«إبنة أبيها» صداقة من نوع خاص

فادية عبود (القاهرة) 18 أغسطس 2017


«كل فتاة مغرمة بأبيها»، مقولة شهيرة؛ فكل فتاة تجد في أبيها مواصفات فارس الأحلام الذي تنتظره ليخطفها على حصانه الأبيض، لكن قليلات من تجمعهنّ صداقة فريدة مع آبائهنّ، وينطبق عليهن وصف «بنت أبيها»، فما شكل علاقة مثل هؤلاء الفتيات بآبائهن؟ وإلى أي مدى تؤثر تلك الصداقة في شخصيات الفتيات؟، «لها» تحقق.


مريم أمين
على رغم  كون المذيعة مريم أمين الابنة الوسطى، إلا أنها الأقرب إلى أبيها وتجمعها به صداقة من طراز خاص، وعنها تقول: «نشأت صداقتي مع والدي منذ أدركت في طفولتي أنه الأكثر تفهماً لي، وربما أكثر من أمي نفسها، دائماً ما يثق فيَّ ويدعمني ويحضّني على النجاح والتقدم وحب الناس، والجميع يطلقون عليَّ «حبيبة أبي» أو «دلوعته»، ففي كل مرحلة حياتية مررت بها كان أبي يستوعبني. في الطفولة، كان يفتح مداركي بالنقاش، وفي المراهقة دعمني بحب أكثر وتفهم أكبر، وفي مرحلة العمل وجدته أكثر تفهماً، يدرك أنني كبرت ويمنحني مزيداً من الخصوصية، يقدر نجاحي ويدفعني إليه، ويتفهم علاقاتي بزملائي وظروف تأخري عن المنزل بسبب التصوير، وكذلك سفري دائماً، بخاصة عندما كنت أعمل بدبي، فهو صديقي لدرجة أنه كان يرفض أن أستقل سيارة أجرة لتوصلني إلى المطار فيحرص دائماً على أن يوصلني إلى المطار ويودعني وأن يكون في استقبالي عند عودتي، ذلك كله جعل صداقتنا في مرتبة عالية ومتميزة».
تتابع مريم: «أنا فخورة لكوني ابنة أمين إسحاق، فكثير من الناس لا يهتمون لشهرتي ويقفون ليسلموا عليَّ فقط لكوني ابنة ذلك الرجل، فهو منبع حب وعطاء لجميع الناس، حتى في أحلك الظروف يكون أكثر مساعدة ودعماً للآخرين، فأصدقاؤه يطلقون عليه «أبو الجدعنة»، ومن هنا علمني حب الناس وضرورة مساعدة الآخرين، فهو دائماً ما يدفعني إلى أداء الواجب، يفاجئني بأن زميلة قديمة في التلفزيون تمت ترقيتها ويطلب مني الاتصال لتهنئتها وأداء الواجب الاجتماعي، وفي حالات الوفاة يخبرني ويطلب مني الذهاب لتأدية واجب العزاء، حتى وإن كنت على خلاف مع أحدهم؛ فدائماً يؤكد أن أداء الواجب ليست له علاقة بالخلافات الشخصية، وأن الدنيا لا تستحق الخلاف مع الأشخاص».
وتضيف: «لعل تفاصيل الحب والاهتمام والرعاية هي التي تجعلني مغرمة أكثر بأبي، فمثلاً لو كان لديَّ عمل في الصباح الباكر من الممكن أن يوصلني لكي يطمئن، ولا يعود إلى المنزل من دون أن يتصل بي ليسألني هل أحتاج شيئاً من الخارج، تلك التفاصيل المغمورة بحب وحنان تجعلني أسيرة حب أبي وليس صداقته فقط، فهو لم يحجر على رأيي مطلقاً، ولم يفرض رأيه وسيطرته على تصرفاتي إطلاقاً، بل يمنحني الثقة والأمان، ولعل هذا هو السر في إيقاظ ضميري دائماً، فأنا أخشى أن يتضايق من أي تصرف غير مناسب لي، وبالتالي أحسب تصرفاتي جيداً، لذا أتمنى إن رزقني الله بنعمة الأطفال أن أستطيع تربيتهم كما رباني أبي، وأن أكون لهم صديقة مثله».


تشابه طباع

أما مذيعة الراديو دنيا صلاح عبدالله، فتجمعها صداقة ممتازة بوالدها الفنان صلاح عبدالله، وتقول: «صلاح عبدالله صديقي المقرب، ولا أناديه «بابا» بل «صاصا»، كنوع من الدلع وقوة العلاقة، وهذا خطأ أقع فيه عندما يكون ضيفي على برنامج مذاع على الهواء، فأناديه  «صاصا»، وقد انتشر هذا الاسم أيضاً في الوسط الفني، حتى أن الفنانات اللواتي في مثل عمري ويعتبرنه أباهن وينادينه أيضاً بصاصا».
وتضيف: «أبي صديقي وداعمي في كل القرارات المصيرية في حياتي، لم يربني على الخوف منه مطلقاً، بل تربيت على احترامه واحتوائه لي، بخاصة أن لنا عقليات متقاربة وطباعاً متشابهة؛ إن لم تكن متطابقة، لذلك هو يفهمني من مجرد نظرة إلي، وأنا كذلك إن نظرت إليه أعلم إن كان يفكر في العمل، هل هو سعيد أم لا؟ وهكذا».
تؤكد دنيا أنه على رغم  كونها وأختيها ثلاث بنات، إلا أنها لم تشعر إطلاقاً بأن والدها تمنى إنجاب ولد، أو يرى الولد أفضل، بل كان الأب الصديق لبناته الثلاث، لا سيما أن دنيا الابنة الكبرى.


حب مستمر

الصداقة بين سلمى عزت شعبان، 26 سنة، مترجمة صحافية، وأبيها لم تقتصر على الأمور المنزلية والشخصية فقط، بل كانت زميلته في العمل أيضاً، وتقول سلمى: «لم أقتنع أن عزت هو أبي في طفولتي، وكنت أناديه باسمه، كنت أراه صديقي الذي يلهو معي ويهتم بشؤوني، وعندما دخلت المدرسة رفضت الالتحاق بأوتوبيس المدرسة، وأخبرته أنني لا أريد سائقاً خاصاً، أريده أن يوصلني بنفسه، وبالفعل كان من الممكن أن يترك أي التزامات ويؤجلها من أجل مواعيد ذهابي وعودتي من المدرسة، تلك العلاقة استمرت حتى تخرجي في الجامعة، بعدها شاءت الأقدار صدفة لكونه نائب رئيس تحرير وكالة أنباء الشرق الأوسط، أن الوكالة كانت في حاجة إلى مترجم لغة فرنسية، وهو تخصصي ذاته، وتم قبولي في العمل معه، في البداية طلبت منه أن نخفي كوني ابنته حتى يتعامل معي الجميع على طبيعتهم، ومنذ اليوم الأول لي في العمل كان يوصلني معه ذهاباً وإياباً، وكأن أيام المدرسة عادت من جديد بكل تفاصيلها الجميلة».
وتضيف: «الجميل في أبي أنه لم يرغمني على اتخاذ أي قرارات، فكان يدعمني برأيه، وفي النهاية يقول لي هذا رأيي فقط ووجهة نظري، لكن لك القرار الأخير وأنا أثق بك، فالدعم مع الثقة كانا حافزاً أقوى لي حتى أتخذ القرار الصحيح، وفي بداية العمل كنت أتعرض لضغوط كثيرة، وكنت أعود يومياً باكية؛ وأخبره بأنني لن أقوى على الاستمرار، فما كان منه إلا أن يدعمني ويقول لي «أنت أقوى»، حب أبي لي كان يشبهه أصدقائي بدور الفنان عادل إمام في فيلم «عريس من جهة أمنية»، فهو كان يغار عليَّ من أي رجل يقترب مني، ولم يتخيل أنني سأتزوج وأتركه مطلقاً، لكن جاءت الطامة الكبرى بوفاته منذ أشهر قليلة، فشعرت بوحدة كبيرة، حتى طريق العمل الذي كان يرافقني فيه أصبحت أكرهه، لأنني أمشيه وحيدة الآن».


صداقة ودعم

في المقابل، تؤكد شاهندة سعد، 36 سنة، أن والدها ليس صديقها فحسب، بل مستشارها وحصن أمانها في الحياة، وتقول: «أبي هو ملاذي الأول في هذه الحياة، فصداقتنا بدأت منذ نعومة أظافري، لا أخجل أن أستشيره في أبسط الأمور وأعظمها، والجميل في الأمر أنه لا يفرض عليَّ رأياً مطلقاً، بل يقدم لي النصيحة، وعندما يجدني مصرّة على تنفيذ عكسها يقول لي إنني لن أقتنع إلا إذا خضت التجربة، ويجعلني أخوض التجربة ولا يعارض، وعندما أتورط أو يلحق بي أذى بسبب عدم اقتناعي بمشورته؛ أجده أول من يقف بجواري ويقدم لي العون والدعم، وأبرز مثال على ذلك قصة زواجي، فهو كان معترضاً لكني كنت متمسكة بالعريس بشدة، وأكد لي بالدلائل القاطعة أنني لن أكون سعيدة في هذه الزيجة، لكن مرآة الحب كانت عمياء؛ فمنحني حق التجربة، وبالفعل اكتشفت أنني مخطئة منذ أول سنة زواج، وأنه ينبغي عليَّ الانفصال، لكنني أصررت على استكمال حياتي لأنني كنت أنجبت الطفل الأول، وبعد 7 سنوات زواج انفصلت وأنا أم لطفلين، لجأت إلى أبي من أجل الانفصال فكان نعم السند، حتى عندما قررت العمل كمدربة نفسية للمطلقات؛ دعمني على رغم استنكار أخي ومعارضته».
وتتابع: «أكثر ما يكسر المرأة هو ألا يكون لها ظهر وسند، وأكثر ما يرفع من شأنها أن يكون ذلك السند هو الأب؛ الذي تتكئ عليه، فالأب هو الحب الأول في حياة الفتاة، وإما أن يتحول إلى صديق داعم فيرتقي شأنها، وإما أن يكون شبحاً يرعبها، وهنا تدخل في سلسلة من الأخطاء والمشاكل ولا تجد لها عونًا، فأبي هو الشخص الأول الذي ألجأ إليه إذا ارتكبت مصيبة، ولا أخجل أن أصارحه مهما كان حجم الخطأ الذي ارتكبته، وهو يبحث معي عن حل سريع ويتكفل بالإصلاح».
تشدد شاهندة أن نجاح صداقة أبيها لها انعكس عليها في تربية ابنيها، وتقول: «بسبب حبي لأبي ومعاملته، اتبعت الأسلوب ذاته  في تربية ابنيَّ، فأنا صديقتهما إلى أبعد مدى، وأتبع معهما أسلوب النقاش في التربية، وعلى رغم أنني لم أضربهما مطلقاً ولا أعنفهما لفظياً، يتعجب الجميع من كيفية سيطرتي عليهما وحسن تربيتي لهما، فهما يفهمانني من مجرد نظرة عين، والسر أنني أصادقهما كما فعل أبي معي، وكذلك أستشيره في أمور تربيتهما التي تحيرني أحياناً».


الملاذ الأول

على رغم  أن والدة سها سيد الشيمي، 36 سنة، شخصية قوية، إلا أن أباها شخصية حنونة وأكثر قرباً إليها، وتقول: «أبي كان ملاذي الأول من شخصية أمي القوية دائماً، فهو كان الحنان والحب بلا قيود، فكان يلبي لي الرغبات التي ترفضها أمي بصرامة من دون أن يخبرها، كما كان مستشاري الأول، وعلى رغم تديّنه الشديد، فهو كان يخطب في المسجد وحافظاً للقرآن بعد خروجه إلى المعاش المبكر، إلا أنه لم يجبرني يوماً على ارتداء الحجاب، وكان يجمعنا أنا وإخوتي كل يوم بعد العشاء ليحكي لنا قصص الأنبياء، وعندما كبرنا أخذ يشرح لنا بعض الفقه». تتابع: «دعمني بشدة في زواجي بالموافقة على زوجي، على رغم اعتراض أمي في البداية، وكانت أي طلبات في جهازي تتغاضى عنها أمي أخبره بها فيأخذني ونشتريها معاً، أعتقد أن الذي بيني وبين أبي قصة عشق، فهو مثال للأب الحنون المهتم بأدق تفاصيل أبنائه، فهو كان يعد لنا سندوتشات المدرسة بنفسه، وكان يشتري لي «شرائط الشعر» بجميع  ألوانها، ويحرص على التنزه معنا أسبوعياً في الأماكن الأثرية، حتى يدعم وطنيتنا وحبنا للتاريخ».
وتؤكد سها أنها افتقدت تلك الصداقة والدعم بوفاة والدها منذ أشهر قليلة.


مدرسة حياتية

لا تعتبر الدكتورة غادة عامر الأستاذ في كلية الهندسة، أن والدها مجرد صديق لها، بل تعتبره مدرسة حياتية صقلت شخصيتها ونجاحها منذ الطفولة، تقول: «نحن ابنتان فقط، وإضافة إلى الصداقة مع أبي التي نشأنا عليها، إلا أنه صقل شخصيتي بثقته فيَّ وتنمية حب الاعتماد على النفس، مع مزيج من الحرية الكاملة، فمثلاً كنا نقيم في الخليج، وأبي كان لا يمانع أن أساعده في إنهاء بعض الإجراءات الحكومية هنا في مصر بمفردي، وكان دائماً ما ينمي طموحي بأن مجال الهندسة مفتوح للبنت مثل الولد، وأنه لا صحة بأنها مهنة ذكورية، فأحببت الهندسة بسببه، وأصبحت عضو هيئة تدريس جامعي أيضاً».
وتتابع الدكتورة غادة، التي صنفت ضمن أقوى 100 امرأة عربية في قائمة «أربيان بزنس»: «أبي صديقي ومستشاري الأول، فتربيته لي لم تعتمد على الترهيب وإعطاء الأوامر أو حتى التدليل فقط مطلقاً، بل كان مثل الفلاح الذي غرس بذرة في الأرض ويرعاها بالماء كل فترة حتى يرى ثماره، فأبي غرس فيَّ قيم الصدق والأمانة وحب الاعتماد على النفس والطموح، إضافة إلى الثقة والحرية، فأصبح صديقي الوحيد ومستشاري الأول، فأحكي له أدق أسراري وألجأ إليه في مشاكلي الشخصية أو مشاكل العمل، فكان ينصحني دائماً بألا أكون متسرعة وأن أراجع أخطائي».


عقدة إلكترا

من الجانب النفسي، يؤكد الدكتور أحمد عبدالله، أستاذ الطب النفسي بجامعة الزقازيق، أن صداقة الابنة لوالدها أمر صحي يقيها الكثير من التشوهات والأمراض النفسية، مثل الاكتئاب وفقدان الثقة بالنفس، وأن هذه الصداقة الطبيعية تختلف في مجملها عن عقدة إلكترا، التي تعرف في علم النفس بأنها عشق الفتاة مرضياً لأبيها، والتي يتخللها غيرتها الهستيرية من أمها.
ويتابع: «من أصول التربية الصحية السليمة أن يكون كلا الأبوين صديقاً للأبناء، وأن يزرعا فيهم القيم منذ الطفولة، ويراقبا نموهم بلطف ولين، من دون تدخل سافر في حياة الأبناء، وكأنهما يزرعان نبتة ويرعانها من حين لآخر حتى تكبر ويجنيان ثمارها، وفي المقابل نجد أن الآباء الذين لا يمنحون أبناءهم الصداقة وحسن الاستماع، ويستخدمون أسلوب الأمر والضرب في التربية، يدفعون أبناءهم إلى سُبل الانحراف النفسي، مثل الكذب والادمان والاكتئاب...


أمراض اجتماعية

تتفق معه في الرأي الدكتورة زينب لاشين، أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأميركية، وتؤكد أن أساس التربية هو صداقة كلا الأبوين للأطفال، وليس صداقة الأب لابنته فقط، فهذا يخلق جيلاً سوياً قادراً على التفاعل في المجتمع وتعميره وخدمته.
وتتابع: «لكن معظم الآباء الآن يقعون في فخ عصر السرعة، فالأم خرجت للعمل إما لتحقيق الذات أو التأمين المادي للأسرة، وكذلك الأب منغمس في عمله، وتركا مهمة تربية الأبناء للخادمة والتلفاز وأصدقاء السوء، وبالتالي أصبحنا نعاني العديد من الأمراض الاجتماعية، مثل عدم احترام الصغير للكبير، وعدم التفاعل الاجتماعي المباشر، فالجيل الجديد أصبح غارقاً في الفضاء الإلكتروني، مكتفياً بالتواصل عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، وبالتالي فقد ترابط الأسرة معناه وقيمته، إلا في الحالات التي حرص الآباء؛ على رغم انشغالهم، على صداقة أبنائهم وزرع القيم في شخصياتهم».