الفنانة التشكيلية علا حجازي: مقاماتي اللونية من الشجن والحكمة وحب الحياة

آمنة بدر الدين الحلبي (جدة) 13 يناير 2018

بين ابتسامة مسائية يعلو ضجيجها، وبين حزن صباحي يطبق ليموج بين دفتي حياتها، فتنتفض روحها من بين همس صباحها لتستقبل الحياة بابتسامتها الحبلى والأمل على أنغام فيروز، فينشد اللون بين فرشاتها أجمل القصائد، ويزغرد مقام اللون من بين تراتيل أناملها معلناً انتهاء العمل التشكيلي. «لها» دائماً تبحث عن الجمال بين ردهات الفنون لتغطّ فرشاة حوارها في عمق الحياة وترصد أعمال الفنانة التشكيلية علا حجازي، في حوار يعجُّ بالألوان، ويصدح بحرف القصيد، معلناً الحياة بكل مفاصلها في مرسم الفنانة علا حجازي، خريجة جامعة الملك عبدالعزيز بكالوريوس لغة عربية ودبلوم تربوي في علم النفس، ودرست فن الغرافيك في جامعة «كينسغتون آند تشيلسي» في لندن.


- علا فنانة تشكيلية من زمن لا يشبه هذا الزمن بعزفها المنفرد على الألوان، كيف ترسمين مقاماتك اللونية؟
لا أعلم إن كنت أرسم أنا الصباح، أو الصباح هو الذي يرسمني في لوحاتي، فتشكّل اللون قبل ولادتي، وعشت طفولة هادئة، لكن نفسي كانت صاخبة بالألوان، ولم يدرك أحد موهبتي على رغم  مشاهدتهم لي وأنا أرسم وجوهاً تشبهني، أو وجهاً كنت أتمنى أن يكون وجهي ولم يكن إلى الآن.
عشت في زمنٍ كانت جدتي تسمع فيروز كل صباح فتربّى وجداني على الشجن الجميل، وأحببت تفاؤل صباح وأغانيها وغناءها، وتمنيت أن أكون تلك البسمة العاشقة للحياة، فتعلمت منها حب الحياة والحكمة، وتابعتها إلى أن امتلأ وجهها بالتجاعيد وخذلها الزمن، لكن بقيتْ ممتلئة بالحكمة والمحبة والتفاؤل.
تلك هي مقاماتي اللونية تشكّلت من الشجن والحكمة، ومن حب الحياة التي عشتها بكل تقلباتها، من أم كلثوم الى مرسيل خليفة الى فايا يونان، ومن أصدقائي، من «لها»، من طفل استرضيته بقطعة حلوى، من كتاب قرأته، من فوز حققته بتقدير امتياز، من سفرٍ كسبت منه ثقافة جديدة لأرتّل ألواني وأعزفها بمقامات حياتية في بكل مفاصلها.

- حين تزنِّر الألوان مفاصل روحك تنصاع أناملك لأوامر اللون الأحمر فترتديه وشاحاً في براءة طفولية، ما الذي تحبين نقله إلى المتلقي في هذا اللون الحار؟
اللون الأحمر هو من اختارني، ولم أختره مطلقاً؟ وفي كل مرة أتمرّد على اللون الأحمر حتى أطلقوا عليّ «علا ذات الرداء الأحمر»، وأول جائزة كانت «جائزة أبها الثقافية» بالمستوى الثاني على المملكة، حين فردت لون الطباعة الأحمرعلى قطعة الكانفس، وبإبر الحفر فردته على اللوحة كقطعة بيتزا، فكانت تمرداً على فن الغرافيك الذي درسته في جامعة «كينسغتون آند  تشيلسي» في لندن وتعبت عليه، وقدمت الكثير من الدورات للأطفال بفن الحفر والغرافيك، وكلما تقدمت إلى جائزة في هذا الفن كانوا يتصلون بي لآخذ اللوحة التي لم يفهمها أحد والموجودة في المستودع، وتتالت الجوائز للون الأحمر الذي كان له النصيب الأكبر منها.

- معالمك البصرية تمحص وتسأل عنك لما هو غريب في الألوان الحارة،هوالتمرد على نفسك لكسرالحواجز؟
أنا عاقلة أمام الظروف المحيطة بي، لكنني متمردة إلى أبعد الحدود أمام لوحاتي.أنا امرأة متجدّدة متلونة حتى لا أبقى واحدة، فأنا نساء عدة في امرأة واحدة، متعدّدة بنرجسيّة علا.

- ما نسبة تلك النرجسيّة عند علا؟
نرجسيتي تبلغ 90 في المئة، لأنني أحب نفسي كثيراً، وكبريائي كبير، تلك نرجسيّة جميلة مع نفسي، وليست نرجسيّة أنانية في حبّ التملك ولا أتعدّى حدودي، أحبّ أشيائي ولا أسمح لأحد بأن يخترقني أو يعرف عالمي، أو يدرك ما في داخلي، عالمي خاصّ.

- هي نرجسيّة جموح الإبداع الفني؟
نرجسية مبدعة، ولست كتاباً مفتوحاً، ذكائي يجعلني أعطي بمقدار، وأخفي ما أريد لأفاجئ العالم بما هو جديد، تلك المفاجآت تعيدني طفلة من جديد.

- أيّ رصد لفرشاة استطاعت تحقيق رمزيّة ما،عند علا؟
لا أسميها رمزيّة بمقدار ما أطلق على لوحاتي مدوّناتي ومذكراتي اللونيّة، كوني لا أحب اللوحة المباشرة ولا اللوحة السطحية، أهوى العمق الإنساني، ولست طفوليّة في لوحاتي، أحكي حكايات فيها قصص ممتعة بصور رمزيّة يختلف فهمها وتحليلها من شخص إلى آخر، لأنني عاشقة الحكايات، إن لم أجدها أختلقها، لتعيدني إلى زمن جدّتي وتشعرني بطفولتي، وأحياناً أكبر من الزمن، أو بعمر جدتي.

- تحبّين العودة إلى الزمن الماضي؟
أكتب عن الزمن الماضي، وأخلق في كل حرف من الماضي إبداعاً، لكنّني لا أحبّ العودة إلى الماضي لأنني كاذبة، وكل مبدع كذّاب، فالرمزيّة التي سألت عنها «لها» تحمل من الخيال الواسع والكذب الكثير.

- وصلت إلى إبهار المتلقي من خلال مفاصل اللوحة سواء بالألوان المتناسقة أم بإدراك الظل والضوء؟
أنا فنانة رسمت على جدران رحمِ أمي، في بعض الأعمال استطعت إبهار المتلقي وليس في مجملها، فلو أبهرت الناس في كل شيء لانتهيت وأصبحت في عداد الأموات، وكل ما أريده من المتلقي أن يقول: علا ينقصها الكثير، لأستزيد وأستزيد.

- الأرواح جنود مجنّدة، إلى من تشتاق روحك يا علا وأنت في قمة الغوص بالألوان؟
أشتاق إلى نفسي، إلى علا التي تكوّنت في نساء عدة، هي التي تفرض نفسها عليّ، صرت لوحة، امرأة في كلمة، ابنة أمي، صديقة فنان، صديقة افتراضية، أصبحوا كل هؤلاء أقوى من علا، أين أنا من تلك النساء التي تكونت؟ أين ذاتي التي أحبها؟

- مشروع مؤسسة جدة وأيامنا الحلوة للفن التشكيلي لتوثيق تراث جدة التاريخية، كيف تكلّلت مشاركتك وعما تمخّضت؟
تُعتبر جدة التاريخية ثروة المكان والزمان لمدينة جدة، فإن لم ننتبه إلى تلك الثروة نخسر حضارتنا الحجازية وما فيها من إرث تاريخي، ولأنني فتحت عينيّ في تلك المدينة القديمة أحببت أن أقدم شيئاً لها، حين طُلبَ مني رسم مجموعة لوحات تاريخية كنت أجهّز لمعرض تحت عنوان «جدة»، وقبله كنت في مخاض عشقي لمدينة جدة حين أقمت معرضاً شخصياً، كان تحت عنوان «آي وطن»، فشاركت في ذاك المشروع الذي يوثقون فيه لمدينة جدة التاريخية «جدرانية جدة»، وحكيت الحكايات بثلاثين عمل صُممت لمدينة جدة اقتنيت كلها، ومنها غلاف، واليوم يوثّقون هذا المشروع لكل من شارك في تلك الجدرانية في كتيّب.

- الحب معجون بالفن، أيهما أقوى عند علا، ومن يطغى على الآخر؟
الفنّ أقوى من الحب ويطغى عليه، إن أحببتُ فني أعطيت حباً، وإن لم أحبّ فني لا أستطيع إعطاء الحب، وكلما رسمت لوحة جميلة أو كتبت عبارة أجمل صار الحب أقوى عندي.

- ما هي فلسفة علا الخاصة بالفن التشكيليّ؟
أن أكون ذاتي المتلوّنة، علا حجازي ليست لوحة، فأنا أقدم أكثر من لوحة. أنا الصباح والمساء، الكاتبة والفنانة، والإنسانة الماكرة والطيبة والشريرة في فهم الآخرين وفهم كل ما يدور حولي وصوغه في أجمل صورة.

- لماذا الشريرة؟
المعنى مجازي هنا، لأضع حدوداً أمام الآخرين، فإن فتحت قلبي لا أستطيع إغلاقه، لذلك أكون شريرة لمصلحتي ومن أجل اعتكافي مع ذاتي لأقدّم ما يبهر المتلقي، كي أكون لوناً مدهشاً يتكلّم عنه الجميع.

- فنانة ممزوجة بين رؤيتك وبين عالم سحري بريء، عالم طفوليّ، ما هذا السحر الذي يشدّك إليه؟
هناك شيء ما يشدّني إلى إبداع جديد لا أعلم ما هو، لكن هاجسي يلحّ عليّ بشيء مميز لا أتوقعه سوى أنني أسافر بلوحاتي من مكان إلى آخر، وأحملها في قلبي وعلى رأسي، فأنا الكاتبة التوأم والناقدة والفنانة والحبيبة، أحلم برسم لوحة ترضيني وإلى الآن لم يتحقّق ذاك الحلم لتولد تلك اللوحة، لأن ما في داخلي كنزٌ كبير لم أظهره بعد. وظروف الحياة تقف حجر عثرة أمامي تلك التي جعلتني أغيّر طريقي لأنني أنتظر المفاجآت، وأحرص عليها، إذ تجعلني بروح طفلة لم أكبر ولن أكبر.

- تلوّنين بالأبيض وأنت صاحبة اللون الأحمر، لماذا؟
بداية جديدة، تحت عنوان بياض، فالقمر لونه أبيض محاط بالسواد، والسواد تجربة لا بد أن نمرّ بها جميعاً، ونستطيع أن نلوّن فوقها بالأبيض لتصبح حياتنا أنقى وأنصع وأصفى للروح، فأنا أرسم فوق البياض بياضاً آخر.

- كيف تحوّلين حرف القصيد إلى لوحات تشكيلية ناطقة؟
وجدت نفسي ألتقط الومضة الجميلة في كل شيء، فإن لم ألتقطها ضاعت هباء، لأن الفنّان دائم البحث عن المميّز والمختلف، فلا بد أن يكون ذكياً في التعرف إلى نفسه.

- خامات متنوّعة ترصدين بها طريقك الفنّي ليكون مميزاً؟
منذ ولدت وأنا أهرب من المدارس الصيفية، حين أقفز من النافذة للبحث عن أشياء ملقاة على الأرض لأصنع منها شيئاً جميلاً، أستمتع حين أمشي في البراري والطرقات القديمة والشوارع المزدحمة على رغم الهدوء الذي في داخلي لأصنع حكاياتي وأكذب.

- فنّانة لا تهدأ تظلّ تطلّ على العالم حاملة أدواتها الفنية وعاشقة لمدينة الضباب لندن، ماذا منحتك تلك المدينة؟
لندن كوّنتني بعدما كنت فوضوية أرسم بلا أسس فنية، هي مدينة ملتزمة بالأخلاق والمواعيد، وملتزمة في اللون، وحتى في العطاء جعلتني ألتقط جدّيتي في العمل، وأكون دائماً على الموعد، حتى أصبح جزئي ضبابياً لندنياً، ومع ذلك تمرّدت على لندن حين سافرت إلى باريس مدينة العشق والجمال والفن، حيث سمحت لي بالتعرف إلى علا الفنانة من الداخل، لأكتشف أنا الأحمر والأصفر والأزرق، أنا علا أركض في الشوارع والحارات وأرسم على الأرض وأرى كل ما هو جميل، ومن باريس سافرت وهكذا انطلقت.

- تزورين المعارض العالميّة، ما أهمّ ما تأخذين منها؟
المعارض العالميّة كانت مهمّة لتكوين ثقافتي، كنت أسهر لأرى لوحات بيكاسو وسلفادور دالي أو ميرو وغيرهم كثر، لكن اليوم لم يعد لديّ هذا الهاجس حين دخلت معترك الحياة، لأنها المعرض الحقيقيّ، علّمتني كلّ شيء. حين أرى امرأة تجلس في مقهى وحيدة أو طفلاً فقيراً أو مشهداً مؤلماً، أرصد منها حكاياتي وعالم السوشال ميديا فتح النوافذ أمامي.

- ماذا أضاف إليك عالم السوشال ميديا؟
فتح لي نوافذ متعدّدة، قرأت مجلتي ورأيت ذاك العالم الفنّي الكبير بلمح البصر، كما ساعد على التقاط المعلومة، لكن أضرّ بعالمنا ككل حين سقطت الأقنعة، عن بعض من أطلقوا على أنفسهم فنانين وشعراء وأدباء ومفكّرين، فاختلط الحابل بالنابل.

- بين بيروت وجدة، أيّ المدينتين تهدأ روحك فيها، وسمحت لك بتعلم الفن؟
بيروت أعطتني الطفولة التي لن أنساها، تلك الطفولة تمدّني بالقوة وتهمس لي: أنت ولدتِ هناك حين كنت تشخبطين على الحيطان وصوت جدتك يصرخ امسحي تلك الألوان، بيروت التي علّمتني أن أصمّم ملابس بنات الجيران وأرسم وأضحك معهنّ. لكن بيروت تغيّرت وتغيّر فيها الإنسان، لذلك أحمي تلك الطفولة الجميلة التي عشتها في حاراتها، ومهما كبرت لن أكبر على طفولتي.
أما جدة فمدينتي، التي كبرت وترعرعت فيها ودرست وتكوّنت شخصيّتي حتى أصبحتُ فنّانة.

- تنقشين أبجديتّك من ثقافة مميّزة، وعربيّة قويّة، هل علّمتك العربيّة صياغة اللون؟
لو لم أكنْ عربيّة لأردتُ أن أكون عربيّة، فأنا عربيّة الجذور والهويّة والفنّ، وأفتخر بالحديث حين أتكلّم اللغة العربيّة وإن كنت أتقن اللغة الإنكليزيّة، فأنا عاشقة للغة العربيّة، أصرخُ بها وأثرثرُ مع لوحاتي.

- تقول علا: «كلما كبرت صغرتْ مساحة ابتسامتي، واتسعت مساحة الصمت في قلبي، هو الصمت وراءه مخاض عسير لولادة لوحة؟
الصمت توأمي وأكبر ثرثار لوني مع ذاتي، أحياناً أكون في مجتمع أسمع كل شيء بصمت رهيب، ولا أحد يعرف أنني مدركة كل شيء، لأنه الصمت الذي يحرّضني لأثرثر مع ذاتي، ويحاورني ويجعلني في حالة هدوء واتزان وتصالح مع نفسي، له درجات لونية عندي تكوّن مع مرور الوقت.