يسرا البيطار «شاعرة الحب» لا تعرف كيف أتاها الشّعر

إسماعيل فقيه (بيروت) 15 أبريل 2018

تكتب الشاعرة يسرا البيطار القصيدة الموزونة المرتبطة بأصول الشكل الكلاسيكي، وتجد قصيدتها أكثر تحرراً بهذا (القيد) الموزون. من مواليد كفيفان، شمال لبنان، حائزة شهادة دكتوراه من الجامعة اللبنانية في اللغة العربية وآدابها، ودراسات عليا في الحقوق، وشهادة الكفاءة والتربية. لأستاذة اللغة العربية في الجامعة اللبنانية، والجامعة اللبنانية- الأميركية مؤلفات في النقد الأدبي والألسنية، كما صدر لها: «عطر الشوق» و»أكاد من المحبة أسقط» (شعر). «لها» التقت الشاعرة البيطار ودار معها الحوار الآتي:


- تكتبين القصيدة الموزونة فقط أم أنّ لكِ كتاباتٍ في الشّعر الحرّ، المتحرِّر من قيود الوزن والتفعيلة؟
أكتبُ الشِّعرَ الموزون، وهو إمّا عموديٌّ أو قائمٌ على تفعيلة. أمّا النّثرُ فحين أكتبُه أسمّيه نثرًا. والشّاعر، إذا كتبَ نثرًا مبدِعًا، فلهُ فضلٌ مضاعَفٌ على الأدبِ والجمال. ما زلْتُ أظنُّ أنّ إيقاعَ التفاعيل المدهش هو ركنُ الزهر في الشعر العربيّ. وطالما أنّ الإنسانَ حرٌّ وحيٌّ، فإنّ آراءَه قابلةٌ للتغيُّر، إذا تشكّلَتْ لديه قناعاتٌ أخرى.

- هل التزامُكِ بالقصيدة الكلاسيكيّة هو موقف، أم أنّ له علاقة بقدرة هذه القصيدة على التعبير والاكتمال؟
لذلكَ ثلاثةُ أسبابٍ أو أكثر.

أوّلاً، أعتقدُ أنّ القصيدةَ الموزونة، حتّى في شكلِها العموديّ، قادرةٌ تمامًا على التّعبير والاكتمال (كما وردَ في سؤالِكم)، فالعربيّةُ واسعةٌ معجمًا ومتراميةُ الأطراف، والمتمكّن من اللّغةِ والإعراب يقولُ للقافيةِ «انزِلي هنا»، فتنزلُ في جَلال.

ثانيًا، إنّ النّصَّ المتفلِّت من صفةِ الوزن، والمسمَّى أحيانًا «قصيدة نثر»، لم توضَعْ له أسس في العالم العربيّ، لذلك باتَ كلُّ مَن كتبَ خاطرةً أو حتّى هذَيانًا يسمّي نفسَه «شاعرًا». وفي الواقع، قرَأْتُ بعضًا من المؤلَّفات بالعربيّة التي تحاولُ أن تُنظّرَ لما تسمّيه «قصيدة النثر»، لكنّني لم أقفْ على أيِّ خاصّيةٍ ذاتِ حدودٍ واضحةٍ ومعيَّنة. ورُبَّ قائلٍ إنّ هذا التحفّظَ، أي التطفّل على الشعر، يسري أيضًا على النّظمِ، نعم. لكنّ الحدَّ الفاصل ما بين الشِّعرِ والنّظمِ واضحٌ بكلِّ عناصرِه الجليّة.

ثالثًا، وليس آخِرًا، أنا أؤمنُ بأنّ كلَّ تحديثٍ يجبُ أن ينطلقَ من الأصول، بعد استنفادِ الأصول وختامِ العلمِ بها. لذلك أُعجبُ من جاهلٍ بقواعدِ اللّغة مثلاً يزعمُ أنّه يريدُ تغييرَها، أو من جاهلٍ في التربة يريدُ أن يطوِّرَ الزراعة، أو من جاهلٍ بأوزان الشِّعرِ العربيّ يقولُ إنّها لا تصلحُ وإنّه من دعاةِ تطويرِها. عليه أن يعرفَها وأن يتمكّنَ منها أوّلاً قبلَ أن يناديَ بتجاوزِها، كما أنّ السبعة لن تسبقَ الخمسة ولو بعدَ ألفِ عام. ويبقى أنّ النّصوصَ الإبداعيّةَ خالدة، سواءٌ أكانَت شِعرًا أم نثرًا، كما هو شأنُ الفنون، ومهما كانَت تسمياتُها، فالتسميةُ لم تكنْ يومًا أهمَّ من المسمَّى بحدِّ ذاتِه.

- لماذا الشعرُ في حياتك؟
في الحقيقة إنّه سؤالٌ صعب. لا أعلمُ لماذا الشِّعرُ في حياتي، لكنّني أعرفُ أنّني عندَ الحزنِ تشرقُ لديَّ قصيدة، وعند اندهاشٍ بحبيبٍ تبرزُ قصيدة، وأمامَ قضيّةٍ تزهو قصيدة. فأنا لا أذهبُ إلى الشعر عمدًا، إلاّ في المناسبات. أمّا الانفعالُ العاطفيّ فهو الذي يدفعُني إلى الأوراق، وهو الذي يكتبُ قصيدةَ لحظتِها.

- ما هي القضايا أو الأفكار الأساسية التي تحرّضك على الكتابة؟
الحبُّ طبعًا هو المحرِّضُ الأوّل، بكلِّ مقاماتِه، في القربِ والبعدِ والشّوقِ والفراقِ واللّقاء. وكذلكَ الشعورُ بالوحدة والخذلان والضَّياع. كما يدفعُني الظّلمُ إلى الكتابةِ عن قضيّةٍ اجتماعيّةٍ أو إنسانيّة. وإذا تعرّضَ وطني أو جيشُه لخطرٍ فإنّني أستلُّ القصيدة. لكنّني ما زلْتُ أشعرُ بأنّني مقصِّرة تجاه قضيّةِ المرأة المظلومة والأسيرة في العالم العربيّ، وإنْ كانَت قصائدُ الحبّ لديّ تعبِّرُ عن كثيرٍ من مظاهرِ هذا الأسر، انعكاسًا.

- ما رأيُكِ بقصيدة المرأة اليوم، أما زالت مقيّدة بعادات واقعِها؟
نعم هي كذلك في لبنان، أستثني بعضَهنّ ولا يتجاوزُ عددُهنّ أصابعَ اليدِ الواحدة. لكنّني لا أستطيعُ إلاّ أن أثمِّنَ إقدامَ كلِّ امرأةٍ تكتب وتحاولُ التعبيرَ عن مشاعرِها مهما كانَت درجةُ تحرّرِها في ذلك، لأنّنا في مجتمعٍ لا يزالُ يحاربُ الفكرة بحدِّ ذاتِها، إلاّ إذا كانَ إبرازُ المرأة على المنبر يخدمُ مصالحَهم، وهي متنوّعة. ومن المعروف أنّ الرجلَ في لبنانَ والشرق، وفي كلِّ أمر، ينادي بتحريرِ المرأة على ألاّ تكونَ زوجتَه أو ابنتَه أو قريبتَه. ينادي بتحرير زوجاتِ الآخَرين وبناتِهم. نعم، هذه هي الحقيقة.

- أين قصيدتُكِ من الحرّيّة والتفلّت من قيودِ واقعِها ومجتمعِها؟
قيل: «إنّ الحرّية ليسَت معطًى نهائيًّا، بل هدفٌ يسعى الأحرارُ إلى بلوغِه كلَّ يوم». أنا هكذا. لكنّني أؤكِّدُ أنّني لم أنشرْ قصيدة إلاّ حينَ وثِقْتُ من أنّني أستطيعُ قولَ الحقيقة، لذلك يُقالُ إنّني «جريئةٌ» إلى حدٍّ كبير، لكنّني لا أزالُ أسعى إلى الحرّيّةِ الكاملة، وهو نضالٌ لا يتوقّفُ، كما ذكرْت، ضدَّ الذّاتِ، وضدَّ الآخرين. قلْتُ في إحدى قصائدي:

«أنا دمَّرْتُ قهرًا مَشرقيًّا       وبَعدَكَ رحْتُ أُسْرِجُ موجَ بَحرِ»

ومعلومٌ أنّ الحرّيةَ ليست مرادفةً للوقاحة ولا للاعتداء، لذلك أعبِّرُ عن أفكاري الحرّة والجريئة بلياقةٍ ورُقيّ، ولا أستخدمُ صورًا أو ألفاظًا تخدشُ الذّوقَ العامّ، احترامًا لنفسي، واحترامًا لقرّائي، واحترامًا للشِّعر. وأودُّ أن ألفتَ النظر إلى أنّ التفلّتَ من عاداتِ المجتمع ليس هو غاية الحضارة، وإنّما غايتُها تحقيقُ الحرّية والعدالة، لذلكَ علينا أن نرفضَ ما يقيِّدُ ويؤذي، وأن نحتفظَ بما لا يتعارضُ مع الحرّية وسعادةِ الإنسان. أمّا الرّفضُ لمجرّدِ الرّفض فهو الوجهُ الآخر للانقياد الأعمى.

- هناك دائمًا (شاعر المرأة) ولكن لم نسمع بعد بشاعرة الرجل؟
أظنُّ أنّ هذا المصطلح ليس دقيقًا. فالمرأة لا يحدُّها شاعرٌ، كما أنّ الشاعر لا ينحصرُ في موضوعٍ واحد. قد يغلبُ على قصائدِهِ موضوعٌ، لكنّه لا يكونُ وحيدًا. وهكذا بالنسبة إلى الشّاعرة. إذا خُيِّرْتُ، أسمّي نفسي كما عرَّفَني أحدُ الأساتذة الأصدقاء ذاتَ مرّة «شاعرة الحبّ»، لأنّ الحبَّ فضيلةٌ إنسانيّةٌ ونعمةٌ أكبرُ من الرجل والمرأة معًا. الحبُّ أبقى من الأشخاص وأبقى من الأجساد وأبقى من الزمن المحدود. وفي لبنان عددٌ كبيرٌ من شاعرات الحبّ، وقد بلغْنَ فيه رتبةَ الشرف.

- ماذا تقول الشاعرة يسرى البيطار عن الرجل؟
لا يمكنُني، بَعدُ، أن أتحمّلَ مسؤوليّةَ تصريحٍ عن الرجل في لبنان، لكنّني في كلِّ قصيدة، وخصوصًا إذا كانت قصيدةَ حبّ، أقولُ شيئًا يكونُ مختلفًا أحيانًا عمّا سبقَه، وذلك حسب الشخص، الحالة، والحكاية. أمّا التعميم كحُكْم فهو مسؤوليّةٌ كبيرة في كلِّ أمر. لا بدّ من أنّني سأقولُ يومًا عن الرجل، لكنّني الآن لسْتُ جاهزة، ولا يُقنِعُني الارتجال.

- ماذا يعني لك الحبّ؟
الحبّ نشوة الرّوح وغطاؤها، ولا يستطيعُ إنسانٌ مرهف أن يعيشَ بدون حبّ. لذلك نختارُ التوهّمَ أحيانًا هربًا من الفراغ. وقد قلْتُ في مطلع قصيدة:

 «أفـكِّـرُ فيـكَ تُفْـرِحُني الظنونُ        وتنهَدِمُ المَـدامعُ والسّجـونُ

وأحيا، مِن حضورِكَ في خَيـالِي         على فرحٍ، وأُخْلِصُ، لا أخونُ»

إنّه التفكيرُ في الحبيب، المُفرِحُ والمحرِّر. يكفي حضورُهُ «في خَيالي» ليكونَ منّي إخلاصٌ ووفاء. وأتساءلُ أحيانًا: لو كانَ الحبُّ المتخيَّلُ مهربًا من الفراغ، فما معنى الإخلاصِ فيه؟ وهل يغلبُ الحلمُ الحقيقةَ في قلوب الشعراء؟ وأقصدُ بالحلمِ اختيارَ الحبّ المستحيل. أم أنّ المتعَبين يطمئنّون إلى الحلم خوفًا من ابتسامةٍ في الدهرِ تليها دموعٌ كثيرة؟ لسْتُ أدري. 

- هل الحبّ ضرورة في القصيدة كما هو في الحياة؟
العاطفةُ ضروريّةٌ في القصيدة وفي كلّ فنّ. أعتقدُ أنّ العاطفة، مهما تكنْ، هي جوهرُ الإبداع. أمّا شرط الإبداع فهو الحرّية. حتّى الصّورة إنْ لم تنبثقْ من العاطفة فهي اصطناع. مذاهب العاطفة متنوّعة. قد لا تكونُ عاطفةُ الحبّ هي أساس الشِّعر لدى شعراء كثر، أمّا في قصائدي فهذه العاطفةُ هي الأساس. قلْت:

«فأجملُ الشِّعرِ لا شكلٌ ولا صُوَرٌ       بل أجملُ الشّعرِ قلبي، حينَ يحترقُ»

لكنّني أعلمُ أيضًا أنّ الفرح في الحبّ ينجبُ الشِّعر، وإنْ كان عندي، غالبًا، فرحًا متخيَّلاً، لكنّني لا أكذبُ، فهو، وإنْ كان متخيَّلاً، فرَحٌ أيضًا. فما زلْتُ أؤمنُ بأنّ أجملَ الشِّعرِ أصدقُه، وأعمقُه عاطفةً، سواءٌ أكانَت عاطفة الحبّ، كالغالبة لديّ، أم عاطفة أخرى لا تُفسِدُ للشِّعرِ قضيّة.