جوزف أبي ضاهر... شاعر نظر في المرآة فرأى فصلاً غير الفصول الأربعة

إسماعيل فقيه (بيروت) 03 ديسمبر 2017

يكتب الشاعر اللبناني جوزف أبي ضاهر قصيدته ليرى الصورة أكثر وأوضح، صورة الإنسان والزمن الممتد في أرض المكان وفضائه. ففي القصيدة وحروفها، ثمة عين أخرى، عين ثالثة تحضر فيها الحياة بصخب ووضوح، يحركها الشاعر، يحرك نظراتها في مساحة لا تحدّ. يرى الشاعر أبي ضاهر ما يريد، وأراد أن يرى أكثر مما رأى، فكانت «المرآة» مرآته الباب والنافذة، المسافة المفتوحة على الفصول المتوالية، واكتشف أن المرآة تعكس «الفصول الخمسة»... تحدث الشاعر الى «لها» وكشف أكثر سر المرآة، فماذا قال؟


- الشعر مرآة يرى الشاعر فيها نفسه والعالم. كيف وماذا رأى الشاعر جوزف أبي ضاهر في هذه المرآة؟
نظرت في المرآة، رأيت فصلاً، غير الفصول الأربعة وصل، في غير موعد وصل. أحنيت له رأسي، وضع عليه ما في جيبه من اللون الأبيض. كنت في حاجة إلى اللّون الأبيض لأكمل ألوان لوحةٍ – قصيدة، بدأت رسمها من زمن... وكان ينقصها هذا اللون الأساس، لتخفيف حدّةٍ حجبت عن المشهد شفافيّة سعيت إليها بكلّ مشاعري وتجاربي. العالم خارج هذه المرآة لا يقرأ اللون الأبيض، لا يهمّه اللون الأبيض. لا يعرف دور هذا اللون الأبيض، المن دونه، تخسر الألوان (جميع الألوان) بريقها، وتكون عرضة للتآكل بين بعضها بعضاً. القصيدة مرآتي وليس العكس. لم تخدعني مرّة، لأرى ما ليس فيها. أما ما أراه فليس بالضرورة أن يراه قارئ القصيدة، الباحث عن مرآة يرى فيها وجهه ورغباته وأحلامه، وما دونها يسقطه من الإعجاب، ربّما يتّهمني بالإخفاق في محاكاة مشاعره ومخيّلته. وربّما يكسر المرآة، مرآته، وليس مرآتي.

- ما هو الشعر؟ قيل الكثير في تفسيره. هل وصلت إلى تعريف للشعر والقصيدة؟
منذ نَدَهَني الشعر إليه، وندهني باكراً، بدأت البحث له عن هويّة، في كلّ مكان بحثت، في كلّ زمان. رحت إلى الأحلام، إلى اللغة، إلى المشاعر، إلى الرغبات، إلى العقل... وتوقّفت عند العقل توقّفت. كأن يداً لامست وجهي، صار نظري بحّاراً، أخذتُ مراكب الكلام التي كانت في انتظاري ورحلت.

- إلى أين رحلت؟
لا أعرف. جلّ ما أعرفه أنّني أبحرت. وفي كلّ ميناء كنت أجد قصيدة في انتظاري، فآخذها معي، ونعبر سويّة ظلمات المعاني، وصولاً إلى حيث نجد فجراً في انتظارنا، وبشائر أحلامٍ توزّع صور الذاكرة بالمجان. نأخذ قدر ما نستطيع ونكمل. الرحلة في أوّلها، وستظلّ كذلك، إذ بعد كلِّ شاطئ، وبعد كلّ فجر، كنت ألمح يداً ممسكة بيراع يدوّن نبضي ومشاعري، ويَعدُ كلَّ آتٍ بقصائد جديدة.

أنا والقصائد غرباء عن العالم المحيط بنا. لا نعرف مستقراً لنا يضمّنا، ويقنعنا بكفافٍ.
قبلي، وقبل غيري من الشعراء والكتّاب والباحثين، كُتبت آلاف الكتب للتعريف بالشعر، وبالقصيدة – تحديداً – أترك لأصحاب الشأن العودة إليها. الوقت ملك لهفتي وحبّي، ولن أضيّعه في أمور لا تضيف إلى قصيدتي، ولا تغيّر الدّرب التي سلكت، منذ بدأت.

- متى تكتب، هل من طقوس معيّنة في حياتك تدعوك الى الكتابة؟
ليس الشعر على مودّة مع الوقت. يُخالفه في كلّ شيء ويُسقطه، ويمنعه الاقتراب منه.
ما أُدركه، هو أنّني مذ دخلت «فردوس» اللغة، بدأت أسجل في دفاتري ما يُرى، وما لا يُرى، ما يُلمس، وما حُرّم على اللمس، المعصية غلبت طاعةً فُرضت عليَّ. ارتاح الشوق، ومحى أوهاماً كُنت سجينها، قبل أن يحرّرني الشعر.
قبلت الحرّية شمساً، دَعَتني إلى مرافقتها والكتابة في وهجها... وما زلت.
ما زلت أكتب وأكتب، ولا أعرف استراحة. في كلّ مكان أكتب، في كلّ زمان أكتب، وفي كلِّ أمرٍ أكتب. لا طقوسيّة عندي «لفعل» الكتابة، أغريت «رهبته» فأطاعني، وما عاد الشعر انسلخ عنّي. تجاوزت به فضاءات وعوالم نحو المطلق، وما خَفَتَ شوقي إلى مزيد، ولا تعبتُ من ملاحقة جمالات تغمرني بالدهشة، وتلبسني تاجها.

- يحضر الحبّ والعاطفة والسلام الإنساني في قصيدتك. ما أساس هذا الشعور المتوالد في القصيدة؟
لا وجود لشعر تَقبَلُ الحياة به، وتُقبلُ عليه، من دون هذه العناصر الأساس.
الشعر ليس ريحاً هوجاء تصفّق لها أوراق الأشجار، وتنتحر خلفها راجية أخذها، ولو زحفاً فوق تراب.
في الشعر روح إنسانيّة تسمو بالمشاعر النبيلة. ترتفع عن الترابيّات إلى حدّ اعتبارها آتية من الأعلى، لا طالعة إليه، وفي نسغها سِمَات أُعطيت أوصافاً عديدة، لا أظن واحداً أصابها. أو ربّما قاربها. لا أجزم. وأما الشاعر، فلا يتعمّد فعل ذلك. جلّ ما يفعله، هو ترك أفكاره تذهب إلى حيث تريد... وما تريده هو «الفوق» لا دونه. ولا أعرف شعراً فَتَحت له الحياة كتابها ليسكنه، وكان خالياً من الحبّ والعواطف والسلام الإنساني.

- الحبّ حاجة للقصيدة وللشاعر؟
كأني مع هذا السؤال أردّد أمام ذاتي: هل أنا بحاجة إلى الحياة؟
خارج الحبّ، أيّ حبّ، لا وجود لولادات، لا وجود لحياة، ومَن يقول غير ذلك يتحوّل رماداً في كفّي الريح.

- هل رأيت أحداً يبحث عن رماد ذرّته الريح؟
أُقبل على الحبّ بشوق الإقبال على القصيدة التي تدعوني إلى وليمتها، وتُجلسني مع الحياة جنباً إلى جنب، ومَن استحق ذلك لن يضيعه، ولن يستبدله بذهب الأرض كلّها.

- الجمال في عين الشاعر، أو في المدى المنظور والمحسوس له، أين ترى الجمال؟
لو أُعطيت أكثر من عينين اثنتين، وأكثر من قلب واحد، وأكثر من روح واحدة، وأكثر من عمر واحد، وأكثر من لغات الأرض كلّها، لما استطعت تحديد «الجمال في عين شاعر»، في المنظور وفي المحسوس... وفي الأبعد منهما.
أمام كلّ جمال تمنّيت آلاف المرّات أن أرجع ولداً صغيراً يتشهّى، وبعفوية القلب يقول اختصاراً: «آه».
لكن التمنّي يُغري بالكثير، يُوصد بابه. يترك اللَهِفِ في الشوق ينتظرُ. الانتظار بعض ألقِ الجمال الذي أسعى الى إيجاده إن لم يكن موجوداً.

- ماذا يقول الشاعر جوزف أبي ضاهر حين يرى المرأة تعبر في مساحة حضوره، أو في غياهب سكونه؟
لم تعبر المرأة، ولن. من دونها لا مساحة حضور تُذكر. أسكنتها حضوري وزمني، واحتميت بها من الضعف، من الحقد، من البشاعات، من الكذب، من اللون الأسود. وأما السكون عندي، فليست له غياهب. حضوره يتجدّد في اللحظة الواحدة ألف فجر وفجر، وكلّ فجر يورق ربيعاً دائماً في داخلي. مَن يقرأ بقلبه، يُدرك الأثر «الكثير» للمرأة، على اختلاف دورها، في حياتي وشعري ولوحاتي ومنحوتاتي، وحتّى في أي فعل جمالي أقوم به، وأسعى إليه.المرأة هي العلامة - البشارة لكلّ جمال. ولنقل ذلك بصوت مطيَّبٍ بعطر وجودها في داخلنا ومعنا.

- ماذا قلت في قصيدتك حتّى اليوم، ماذا تريد أن تقول بعد؟
قلت ما استطعت أن أقوله، وتمكّنت منه... وبعد؟
أريد أن أقول أكثر، وأكثر، كأني الآن أبدأ، وفي كلّ لحظة أولد في كلّ قصيدة أتجدّد، في كلّ لوحة ومنحوتة أكوّن هويّتي، وفي كلّ قبلة ونهدة وشوق...
يا الله، اعطني ما أستحق من الوقت، بل الوقت أعطه ما يستحق منّي لأقول، وأقول، وأقول... وسيظلّ رجع الصدى يتردّد، ويردّد، ومَن له أذنان سامعتان فليسمع، ويحفظ بقلبه كلّ نتاج لحظة مُنحت فيها حياة.
... ويا قصيدتي لا تَبخلي بالكلام عمّا تحملين منّي، وما تعرفين عنّي.

- هل أنت إنسان فَرح، حزين، قلق، ضحيّة، جلاّد، صابر، غائب، حاضر؟
 كَبِرَ الفرحُ معي، وما استطاع أن يبعد عنّي وجه الحزن الذي أتأمله فيَّ، ولا أعرفه. لكنه موجود في عمق أعماقي. يدفعني إلى قلقٍ دائمٍ، أسعى إلى تبديده، بما أعمل وأكتب وأواجه الحياة فاتحاً قميصي للضوء والهواء.
وأمّا... العناوين الأربعة اللاحقة، فلا أذكرها لأنّني لا أعرفها، وما التقيت بها يوماً، ولا أدركتها، ولو أنني سمعت بها، مع ما سمعت من كلمات، تمنّيت لو لم تكن موجودة. لكن التمنّي لا يلغي أمراً مبرماً حكمت الحياة به على فئة من الناس.

-  بقيت كلمة واحدة وأخيرة:
أنا الـ «حاضر» الدائم في كلّ فعلٍ أفعله، وفي كلّ عمل أعمله، وفي كلّ نتاج أنتجه لزمن حاضر، ولمستقبل آتٍ، قد أكون فيه، وقد لا أكون. المهم عندي أن دوري في هذا الوجود استخدمته بما يرضي عقلي، ويوافق معرفتي، ويغري مشاعري المعلّقة في الأفق البعيد الذي سأصل إليه – ولو بالأحلام – ذات لحظة، ذات يوم، ذات حياة.
... وينتهي الكلام تاركاً للقارئ تحديد رأي به، وبقائله.