بعد عذاب وآلام...

بكاء, علاج, سرطان الدماغ, الأم والطفل, طفل / أطفال, مرض السرطان, مرض الطفل / أطفال, أمراض سرطانية, ذراع

02 أبريل 2012

تعاني كل أم  وتتعذب لرؤية طفلها مريضاً، أياً كان مرضه ومهما كان بسيطاً، فكيف إذا كانت ترى طفلها يواجه المرض والموت مع ما يرافق ذلك من عذاب وآلام ، دون أن تتمكن من القيام بشيء من أجله؟ فكل عاطفة الناس والإرادة مهما كانت قوية، تقفان عاجزتين أحياناً أمام شراسة المرض.
يختلف
سرطان الدماغ لدى الأطفال بتعدد أنواعه، فمنها ما قد يكون قابلاً للشفاء، ومنها ما تقف كل العلاجات عاجزة أمام تطورها الشرس ونموّها السريع الذي لم يجد له الطب حتى الآن أي علاج.
وبحسب
طبيب الأطفال اللبناني الاختصاصي في الأمراض الصدرية والأورام السرطانية بول-هنري طربيه، يرتبط مصير الطفل المصاب وقابليته للشفاء بنوع سرطان الدماغ الذي يصيبه.

للأسف
الشديد، كان من حظ الطفلة ليلى نصولي وعائلتها أن أصيبت بنوع من سرطان الدماغ غير قابل للشفاء والمعالجة لتنقلب حياة العائلة كلّها رأساً على عقب.
وفيما
توقع لها الأطباء ألا تعيش أكثر من 9 أشهر إلى سنة، لم تتمكن بجسمها الصغير وطفولتها البريئة من مكافحة المرض لأكثر من 5 أشهر عاشت فيها عذابات أكبر من سنّها وآلام أقوى من أن تتمكن طفلة من تحمّلها، وذلك رغم إرادتها الصلبة التي فاجأت كل من حولها.

لم
تكن ليلى قد بلغت بعد عامها الثالث عندما فاجأها سرطان الدماغ من نوع DIPG بشراسة نادرة فلم تتمكن من التغلّب عليه.
سيمون
نصولي والدة ليلى تحدثت عن «حب حياتها» كما تسمي طفلتها البكر التي رأت كيف تدهورت حالتها في فترة قصيرة فيما وقف الكل عاجزاً عن القيام بشيء لإنقاذها.
فكل
المحاولات باءت بالفشل، ورغم العلاج القاسي المتبع والصعاب التي نتجت عنه وكل المعاناة التي مرت بها ليلى، كانت حالتها تسوء بسرعة كبرى غير متوقعة.

وأخبرت
سيمون عن تجربة الطفلة ليلى التي صارعت المرض بقوة نادرة لفتاة في سنّها، آملةً أن تتمكن من خلال Lyla Nsouli Foundation التي أسستها على أثر إصابة طفلتها بالمرض، علّ تجربتها تسمح بفتح المجال لمزيد من الجهود والأبحاث وتعطي آمالاً لكل من قد يتعرض لهذا المرض.


اكتشاف مرض ليلى في رحلة استجمام

كانت عائلة نصولي المؤلفة من والدي ليلى وليلى وأخيها الطفل زيد في رحلة استجمام على شاطئ البحر في إسبانيا مع أقرباء ليلى الذين تعشقهم. كان الكل مستمتعاً بتلك الرحلة، خصوصاً ليلى بوجودها مع كل من تحب.
فكانت ضحكتها تملاً الأماكن التي تكون فيها وكانت مرحة ومفعمة بالحياة تماماً كعادتها. وفي إحدى الليالي، كان الكل جالساً في الحديقة والأطفال يلعبون عندما لفت نديم والد ليلى نظر زوجته إلى أن ليلى تعرج ويبدو له وكأنها تعاني مشكلة في ساقها.
إلا أنهم لم يعيروا الأمر أهمية للوهلة الأولى، وكانت ليلى قد لعبت كثيراً طوال اليوم وأجهدت نفسها فاعتبر الوالدان أنها قد تكون متعبة وستكون في حالة أفضل في اليوم التالي. وعند النهوض في اليوم التالي، كانت ساق ليلى في الحالة نفسها ولم تتحسن.
إلا أنها كانت بمزاجها الفرح المعتاد واندفاعها الذي لا يهدأ. وكانت العائلة مسافرة في اليوم نفسه إلى نيس في فرنسا فلاحظ والدا ليلى أن حالتها تسوء، خصوصاً بعد وصولهم إلى فرنسا، رغم أن ليلى لم تتحدث عن أي ألم أو انزعاج.

أصابت والدا ليلى حالة من الهلع عند رؤية ليلى تمشي بشكل غريب، وتوجه الكل مباشرةً من المطار إلى المستشفى لاستشارة طبيب فلاحظ الأطباء أن الجانب الأيسر لدى ليلى يبدو ضعيفاً بكامله مقارنةً بالجانب الأيمن، فأجري لها تصوير بالرنين المغناطيسي.

عن اللحظات التي سبقت إعلام والدي ليلى بالخبر المشؤوم الذي قلب حياة العائلة رأساً على عقب، تقول سيمون: «كنا ننتظر في إحدى الغرف وصول الطبيب ليخبرنا عن حالة ليلى فيما كانت هي لا تزال تحت تأثير التخدير.
كنا نبكي ونصلي ونحن نشعر بالعجز والضياع في انتظار ما قد يقال لنا عن طفلتنا آملين أن تكون المشكلة قابلة للمعالجة. وبعدما أتت إحدى الممرضات وأعلمتنا بوجود خلل معين ظهر في الصورة وأن الطبيب سيتشاور مع طبيب آخر قبل التحدث معنا، ازدادت حالة الهلع لدينا.

كان القلق والخوف في تلك اللحظات من الانتظار عميقين جداً. كانت مشاعر مختلطة من الخوف والقلق القاتل الذي يصعب تحمله. أخيراً، حضر الطبيب ورافقنا إلى غرفة أخرى ليبلغنا بذاك الخبر المأسوي عن إصابة طفلتنا بأحد أنواع سرطان الدماغ الذي يعرف بDIPG ونصحنا بضرورة استشارة طبيب اختصاصي في الأورام السرطانية.
عندها، وفي مقابل كل سؤال طرحناه أتتنا أجوبة مأسوية يصعب تقبلها فأكد الطبيب أن المرض غير قابل للمعالجة وانه لا يمكن إجراء جراحة لليلى وأن أمام طفلتنا بضع أشهر تعيشها.
لن أنسى يوماً تلك اللحظات السوداء التي بدلت حياتنا إلى الأبد. حتى أني اليوم، عندما أتذكرها وأعود بالزمن إلى الوراء، تبدو لي مرعبة ومؤلمة.
راوحت بعدها ردود فعلنا بين الهستيريا ورفض التصديق. كنا أنا ووالد ليلى نبكي رافضين ما قيل لنا. فعقلنا كان عاجزاً عن تصديق هذه الأمور المؤلمة وغير القابلة للتصديق. كنا كأي والدين نرفض تصديق أن مصيبة كهذه يمكن أن تحل بنا لتخطف منا طفلتنا».


علاج
مؤلم أكثر من المرض نفسه


عن مرحلة المرض التي مرت بها ليلى، تتحدث سيمون بأسى مشيرةً إلى أن الورم الذي أصاب ابنتها لم يسبب ألماً بارزاً أو عذاباً، لكن الطفلة مرت بمراحل علاج صعبة ومؤلمة، خصوصاً لطفلة في سنّها تجهل معنى المرض وأسبابه ونتائجه.
عانت ليلى الكثير من الانزعاج والخوف والتعب والألم جراء العلاج الذي خضعت له. حتى أنها خضعت لعلاج لتصغير حجم الورم تسبب لها بتقلبات مزاجية صعبة وأرق وشهية زائدة في الأكل أدت إلى زيادة وزنها بمعدل 30 في المئة من وزنها الأساسي خلال فترة لا تتعدى الأسبوعين.
لكن العذاب الأكبر الذي عانته ليلى، بحسب سيمون، نتج عن خضوعها للعلاج بالأشعة يومياً طوال الفترة الممتدة من منتصف آب/أغسطس (عند اكتشاف المرض) حتى بداية تشرين الأول/أكتوبر 2011. خلال حوالي 6 أسابيع، كانت معاناة صعبة لليلى مع جلسات علاج الأشعة اليومية التي تتطلب التخدير العام.
وفيما وضع لها الأطباء جهازأ تحت الجلد لحقن التخدير فيها في البداية، تسبب ذلك بالكثير من الألم والرعب لليلى التي كانت ترى الأنابيب التي تخرج من جلدها فصارت تخشى الاستحمام وتخاف من تغيير ملابسها ثم أصيبت بالتهاب استدعى نقل الدم إليها ومكوثها في المستشفى مع مضادات الالتهاب لمدة أسبوعين.
لذلك تمت إزالة الجهاز وصار التخدير يوضع لها بشكل طبيعي، لكنها أيضاً كانت تنزعج كثيراً وتتوتر.

بشكل عام، تشير سيمون إلى أن الأصعب لليلى كان خضوعها اليومي لهذا الروتين وما يرافقه من انزعاج وتوتر وألم ودخولها المستشفى يومياً على مدى أسابيع.
تقول سيمون: «صارت تستيقظ ليلى في كل صباح حزينة والرعب يبدو على وجهها ثم تبدأ البكاء وترجونا ألا نأخذها إلى المستشفى وتطلق صراخا هستيريا رافضةً الذهاب إلى غرفة التخدير، وعندما تصل إليها تصرخ أكثر طالبةً شقيقها زيد.
كل يوم كان كل ذلك يتكرر ولم تتحسن الأمور يوماً ولم تتقبل هذا الروتين بشكل أفضل مرةً. كان الخوف يتملّكها يومياً وكان عذاباً نفسياً مضنياً لنا أن نراها بهذا الشكل دون أن نتمكن من فعل شيء لمساعدتها أو لتطمئن قليلاً. كنا نبكي يومياً كلّنا معاً دون أن نتمكن من الاعتياد على الفكرة.
ومع مرور الأسابيع، بدأت ليلى تخسر قسماً من خصل شعرها الأشقر الأجعد الجميل الذي كان يلفت نظر الكل. كما احترقت البشرة المحيطة بأذنيها وفي عنقها من الخلف بسبب علاج الأشعة. وفي كل مرة كانت تستيقظ من التخدير وهي تصرخ من الألم والغضب والخوف.

والأصعب أنه مع كل هذه المعاناة التي مرت بها، لم تكن نتائج علاج الأشعة مضمونة وفي بعض الحالات فقط قد يطيل عمر الطفل لبضعة أسابيع أو أشهر كحد أقصى. أما في حالة ليلى، فلم تستفد أبداً منه ولم تجد إلا العذاب والألم ولم تشفَ يوماً من الآثار الجانبية للعلاج... توفيت ليلى خلال 5 أشهر من تاريخ اكتشاف مرضها أي أن الفترة أقل من تلك التي توقعها الأطباء والتي تراوح بين 9 أشهر وسنة وأقل من معدل الحياة للمرضى في مثل حالتها. لا نزال نتألم حتى اليوم لأن ليلى عانت كل ما عانته وعاشت مع كل هذا العذاب دون أن يفيدها ذلك العلاج بشيء.
كل تلك التجربة المضنية عاشتها طفلة في سنّها وفي النهاية خطفها المرض وكأن شيئاً لم يكن وبشكل أسرع مما يحصل في حالات أخرى، فهي لم تجن شيئاً من كل ذاك العذاب وهذا أكثر ما يؤلمني».


آخر أيام ليلى في حضن والديها

أمضت ليلى الأيام الأخيرة من حياتها في منزلها، إذ رغب والداها في أن يؤمنا لها الراحة والسلام بدلاً من أن تتعذب وتعاني أكثر في المستشفى دون فائدة. فكان من الأفضل لها أن تمكث في حضن عائلتها التي تحب وفي منزلها الذي تجد الراحة فيه.
في بداية شهر كانون الثاني 2012، أعلم والدا ليلى أن الورم السرطاني لدى ليلى يكبر أكثر فأكثر وأن العلاج لم يتمكن من السيطرة عليه، وأنها قد لا تعيش أكثر من 3 أشهر.
لكن بدا واضحاً لوالديها أنها لن تعيش هذه الفترة نظراً لحالتها التي صارت تسوء بسرعة كبرى وتدهورت إلى حد كبير. فتدهور حالة ليلى السريع بدا مفاجئاً فعلاً وصدم عائلتها التي لم تتوقع هذا التطور بدءاً من تاريخ تشخيص المرض لديها وفي الفترة اللاحقة، حتى أن كلامها صار غير مفهوم في الفترة الأخيرة.
وفجأة في صباح أحد الأيام صارت عاجزة نهائياً عن الكلام. تحوّلت ليلى من فتاة مفعمة بالحيوية تعشق الحياة وتركض وتلعب كأي طفل في سنّها وترقص وترفض الجلوس للحظات، إلى طفلة مرعوبة وتصرخ لفكرة القيام بخطوات بسيطة وتخشى المشي الذي تحوّل لاحقاً إلى أمر صعب يتطلب منها مجهوداً كبيراً، ثم أصبحت عاجزة عن القيام بأي خطوة.

صارت الجهة اليسرى لديها ضعيفة جداً، فباتت تعجز عن تحريك ساقها اليسرى وذراعها وكأنهما أصبحتا مشلولتين تماماً في إحدى مراحل تطور المرض.
وبعدما كانت السعادة تنبعث من عينيها  تحوّلت إلى طفلة حزينة يائسة ومكتئبة تستلقي طوال النهار على الكنبة دون حراك وتحدق بعينيها الحزينتين.
فقدت كل ثقتها بنفسها وبدت كئيبة وخائفة طوال الوقت. أيضاً بعد فترة، كما في كل حالات سرطان الدماغ من نوع DIPG ، لم تعد تستطيع تحريك عينها اليمنى إلى اليمين.
وكانت ليلى قد استفادت قليلاً من علاج الأشعة من حيث الحركة إذ تحسنت جزئياً قدرتها على الحركة لبعض الوقت مما أعاد إليها بعضاً من ثقتها بنفسها لفترة قصيرة، خصوصاً عندما تمكنت من المشي في مرحلة معينة ولو بقلة ثبات ومن تحريك يدها اليمنى إلى حد معين.
هذا ما أعاد إليها السعادة لفترة قصيرة استمتعت فيها بأيام مع عائلتها وأقربائها الذين تحبهم. لكن في الوقت نفسه عانت من التهابات في الأذنين جراء علاج الأشعة.

عن كل هذه المرحلة الصعبة تضيف سيمون: «قبل أن يؤكد لنا الأطباء أن مرضها يتطور أكثر، كنا نلاحظ أن حالتها تتراجع فبدا واضحاً أن نشاطها خف بعد التحسن البسيط الذي شهدناه وصارت تبدو حزينة.
وفي عيد مولدها في 24 كانون الأول/ ديسمبر ذهبنا مع أولاد عمها الذين تحبهم إلى فندق أتلانتس في دبي لتسنح لها  فرصة السباحة مع الدلافين. وفي الصباح نفسه تقيأت للمرة الأولى منذ اكتشاف مرضها وعرفنا أن سبب ذلك ضغط الورم على الدماغ.
لاحقاً صارت تتقيأ أكثر فأكثر. في الأسبوع التالي لعيد مولدها، استمتعت ليلى كثيراً مع أقربائها وأمضت وقتاً رائعاً تضحك وتلعب كعادتها، رغم أن توازنها لم يكن طبيعياً. لكن بعد أسبوع أجري لها تصوير CT Scan أكد مخاوفنا وشكّل صدمة لنا رغم أننا كنا نتوقع ذلك.

تحطم قلبنا لمعرفة أن نهاية ليلى تقترب. بعد فترة، صدمت لرؤية طفلتي التي كانت تتميز بحيوية مفرطة واندفاع زائد وتتحدث بكثرة وتخبرنا بكل ما تفكر به وتريده، فكان حديثها لا يتوقف طوال النهار، وفجأة في يوم من الأيام صارت عاجزة عن إصدار أي صوت من حنجرتها الصغيرة.

تدهورت قدرتها على الكلام تدريجاً إلى أن فقدتها تماماً. لنتعامل بأفضل ما يمكن مع هذه المرحلة الصعبة، ولنسهّل الأمور على ليلى وضعنا لها لوحة كبيرة ألصقنا عليها كل صور أفراد العائلة والأشخاص الذين تحبهم والذين قد تسأل عنهم والأمور التي قد تحتاجها لتدلنا إليها.
وقد نجحنا في ذلك أحياناً، لكن في مرات كثيرة كانت ليلى تغضب من هذا الوضع وتركل اللوحة رافضةً التعامل معها. من جهة أخرى، تدهورت قدرتها على الحركة بشكل سريع، فصارت عاجزة عن المشي أو عن الوقوف وعن القيام بأي حركة وخلال أيام صارت مجبرة على الاستلقاء طوال الوقت وتحتاج إلى من يحملها من مكان إلى آخر. وفي الأيام الأخيرة لها، كنا نحاول جاهدين أن نفهم ما ترغب به سواء أرادت أن تشرب أو أن تأكل أو أن تدخل إلى الحمام أو أن ترتدي شيئاً أو أن تنتقل إلى مكان آخر، وكان ذلك صعباً جداً علينا وعليها.

والأصعب في هذه المرحلة أن قدراتها الذهنية والفكرية بقيت طبيعية وكانت تدرك تماماً ما يحصل معها وكأن ذهنها يعمل مع جسم فاقد الحركة يتدهور وينغلق أكثر فأكثر. وأعتقد أن وحشية هذا المرض تكمن في هذه المرحلة بكونه قضى على كل قدراتها الجسدية وحركتها فيما بقيت قدراتها الذهنية طبيعية ومدركة تماماً ما يحصل لها من تدهور مرعب. فقدت ليلى حتى القدرة على البلع قبل أسبوع من وفاتها.
بالكاد كانت قادرة على بلع القليل من الماء وتبتلع الطعام السائل فقط. في الواقع كانت لا تأكل شيئاً تقريباً وتنام معظم الوقت. في تلك المرحلة، كان الرعب والقلق من أن النهاية صارت قريبة يسيطران علينا.
كنا نعرف أن هذه اللحظة آتية لكننا نرفض حصولها في الوقت نفسه ونخشاها. طوال الوقت كنا نؤكد لليلى أن ألمها سيزول وأنها ستتعافى وستعود إلى الرقص واللعب والتحدث، كما في السابق، فهي طفلة وكنا نحتاج إلى رفع معنوياتها.
والغريب أنها طوال فترة مرضها، حافظت على إرادتها الصلبة التي لطالما تمتعت بها. فليلى بطبيعتها طفلة متميزة بقوة شخصيتها وباندفاعها واستقلاليتها، ولم تخسر شيئاً من كل ذلك رغم كل ما عانته. فبقيت حتى الأيام الأخيرة تختار الملابس التي ترغب في ارتدائها.

حتى أنها في إحدى المرات أيقظتني ليلاً لتطلب ارتداء أحد الفساتين فحملتها بين ذراعي وأخذتها إلى خزانتها لتختار ما تريد. وحتى المرحلة الأخيرة بقيت تحاول جاهدةً أن تتدبر أمورها بنفسها فتختار ما تأكل وما تشرب وما ترتديه. بقيت تتواصل معنا على طريقتها.
كانت تتمتع بتصميم مذهل، حتى في أصعب مراحل مرضها. وأذكر أنها كانت تغضب عندما نحاول إطعامها بأنفسنا، وتصرّ على الأكل بنفسها وتغضب أكثر عندما تعجز عن ذلك.
بقيت كذلك مصممة ومتميزة بإرادتها الصلبة وتحاول السيطرة على الأمور والتحكم في كل شيء، حتى الساعات الأخيرة من حياتها عندما فقدت وعيها. في اليوم الأخير، أخبرنا الطبيب والممرضة أنه عندما تقترب وفاتها سيصبح تنفسها أكثر صعوبة وسنشهد تغيّراً فيه.
وبالفعل كانت ليلى تنوح في اليوم الأخير وتتنفس بصعوبة قصوى. ورغم أنها لم تكن تتألم كانت تبدو مضطربة جداً وتنوح باستمرار، وأصابتنا حالة من الهلع عندها إذ كنا نخشى كثيراً أن تعاني وكنا نعطيها دواء في المنزل ليهدئها. توفيت بين أيدينا في الليلة نفسها بعد منتصف الليل في سريرها».   


مشاعر والدين يرفضان خسارة طفلتهما

عن مشاعرها ونديم زوجها من فترة تشخيص مرض ليلى حتى وفاتها، تحدثت سيمون نصولي مشيرة، إلى أنهما كأي والدين لم يتصورا يوماً أن أي سوء قد يصيب طفلتهما أو أن كارثة كهذه قد تخطفها منهما، فتقول: «لا يمكن أن يتوقع والدان وفاة طفلهما أبداً، هذا أمر غير وارد أبداً بالنسبة إلى الأهل.
فمن اللحظة التي أصبحت فيها أماً عرفت أن أسوأ ما قد يحصل لي يوماً هو خسارة طفلي لكن يبدو الأمر صعب التصديق لشدة فظاعته. لطالما كنا حريصين على صحة ليلى ولم نهملها يوماً ولو لأبسط الأسباب. لكن بشكل عام، كانت تتمتع بصحة جيدة وحيوية.
بدت طفلة تعشق الحياة من بداية حياتها وكانت تجذب أنظار كل من تمر بقربه بشعرها الأشقر الأجعد وعينيها الزرقاوين اللامعتين اللتين تشعان فرحاً وبضحكتها الجذابة.
هل كان من الممكن أن نتصور أن طفلتنا المفعمة بالحيوية والسعادة التي تبلغ سنتين من العمر، قد تصاب بالسرطان؟ وليس هذا فحسب، بل شُخّص لديها سرطان غير قابل للمعالجة ولم يكن لها أمل بالشفاء، وهذا كان صعب التصديق والتقبل بالنسبة إلينا.
تلك الحقيقة الفظيعة قلبت الواقع الذي كنا نعيشه رأساً على عقب. فجأة حصل أفظع ما يمكن أن يحصل. عندما تم تشخيص المرض لدينا بحثنا جاهدين عن ذرّة أمل دون جدوى.

حاولنا إيجاد أي دراسة أو بحث يمكن تمويله لتطوير علاجات أو أدوية لهذا النوع من السرطان بهدف إنقاذ «حب حياتنا»، لكن للأسف، كل محاولاتنا باءت بالفشل وظهرت أمامنا الحقيقة التي تؤكد أنه لا أمل لها بالشفاء وأنه لا علاج متوافراً باستثناء علاج الأشعة بكل آثاره الجانبية ومضاعفاته وبفوائده القليلة والذي لن ينجح إلا في إطالة حياتها لفترة قصيرة وقد لا ينجح في ذلك حتى.
صدمنا لمعرفة انه خلال 30 سنة، لم يتمكن الطب من اكتشاف أي علاج لهذا المرض الخطير. وحده علاج الأشعة متوافر لإطالة عمر الطفل لأسابيع او اشهر قليلة. وبالتالي يحكم على الطفل المصاب بالموت خلال سنتين كحد أقصى، أو العيش لمعدل 9 أشهر أو سنة في معظم الأحيان. لم يكن هناك أي أمل، بل بكاء وعذاب وألم ويأس في كل خطوة من تلك الرحلة الفظيعة مع المرض.
حكم على ليلى، كأي طفل مصاب بسرطان الدماغ من نوع DIPG ، بالموت وكنا نعلم جيداً أن الوقت ليس لصالحنا وأن أي طبيب لا يتوقع لها أن تعيش رغم كل محاولاتنا اليائسة.
أمام هذا النقص المخيف في التطور العلمي في هذا المجال، بدأ العد العكسي لنا ولها من لحظة تشخيص المرض مع ما يرافق تلك الرحلة من عذاب ويأس.
في المرحلة الأولى كنت أرفض سماع أي شيء عن هذا المرض وأرفض أن يكرر الأطباء على مسامعنا كل الأمور الفظيعة التي ستحصل لها مع تطور المرض في الفترة القصيرة التي أمامها لتعيش وكيف أنها ستصل إلى النهاية.
لم أكن قادرة إلا على البكاء والقلق وأعيش هالة من الهلع. كان زوجي أقوى مني، ففضل البحث عن آراء طبية مختلفة من العالم وعن أبحاث عن المرض يموّلها علّها تؤدي إلى علاج. بعد فترة قصيرة انضممت إليه لنعرف أكثر عن هذا المرض ونكتسب أكبر مقدار من المعلومات.
وفي الوقت نفسه، خصصنا وقتنا لحظة بلحظة للعناية بليلى ومساندتها في رحلتها مع المرض. عرفنا أنه يجب أن نكون قويين لنقف بجانبها .
حاولنا قدر الإمكان أن نشجعها ونريحها وأن نشعرها بمدى حبنا لها، خصوصاً في لحظات خوفها من العلاج والمستشفى. كما حرصنا على التقليل من فترات مكوثها في المستشفى لتشعر بمزيد من الراحة في منزلنا ولتشعر بالدفء والحماية والحب من قبل عائلتها.
هذا كل ما استطعنا أن نفعله من أجلنا وأتمنى في أن نكون قد نجحنا في ذلك على الأقل. وعلى أثر تشخيص مرض ليلى غير القابل للمعالجة، أنشأنا Lyla Nsouli Foundation علّنا نجد من خلالها علاجاً لهذا المرض الفظيع. بعد أن شهدنا ما تعرّضت له طفلتنا،  سنبذل قصارى جهدنا من خلال الجمعية المبنية على العمل التطوعي،  لنكمل الطريق ونمنع هذا المرض من تدمير حياة الأطفال وعائلاتهم بهذا العنف الشديد وهذه الشراسة.

سنعمل ما بوسعنا لتحسين نوعية حياة الأطفال المصابين، على أمل أن نتمكن من اكتشاف علاج له. ثمة حاجة ماسة الى مزيد من البحث والدراسات في سرطان الدماغ لدى الاطفال عامةً ونوع الDIPG خصوصاً كونه أكثر الأنواع المضادة للعلاجات التقليدية للسرطان كالعلاج الكيمائي والجراحة وعلاج الأشعة. قد نجد في تطوير الابحاث في هذا النوع تحديداً ثورة في معالجة مختلف أنواع السرطان، فقد تكون البداية فيه والأساس.
لدينا دافع شخصي لتحقيق ذلك، بعد أن فقدنا طفلتنا بسببه. علماً أن سرطان الدماغ هو المسبب الرئيسي للوفيات بين مختلف أنواع السرطان لدى الأطفال والذي تبدو فيه الدراسات والأبحاث أقل تطوراً مما يستدعي القيام بمزيد من الجهود للتقدم في هذا المجال للحد من عذاب الكثير من الأطفال وعائلاتهم في المستقبل.»


رأي الدكتور بول- هنري طربيه

- كيف يختلف سرطان الدماغ لدى الأطفال عن ذاك الذي يصيب الكبار؟
يختلف سرطان الدماغ لدى الأطفال، إلى حد كبير، عن سرطان الدماغ الذي يصيب الكبار. ففي معظم الحالات يبدأ السرطان لدى الكبار في مكان آخر في الجسم غير الدماغ ثم ينتشر إلى الدماغ. أما بالنسبة الى الأطفال فيختلف الأمر بكون السرطان يصيب الدماغ تحديداً.

- ماذا عن الأعراض؟ هل ثمة ما يتشابه مع أعراض سرطان الدماغ لدى الكبار؟
قد تتشابه أعراض سرطان الدماغ لدى الأطفال، في بعضها، مع تلك التي تظهر في سرطان الدماغ الذي يصيب الكبار، وأبرزها ألم الرأس الذي يزداد تدريجاً يوماً بعد يوم وفقدان الوعي لبضع ثوان وتشنج العضلات أو ظهور حركات غير سويّة في الوجه والذراعين والساقين والصعوبة في النطق أو في تذكر الكلمات والتشوش في أي من الحواس وفقدان التوازن والنعاس والتغيّر في الشخصية والتقيؤ الصباحي ونوبات الكهرباء في الرأس والشلل النصفي أو في وظيفة معينة أحياناً.

- هل تظهر الأعراض في مرحلة مبكرة أم أنها تظهر في مرحلة يكون المرض قد بلغ فيها مراحل متقدمة؟
أحياناً تظهر الأعراض عندما يكون المرض في أولى مراحله، فيكون قد بدأ حديثاً في فترة قريبة. تختلف مرحلة ظهور الأعراض بحسب الموقع الذي يصاب في الدماغ، فإذا كان الورم قريباً من مجاري ماء الرأس تظهر الأعراض بسرعة كبرى وتبدأ مباشرةً آلام الرأس.
ففي معظم الأحيان تكون آلام الرأس هي الأعراض الأولى للمرض فتكون حادة ومستمرة وقد تظهر وتختفي تلقائياً.

- هل من عوامل معينة تساهم في زيادة احتمال الإصابة بسرطان الدماغ؟
تساهم بعض الأمراض الخلقية النادرة في زيادة احتمال الإصابة بسرطان الدماغ لدى الأطفال كأمراض عصب العين، إضافةً إلى أمراض أخرى يمكن أن تسببه.

- هل من سن معينة يمكن أن يظهر فيها المرض بنسبة كبرى؟
يمكن أن يظهر سرطان الدماغ في أي سن كانت لدى الأطفال.

- هل يمكن أن يظهر حتى لدى طفل رضيع؟
حتى الطفل الرضيع يمكن أن يصاب بسرطان الدماغ. وفي هذه الحالة يكون اكتشاف المرض أكثر صعوبةً لأن الطفل يكون عاجزاً عن التعبير عن ألمه. كما أنه يمكن الخلط بين التقيؤ الناتج عن سرطان الدماغ والتقيؤ الذي قد يصيب الأطفال لأسباب كثيرة أخرى.
أيضاً، في هذه السن الصغيرة، يكون رأس الطفل مطاطاً ويمكن أن يكبر الورم في دماغه دون التنبه إلى ذلك.

- إلى أي مدى يعتبر سرطان الدماغ لدى الأطفال قابلاً للشفاء؟
تختلف نسبة الشفاء كثيراً بحسب الورم ونموه. علماً أنه تكثر أنواع الأورام التي قد تصيب الدماغ لدى الأطفال. كما يمكن أن تصيب مواضع مختلفة في الدماغ، فتختلف نسبة الشفاء.
لكن يمكن القول أن نسبة الشفاء في حالات سرطان الدماغ لدى الأطفال تعتبر أقل من تلك الموجودة في أنواع السرطان الأخرى. في كل الحالات، ثمة مواضع تتجاوب مع العلاج بشكل أفضل من مواضع أخرى، ويعتبر السرطان الذي يصيب جذع الدماغ الأصعب ويعتبر الوضع خطيراً في هذه الحالة.

- ما وسائل تشخيص سرطان الدماغ لدى الأطفال؟
ثمة خطوات عدة لتشخيص المرض فبعد الفحص العيادي ، يجرى المسح بواسطة التصوير الطبقي المحوسب CT Scan الذي يعطي صورة ثلاثية الابعاد للأعصاب . ويجرى هذا التصوير خلال 30 أو 35 دقيقة .
كما يمكن اللجوء إلى المسح عن طريق الرنين المغناطيسي MRI لتصوير الموضع المصاب. هذان الفحصان هما أساسيان لكشف أورام الدماغ. ومن تقنيات التشخيص أيضاً مخطط الأوعية الذي يقضي بحقن سائل ملوّن داخل الشريان وتؤخذ صور بأشعة إكس أثناء تدفق السائل عبر الأوعية الدموية للدماغ لإظهار وضعية الورم. هذا إضافةً إلى التخطيط الكهربائي للدماغ.

- هل العلاج الذي يعتمد في حالات سرطان الدماغ لدى الأطفال يتشابه مع علاجات السرطان الأخرى؟
يرتكز العلاج في حالات سرطان الدماغ لدى الأطفال بشكل أساسي على الجراحة. فهي تجرى بالدرجة الأولى وتسمح بتشخيص المرض من خلال الخزعة والتحليل في المختبر للورم الذي يتم استئصاله. كما انه على أساسها يمكن أن نعرف ما إذا كان الورم شرساً وينمو بسرعة ويعود أم لا .
قد نكتفي بالجراحة واحدة في حالات معينة، كما يمكن اللجوء في حالات أخرى إلى العلاج بالأشعة أو العلاج الكيميائي أو الاثنين معاً. بشكل عام يرتبط مصير الطفل وما إذا كانت حالته قابلة للشفاء، بنوع الورم الذي يتم تصنيفه على أثر الجراحة. كما أنه في الجراحة نحدد ما إذا كان من الممكن إزالة الورم كاملاً بالجراحة.

- ما مدى سرعة تطور المرض؟
سرعة تطور المرض تختلف أيضاً بحسب نوعه، فمن الأنواع ما يتطور بسرعة ومنها ما يكون أكثر بطئاً في النمو. ثمة حالات تتطور بسرعة كبرى بحيث ينمو الورم وينتشر خلال أسابيع دون أن نتمكن من وقفه فلا تكون للعلاج أي فائدة. في المقابل، ثمة حالات يكون تطور المرض فيها بطيئاً.

- هل يعتبر الطفل الذي يصاب بسرطانالدماغ أكثر عرضة للإصابة به مجدداً، مما يستدعي إخضاعه لمراقبة دقيقة طوال حياته؟
يحتاج الطفل الذي يصاب بسرطان الدماغ إلى مراقبة دقيقة، كما في كل أنواع السرطان، بعد المعالجة والشفاء، خصوصاً أنه ثمة احتمال لأن يظهر سرطان الدماغ مجدداً بعد الشفاء.

- هل يعود الطفل إلى حياته الطبيعية بعد شفائه من سرطان الدماغ؟
تكمن المشكلة في حالات سرطان الدماغ في أن الطفل قد يعاني من مضاعفات العلاج الذي يخضع له خلال فترة المرض وحتى بعدها. إذ أن للعلاج آثارا جانبية لا يمكن إهمالها وتحتاج إلى مراقبة دقيقة.
العلاج بالأشعة مثلاً لا يقضي على الخلايا السرطانية فحسب، بل يصيب الخلايا السليمة في محيط الورم وقد يؤدي إلى عطل في الدماغ. كما يمكن أن تنتج عن الخضوع للعلاج مشكلات في الهرمونات التي يفرزها الدماغ وفي الغدد الصماء .
كما أن العلاج يشمل النخاع الشوكي الذي تصوّب إليه الأشعة مما قد يؤثر سلباً على نمو الطفل. ثمة مضاعفات عدة للعلاج بالأشعة إذ أنه قد يبطئ نمو الطفل ويؤثر على نموه العقلي وذكائه.
كل هذه الأمور تحتاج إلى مراقبة دقيقة خلال فترة العلاج وبعدها لمواكبة أي تغيّر يطرأ لدى الطفل لمعالجته في أسرع وقت ممكن.

- هل تحصل هذه المشكلات في كل حالات سرطان الدماغ التي تشفى أم أنها ترتبط حصراً بالعلاج بالأشعة؟
إذا لم يتعرّض الطفل للأشعة ضمن برنامج العلاج، يمكن أن يواصل حياته الطبيعية بعد الشفاء . لكن عند التعرض للأشعة يمكن أن يتأثر نموه العقلي والجسدي وقدراته في المدرسة، وهي أمور تقتضي المتابعة. مع الإشارة إلى أنه بقدر ما يكون الطفل صغيراً، يكون التأثير السلبي عليه أكبر بسبب العلاج.

- في كثير من الحالات، تتأثر حركة الطفل عند الإصابة بسرطان الدماغ وقد يؤدي الأمر إلى شلل في أطراف، ما الإجراءات التي تتخذ لمعالجة ذلك؟
لا يمكن العمل كثيراً على حركة الطفل. يتم التركيز، خلال فترة العلاج بشكل أساسي على الغدد فتجرى الفحوص اللازمة للتأكد مما إذا كانت قد تأذت وتتم معالجتها كأي قصور في الغدد الصماء. وإذا تأثرت غدة النمو يعطى الطفل هرمون النمو.