الطراز الكولونيالي البريطاني: أثاث يشبه التوابل... وأكسسوارات مثل البهارات!

باريس - نجاة شحادة 29 فبراير 2020

الكتابة عن الطراز الكولونيالي (الاستعماري) في الديكور، تتطلب استحضاراً مختصراً للفترة التاريخية التي كانت فيها الإمبراطورية البريطانية تتمدد على جغرافيا تساوي 100 مرة مساحة بريطانيا العظمى.
واستحضار بعض التاريخ هنا، هو لتسليط الضوء على المناطق الشاسعة التي تشكلت منها الإمبراطورية، والتي قيل يومها إن الشمس لا تغيب عنها، فشملت أجزاء من أفريقيا والهند وآسيا وجنوب المحيط الهادئ وأميركا الشمالية.


ومثل هذا الواقع جعل المستعمرين يتعرضون لتأثيرات كبيرة في مجالات شتى، على أن ما يعنينا هنا هو التأثيرات التي طاولت التصاميم الهندسية الخارجية والداخلية. ومن هذه التأثيرات ولد ما نعرفه اليوم بالطراز الكولونيالي البريطاني.

على أن توصيف هذا الطراز ليس بالأمر السهل، ذلك أن تلك المناطق التي تشكّلت منها الإمبراطورية البريطانية، هي مناطق تتعدد فيها الإثنيات والقوميات والأجناس والعادات والتقاليد، وبالطبع أنماط الحياة، إلى حد يصعب حصره. كذلك فإن المواد الكثيرة التي تتوافر في هذه البقاع الجغرافية الشاسعة هي من التعدد والتنوع بحيث يصعب حصرها. لذا سيكون من الصعب استنباط تعريف يجمع كل هذه المكونات ويكون منصفاً لها. ومن هنا يمكن اعتبار الطراز الزخرفي الكولونيالي هو الطراز المثال في مزاوجة الأساليب (البدائية منها والمعاصرة)، وكذلك المثال في مزاوجة المواد والأشكال والألوان.

فالأخشاب والأحجار والجلود وكثير غيرها، يتم استخدامها بحالتها الطبيعية الخام الى جانب تشكيلات منها منفّذة بخطوط حديثة وأشكال تنتمي الى «محليات» بخصوصياتها ومتعلقاتها ليس فقط بنمط الحياة السائدة ضمن الرقعة الجغرافية المحددة، ولكن أيضاً برمزيتها وربما علاقتها بالمعتقدات والأساطير.

لقد كان على البريطانيين «المستعمرين» أن يطوّعوا كل هذه العناصر لكي تحقق لهم مفهوم الرفاهية، ولكي تتلاءم مع طبيعة حياتهم وتناسب مراتبهم الاجتماعية ومستوياتهم الاقتصادية. فولادة الطراز الزخرفي الكولونيالي لم تكن بقرار سياسي، ولكنها حصيلة معايشة يومية في كل مستعمرة.
ومن أجل معرفة أدقّ لمجريات ولادة هذا الطراز الزخرفي ونموّه، يمكن العودة الى أجواء ما كان يُسمى بالأندية في مدن المستعمرات البريطانية. فهذه الأندية تعتبر مراكز لتجمعات النخب حيث تبادل الأحاديث في كل أمور الحياة، من اقتصادية واجتماعية وسياسية.
وفي هذه الأندية تتجلّى المراوح الشكلية والزخرفية... تتسع حيناً فتستدعي من المستعمرات القريبة أو من مدن الإمبراطورية الأم عناصر ترفد الأجواء أحياناً بأناقة «إنكليزية» بحتة (مثل نثر الذكريات على الجدران من خلال صور كثيرة بإطارات أنيقة، أو من خلال توزيعات داخلية تتداخل فيها النباتات مع أكسسوارات تبدو في لحظة ما أنها ضرورية أكثر منها كمالية)، الى جانب العناصر المستدعاة من المستعمرات نفسها، والتي في أحيان كثيرة تحافظ على خطوطها وأشكالها فتتولد منها مشهديات متعددة في داخل المشهد الواحد، وتُثري الأجواء الداخلية بزخمها الرمزي أو بغرابتها أو بدائيتها.

من هنا تبدو المزاوجة ضرورية في الطراز الكولونيالي البريطاني، ليس فقط من أجل حفظ الخصائص التي تتمتع بها بيئات مختلفة، ولكن أيضاً من أجل تطويع عناصر المشهد الزخرفي ومنحه المظهر الخاص والمبتكر. فقد كان دخول بعض التصاميم الاستوائية إلى مناخات إنكليزية عاملاً مهماً في خلق قيم جمالية جديدة للداخل، وذلك من أجل تجاوز التصاميم الرسمية والصارمة للعصر الفيكتوري. كذلك فإن اختيار الكثير من قطع أثاث الـ«روتان» الى فضاء «فيكتوري» كان عاملاً أساسياً لتوليد التباين، ليس فقط في الملمس وإنما في تلطيف القتامة التي تطبع الأثاث التقليدي.

كما أن تبني الأكسسوارات المنتقاة من فضاءات مختلفة ساهم في تكريس ذلك التباين، والذي يبدو أنه من مقومات هذا الطراز، فنجد البورسلين الصيني الناعم فوق الأرفف جنباً الى جنب الكريستال والفضيات... كل هذه تجاور المنحوتات الخشبية أو الزجاج المشغول بأشكال من الحيوانات المتنوعة، وفي داخل منازل «المستعمرين» أصبح من الطبيعي وجود نباتات استوائية تُستخدم للزينة ودعم المشهد الزخرفي بحيوية وغرائبية تلفت الأنظار.
فالنباتات والحيوانات شكّلت أيضاً عوامل افتتان في الداخل الكولونيالي لا يمكن تجاهلها. ولم يعد مستغرباً أن نرى في أصص متجاورة نباتات النخيل والسرخس «الفوجير»، وبالقرب منها بعض السلاحف... كلها حول كنبة «تشرشل» الجلدية الشهيرة، مما يضفي جواً درامياً ساحراً على داخل هذه المنازل الأنيقة.

على أن ثمة عوامل أخرى كان لها دور كبير في هيكلة الطراز الكولونيالي البريطاني وبنيانه، وفي مقدّم هذه العوامل يدخل السفر والتنقل بين المستعمرات، وهذا أمر كان حكراً على المستعمرين: فمن الكاريبي الى الهند، ومن الشرق الأقصى الى أفريقيا، كان كل مسافر يحاول أن يستعرض البلدان التي زارها والمسافات التي قطعها، فكانت خيارات قطع الأثاث الخفيفة والأكسسوارات السهلة الحمل تلعب دور الشاهد على رغبة أصحابها، ومن هنا تنقلت قطع «البامبو» أو «الخيزران» أو «القصب» بين القارات، لتحطّ رحالها في بيوت مفعمة بروحية الطراز الزخرفي الإنكليزي «التقليدي»، ويتولد منها هذا الطراز الخاص جداً. ففي جزر الهند الغربية البريطانية، اختار الحرفيون المحليون خشب الغابات المحلية (مثل الساج والأبنوس والماهوجني)، وأضافوا أيضاً بعض التقنيات المحلية الموروثة، من أجل إنتاج قطع أساس بريطانية الخطوط نظراً لصمود أنواع الأخشاب هذه أمام عوامل الطبيعة، من دون أن تتعرّض للتلف أو التشوّه. وبالطبع لن ننسى الأسرّة ذات المظلات «الناموسيات» بأشكالها العديدة، والتي كانت وليدة أثاث المزارع الاستعمارية البريطانية.

باختصار، إن الطراز الزخرفي الكولونيالي البريطاني هو نتيجة لحراك المواطنين الإنكليز وأسفارهم في جميع أنحاء العالم في ذروة هيمنة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
هذا الطراز الأكثر تبايناً بين كل الطرز المعروفة والشائعة، يشبه الى حد كبير مسافراً إنكليزياً يغادر بريطانيا ببدلة صوفية ثقيلة، وعليه أن يتكيف ليس فقط مع الأجواء المحلية الأكثر دفئاً، ولكن أيضاً مع أطباقها التي تبعث الحرارة عبر مكوناتها التي تعتمد على التوابل والبهارات. شيء يشبه تماماً داخل البيوت ذات الطراز الكولونيالي البريطاني.