اليوم العالمي للشعر... يوم الحياة والقصيدة

إسماعيل فقيه (بيروت) 21 مارس 2018

في اليوم العالمي للشعر، كل الأنظار والأحاسيس تتجه إلى الكلمة، إلى الحروف النابضة، إلى اللغة التي ترفع منسوب الزمن في بحر الأيام. لكل بداية نكهة صاخبة، ويوم الشعر يبدأ مثل بداية عام جديد، مثل حياة جديدة، مثل وردة تتجدّد بلونها وعطرها، فتخرج القصيدة من وهجها إلى وهج متجدد. يظهر الشعر كراية خفّاقة، كعلامة رائدة متقدّمة تعطي دلالة أكبر في معنى الحياة والإنسان. اليوم العالمي للشعر هو السؤال في الشعر، وسؤال الشعر في الضرورة، ضرورة كل شيء، وضرورة كل نبض في اللغة، في كل زمان ومكان.

وُلد الشعر كائن لغة ومعنى مثل نبتة بمذاق كل الثمار. كان وصار أداة تعبير لا يمكن الخروج من دائرة ظلّها، لا بدّ منها في حياة الإنسان. إنها القصيدة، حاجة وأكثر من حاجة للإنسان والحياة. ضرورة وفعل ملزم لتفسير المفسّر. حين تكون اللغة هي كلّ النشاط الذي يولّد حركة الحياة، لا بد من الوقوف في صفّها وتلقّي مدلولاتها المتوالية والبرّاقة.

أقول اللغة وأقصد مخزونها الذي لا ينضب، كالنبع الذي يتزوّد بأشياء الطبيعة والحياة ويعود إنتاج الحياة نفسها، ككائنات الطبيعة التي تتغذّى بالشمس والهواء والمياه. وإذا كانت اللغة هي الوعي الأول الذي يربط الحياة بأصولها، فإنني أقول أيضاً، هناك وعي مسبق، يسبق اللغة ويفسّرها ويحيلها الى التفسير الأصح. وتفسير هذا الوعي الذي يسبق وعي اللغة هو نبض سحري مفاجئ يسبق كل همسة ريح... إنه الشعر.

 الشعر هو ليس هذا الوعي الذي يسبق كل رعشة فحسب، بل هو أيضاً القائم الحاضر ولكن بخفاء كلّي ومستتر الى حد الغياب والتلاشي والتحوّل. لغة غائمة وماطرة، كأني أقول، ثم أجزم بما أقول، الشعر هو لغة اللغة. الشعر هو الناطق الأول باسم اللغة، وهو مفسّرها الأقدر. والدلائل كثيرة ووافرة في إسناد هذا الوعي. يكفي أن تلمع صورة المعنى والدلالة حين يضمّها الشعر أو القصيدة حتى يُصاب المتلقي، متلقي الصورة الشعرية بوعي مكثف ومفتوح على جمال الشكل والإحساس والتلاقي، يُصاب بدهشة الصورة المكتوبة ــ المحسوسة.

قد تكون القصيدة هي الحدث الذي يسبق حدوثه، وحقاً هي كذلك. وليس مبالغةً القول بالقصيدة أولاً، كأن نقول إن القصيدة هي ما يجيش في الغيب والسّراب والهواء المتخفّي. كأن نقول، القصيدة هي نشاط يسبق الوعي ويقدّم له مستلزمات الولادة والتكامل. كأن نقول الأكثر وكلّ كثير في تفوّق نبض القصيدة في جسد الحياة، ولها القدرة على تفعيل هذا النبض حتى حدوده القصوى والمرهفة. ونقول كل جديد في هذا السياق، ما يتناسل من القصيدة التي تحمل حذافير الشعر وناره الشاملة. وعندما تكون هذه القدرة الوافية في تأجيج الوعي من خلال النشاط الشعري في مناخ الوعي العام، فإن في الأمر ما هو أكثر قدرةً على الوعي، كأن نقول، ويمكن تماماً أن نقول: بالشعر نصل الى اليقين الهادئ الذي يريح النفس والروح تماماً. هكذا هو الشعر، يرمي ظلاله قبل أن يظهر في المسافة.

 الحديث في الشعر وعن الشعر متعة، كما لو أنه الشعر. الشعر متعة كبيرة. وأقول إنه متعة الكلام ومتعة الإحساس ومتعة الروح على مد النظر، الخفي والعلني. فكيف يكون الشعر نفسه إذا ما لامس جمال الأشياء التي تغني الروح وتغذّيها؟

 ثم إن الشعر هو السؤال والجواب والمتن، هو الحل والحلول والربط، وهو المدخل والمخرج والعبور الى النواحي الضرورية والاحتمالات القصوى في مباهج الحضور ودهاليز الغياب. يكون الشعر صورة في المسافة أو في العين الشاخصة أو في الصوت وصداه، ويكون أكثر في كل هذه المسافات حين تنجدل الأفكار على بعضها وتتصل بمسافة أرحب. حينها يقوم الشعر بربط الصورة بالومضة، بالمشهد، بالإحساس، فيرسم خريطة الحضور والغياب، كعناقيد جمالية لتجهيز جمال الوعي على أكمل صورة ومعنى.

غير أنه مرآة. الشعر مرآة صافية كمياه عذراء، كعين الديك، كمياه عذبة في عمق الأعماق. الشعر بصر وبصيرة، عين وعيون كثيرة، كعين النسر في الفضاء وفي أعماق الأفق الذي يمتد على مدى الوعي والحياة.

ليس للشعر ثبات عند حدود معينة وأخيرة، بمقدار ما هو متحرك وناشط في المعنى والشكل والطلاقة والتعبير. يثبت في وعي الإحساس ويتحرك ويطير ويحلّق في مناخات اللغة مهما تمادت تلك المناخات وتبدلت. يمكن أن نلحظ قدرة القصيدة على الحضور حتى خارج لغتها الأصل. ففي الترجمة مثلاً، حين تترجم القصيدة على سبيل المثال والشرح، من العربية الى لغة أجنبية أخرى، نجد ذلك التواصل الخفي السحري الذي تلعبه القصيدة في تمتين الومضة الشعرية رغم مجاراة الخيانة اللغوية التي تبرز في الترجمة.

المثقف الأجنبي، يقرأ القصيدة العربية المترجمة الى لغته بمتعة، والعكس صحيح. ثمة علاقة وطيدة قائمة في ثنايا القصيدة كأنها لتوزيع أدوار التفسير بين اللغات التي تعبرها القصيدة داخل لغات العالم والوجود.

اللغة مهما تناوبت وتبدلت لا تمس الشعر بما يخفّف من وطأة حضوره الثاقب. كل اللغات الحيّة تجاوبت مع الشعر، التمعت أكثر وتجوهرت في بريق اللغة الشعرية، سواء في الترجمة أو في الوعي المباشر لها، وأرى أن اللغة هي من سلالة الشعر وليس العكس أبداً.

اليوم العالمي للشعر ليس مناسبة عابرة، بل مناسبة مستمرة كاستمرار اللغة نفسها، كالحياة نفسها... وأثبتت مراحل الحياة التي عبرت، بناسها وزمانها ومكانها، أثبتت أهمية اللغة وجدواها، فكيف إذا كانت هذه اللغة من أبناء الشعر والقصيدة؟

سُئل أحد الشعراء عن تعريفه للشعر فقال: "لو أنني أعرف لعرّفته وارتحت"... ربما يكفي هذا العناء لتوصيف الشعر، إذا كان لا بد من توصيفه.