن أمضي في طريق طه حسين، فأستكمل تعليمي العالي بعيداً عن مصر، ومرت الأعوام الدراسية، وتفوقت وأصبحت معيداً في الجامعة سنة 1965، وفي قسم طه حسين، واقترب تحقيق الحلم، ولكن جاءت كارثة 1967  لتجهض الحلم، فحصلت على الماجستير سنة 1969، ولم يكن هناك مفر من استكمال الدكتوراه في جامعة القاهرة، ووعدتني أستاذتي سهير القلماوي بأن أذهب في منحة دراسية إلى الولايات المتحدة لاستكمال أدواتي في النقد الأدبي، ودراسة تيارات النقد الجديدة التي أخذنا نسمع عنها، ولذلك ذهبت إلى الجامعة الأميركية بالقاهرة، ودرست ما يؤهلني لفهم اللغة الإنكليزية والكتابة بها، ولكن المنحة التي وعدت بها طارت، وبقي حلم السفر لا يضيع».
هذا الحلم بالسفر هو ما دفعه الى مغادرة القاهرة والسفر إلى أميركا والسويد للتدريس في جامعاتهما، وقد اختار الدكتور جابر عصفور أن يروي تفاصيل هذه الزيارات وتأثيرها النفسي والعلمي وأثرها في تكوينه المعرفي، وتحقيقه حلمه في السفر الى الخارج لنيل درجة علمية، لكنه سافر بعد أن حصل على الدكتوراه، لتكون أولى سفرياته أستاذاً زائراً في جامعة وسكنسون-  ماديسون عام1977.
يتذكر الدكتور عصفور هذه اللحظات وتأثيرها فيه قائلاً: «منذ أن وضعت قدمي في هذه الجامعة العزيزة على قلبي، عاهدت نفسي أن أحقق في اثني عشر شهراً ما يحققه غيري في أعوام، وبالفعل واصلت العمل ليلاً ونهاراً، فكنت طالباً مجتهداً وأستاذاً ملتزماً، ولم أترك شيئاً ينبغي أن أتعلمه إلا تعلمته، ولا كتاباً يستحق أن أقرأه إلا قرأته، وكان عاماً كاملاً مرهقاً، امتد من العام الدراسي إلى أشهر الدراسة الصيفية، فقد سافرت في آب/أغسطس 1977 وعدت في آب/أغسطس 1978».
وعن المهارات التي اكتسبها من هذه التجربة التي استمرت عاماً، يشير: «وأشهد أن هذه الأشهر هي من أجمل أشهر العمر، لا لأنني عرفت فيها الجامعات الأميركية للمرة الأولى التي تشبه في بهجتها الحب الأول، ولكن لأنها وضعت قدمي على الطريق المنهجي الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة في النقد الأدبي، وأسهمت في إحداث قطيعة معرفية مع كثير مما كنت أعتقده صواباً من قبل، وما عرفته بعد أن اتسعت حدقتا الوعي المعرفية على كل المستويات».
ربما تأخر سفر الدكتور عصفور إلى أميركا، وتبدل الأحوال، ففي المرة الأولى كان يسافر بصفته طالباً يريد أن يحصل على الدكتوراه، لكنه لم يتمكن بسبب حرب 1967، لكنه عندما سافر بعدها بسنوات أستاذاً زائراً كان حبه أن يظل تلميذاً بادياً على طريقة تعامله مع العالم من حوله، وهو ما أفصح عنه بقوله: «ولم يكن من الغريب أن أفيد من الأشهر التي قضيتها في هارفارد، وأن تزدوج شخصيتي، فأكون أستاذاً زائراً وتلميذاً، وأن أقيم علاقات مع الأساتذة المهتمين بالنقد الأدبي، وأن أشارك في الأنشطة الثقافية، فقد كانت هارفارد في زيارتي الأولى أشبه بمدينة العجائب المعرفية والثقافية التي لا تنتهي، لكن المؤكد أن أجواءها كانت أكثر محافظة من جامعة وسكنسون- ماديسون، التي هي جامعة إقليمية في نهاية الأمر، أو جامعة استوكهولم التي ليست في مستوى ولا غنى ولا عراقة ولا تقدم جامعة هارفارد».
قيمة كتاب الدكتور عصفور هي أنك تستطيع أن تقرأ منه ملامح الفترات الزمنية التي كان يغادر فيها خارج البلاد، فهو لا يكتب عن ذاته فقط، بل عن مجمل ما يدور حوله، لذا لا يفوت مثلاً، أن يعقد مقارنة بين نظام التعليم في جامعة القاهرة وجامعة وسكنسون- ماديسون، وهنا يلفت: «كانت المسافة كبيرة بين ما تعلمته في القاهرة، وما أخذت أتعلمه بفضل إقامتي في جامعة وسكنسون-  ماديسون طوال العام الدراسي 1977-1978، الذي تفتحت لي فيه آفاق من المعرفة التي لم أكن أعرف عنها شيئاً معمقاً من قبل، فأدركت هوة المسافة بين التخلف والتقدم، ومعنى أن يكون المرء حبيس مدار منغلق معرفياً، مقابل فضاء مفتوح من المعرفة التي لا تكف أدوات إنتاجها وعلاقاتها عن التجدد والتحول، لذلك لم تتوقف صدمتي بالجديد الذي حرصت على تعلمه، مقابل سخطي الذي تزايد على جمود أوضاعنا الثقافية بوجه عام، والمستوى الأكاديمي المتدني لجامعاتنا بوجه خاص».
الكتاب لا يخلو من سرد مواقف حرجة اعترضت طريق الدكتور عصفور في هذه الأسفار، منها مطالبة الضرائب في ولاية وسكنسون له بدفع المبلغ الذي قدرته عليه في فترة تدريسه بجامعتها، ولم يكن معه ما يكفي قيمة هذه الضرائب، والمفاجأة السارة التي حدثت له هي: «قبل أسابيع قليلة من العودة، فوجئت بخطاب من إدارة الضرائب في الولاية، يطالبني بدفع الضرائب التي قدرتها الإدارة، بناء على معاييرها، ومن عاش في الولايات المتحدة يعرف جدية هذه الإدارة وتنفذها القانوني المباشر، الذي يؤدي إلى سجن المتهربين من الضرائب، وعندما فتحت خطاب الضرائب في مكتبي وقعت في حيص بيص، كما يقول العرب القدماء، ولم أكن أملك عشر المبلغ الضخم الذي يطالبونني به (آلاف عديدة من الدولارات). وكنت أعرف خطورة هذا الخطاب، فطلبت رقم التليفون المطبوع على الخطاب للاستعلام، وتحدد لي موعد مع المسؤول بعد عدة أيام، ولم أنم في هذه الأيام من القلق، والتفكير في إمكان استدانة هذه الآلاف العديدة، لكن ممن وكيف؟ وفي النهاية سلمت أمري إلى الله، وذهبت لمقابلة المسؤول»، وهنا اكتشف الدكتور عصفور أن هناك معاهدة بين أميركا ومصر، تنطبق على حالته، فتم إعفاؤه من هذه الضرائب.
ومن الطرائف–  أيضاً-  التي حدثت له، أنه وهو في أيامه الأولى في السويد، كان لا يزال يحدد الوقت بضوء الشمس: «ومضت الحياة في برد أكثر من أن يكون قارصاً، أيام لا أرى فيها ضوء الشمس إلا لسويعات قليلة، وهي معضلة أخرى، كان لا بد لي أن أتكيف معها، فنحن أبناء الشرق الأوسط نصحو مع شروقها ونذهب إلى النوم بعد غيابها في ظلمة الليل، وأذكر أنني أضعت الدروس التي كان عليَّ أن أقوم بتدريسها في اليوم الأول، فقد كنت أصحو فأجد الغرفة مظلمة ولا شمس ولا نور وراء الستائر، فأواصل النوم إلى أن مللت من النوم، فأضأت المصباح المجاور للسرير، فإذا الساعة جاوزت العاشرة صباحاً، وكانت محاضرتي الأولى تبدأ في هذا الوقت، فقمت مهرولاً، وبالطبع أضعت المحاضرة، ولذلك قررت أن أصحو على صوت جرس المنبه».
الكتاب يروي فيه مؤلفه تفاصيل جمعه الكتب من أماكن شتى في العالم، هذه الهواية التي لا يكف عنها أبداً.{