الكاتبة السعودية مها النهدي تتنفّس المشاعر في سطور الكلمات

جدة - عزيزة نوفل 22 يوليو 2018

ميولٌ وأحلامٌ تأرجحت بين ثنايا قمم مجالاتٍ لا تنتمي إلا إلى أحاسيس عميقة وتأملاتٍ فريدةٍ داخل كل نفس، وإن كثرت المسميات وتتالت المراحل فلا يسعنا إلا أن نخطف نظرة على تلك الكلمات التي توهجت في صفحات هبت عليها رياح من الإنجازات الفريدة، إنجازات كانت لهدف تتويج ما في القلب والعقلِ من خلالِ أحرفٍ مطبوعة لإرضاء طموح الكاتبة السعودية مها النهدي، التي باحت بمكنوناتها بأربعةِ مؤلفات منشورة، كان أولها «حنجرة المكحلة» وتلاها «شهقة باب» ومن ثم «نسبة كحول» وأخيراً المجموعة القصصية «عرق القوارير»، صاحبة القلم الرشيق والمدربة والشاعرة والمصممة تأخذنا في رحلة عشق بين بحور الكلمات وقوارب المعاني. 


- رحلة الحياة تكمن سعادتها في لذّة تذوّق لحظاتها ببطء 

انطلاقةُ الشغف كانت مفاجئةً كانطلاقة الرصاصة، خلفية وبيئة محفزة للإنجاز والتميّز، ذلك كله كوّنَ مزيجاً من الشاعرة والأدبية والمدربة والمصممة، كيف تختصرين محطات حياتك من طفولتك الملحّة ومراهقتك وشبابك الثائر؟

بهجة الحياة يجب أن نعيشها كهبّة واحدة، وتعدّد الألقاب لا يفسد لحب التطور قضية، وبكل صدق لم أفكر يوماً بأي مسمى أو لقب، فأنا أعمل لمصلحة التجدد والمجد لكل مرحلة من مراحل العمر، فالصقل الوجداني والعاطفي خلال مراحل حياتنا الممتعة بين الطفولة والكهولة هو ما يجعلنا سعداء، لذلك فلنحيَها ببطء كمن يزور بستاناً في فصل الربيع، والحكمة دوماً في مشيئة الله - حيّ إلى الحياة حيّ إلى المغامرة.

- تنقلاتك في مجالات الدراسة وتقمصك أدواراً وشخصياتٍ أكسبتك خبرات استمتعت بها، لتُختتم بتخرجك في مجال علم الاجتماع، هل هذا التنوع خدم قلمك أم أشعرك بالتشوش؟

أشبّه نفسي في هذه المرحلة من حياتي بالعصفور، الذي يجمع الحشائش الصغيرة من كل مكان حتى يستقر في عش فوق غصن عالٍ، هذا ما تفعله شخصيتي المتجددة التي لا يحتملها كثيرون لشدة تنوعها، فالخليط الضخم من التجارب وإن كان مصدراً لسخرية كثر، إلا أنه سعادة حقيقية بالنسبة إليّ، لأنه مكّنني من التوحّد مع ذاتي في لحظة الكتابة والتفرق من بعدها مجدداً.

- روايات «عبير» الشهيرة كانت اللغز المحيّر لك في بداية تجربتك مع القراءة، كيف فتحت أبواب الألغاز والكلمات المبهمة، وما أكثر القصص التي تشابهت مع حالتك ووجدانك؟

لا شيء في سلسلة روايات «عبير» يشبه حياتي، لكنني أدخلتها إلى وجداني من دون أن أعي ذلك لصغر سني وصعوبة فهمي لها، ولكن لساني كان يتسابق مع نظري بقراءة كل ما تقع عليه عيني، وإن لم يناسب مرحلتي العمرية، ففضولي كان ورطة والدي آنذاك، وبهجتي كانت لا تقاس في لحظات الاكتشاف.

الكتابة شغفي ولم أجد ما يمنعني عنها 

- ذكرت في إحدى مقابلاتك أن موهبتك الفطرية بالكتابة صُقلت بمفردات القرآن الكريم وتفسيراته، هل كان هناك أدنى احتمال لأن تكون هذه الموهبة دفينة دفاتر المذكرات أو داخل قلب سيدة تشغل وظيفة روتينية؟

أعتقد أن انسيابي في هذا العالم، هو لكوني لم أجد حولي ما يمنعني من تحقيق الحلم، فقد وهبني الله قدرة جامحة على كسر القيود بلا هوادة، وإن كنت أحياناً أستجيب للقوالب التقليدية، لكني من أجل الكتابة أقول ما أقوله، وأفعل ما أفعله، وربما أزور أماكن وأعرف أشخاصاً لا يمكن أن تقبل بهم الحياة، ولكنني أفعل لأجلها فقط... الكتابة!

- حب الذات هو مفتاح نجاح كل شخص طموح، كيف أحببت أنت ذاتك وسط انشغالات الحياة والدراسة ومسؤوليات الزواج والأمومة؟

تقبلت خطئي وصوابي وما بينهما بعيداً عن المثالية، وآمنت بأن الإنسان حتى في عبادته يكون بين المدّ والجزر، فلا شيء يجعلك تحب ذاتك إلا بتقبلها كما هي.

أصفّق وأرقص لنفسي حين تغمرني «الدهشة» بما كتبته

- شعور المفاجأة والاستغراب بعد الإفاقة على أسطر من العبارات التي طُبعت بحبر ثمالة عاطفية ووجدانية عميقة، هل ما زال يراودك الشعور ذاته بعد سنوات من الكتابة وإصدار المؤلفات؟

 ليس ذلك فحسب... بل أصفّق وأصفّر وأرقص للنص الذي يبهرني، وأردّد: أحسنت يا مها أحسنتِ!

- جذبت القارئ بمؤلفاتك بكلمات ومفردات يهواها كل متذوق للأدب والفن، هل جعلك ذلك توجهين كتاباتك إلى نخبه معينة من القراء؟

 لم أتعمد هذا... إنما هي لغتي الخام في الكتابة، وقد درّبت نفسي بعد كتابي الأول على كيفية تبسيط مفرداتي وجعلها أكثر قرباً من المشاعر.

- ما المواقف والمؤثرات التي تهزّ وجدانك وتفتح أبواب البوح بمكنوناتك، أهي أفلامٌ أم كتبٌ أم مواقف حياتية؟

الإجابة عن هذا السؤال قد تظلمني، وتظلم بهاء اللحظات المتنوعة التي تداهمني فيها الكتابة، فكل شيء يثير شهيتي للكتابة من دون استثناء أو اختيار، فالكتابة كالولادة ليس لها مكان ولا زمان يقعدها عن التواجد في هذه الحياة، فهي تصرخ بكلماتها الأولى في أذني وتستمر حتى أحملها بين ذراعيّ كتاباً.

عناوين كتبي صوتُ بركانٍ يتبعه محتوى من الحمم 

- «حنجرة المكحلة» كان تجربتك الأولى في النشر ومحفزك المحرّك لتتابع منشوراتك التالية، ما الفارق بينه وبين ما نشر بعده؟

«حنجرة المكحلة» تم إصداره في عام 2009، وكمحاولتي الأولى ولرغبتي في إثبات نفسي على الساحة، استعرضت أكبر قدر ممكن من عضلاتي اللغوية والأدبية، بحيث كانت مفرداته معقدة على البعض، وعلى رغم ذلك كانت تجربتي الأولى محفزة جداً لإصدار كتابي الثاني «شهقة باب» في عام 2010، والذي حاولت به أن تكون نصوصي وكلماتي أسهلَ وأكثرَ انسيابيةٍ لتلامس أحاسيس القارئ والمتذوق الأدبي برقة ونعومة، وفي عام 2013 أصدرت كتاب «نسبة كحول» الذي كشفَ لي قدراتي البلاغية التي استقطبت أسماء عظيمة في عالم الأدب، الذين صدّقوا وآمنو بي وحضروا حفل التدشين تحت رعاية سعادة الوزير الأسبق للثقافة والإعلام دكتور عبدالعزيز خوجة، وفي شكل عام وجدت بإصداري هذا الكتاب الكثير من التقدير والاعتراف بي ككاتبه سعودية تجلس في الصف الأول مع كبار الكتاب.

- أسلوبك اعتمد على الشعر المنثور بعبارات رنانة ثلاثية الأبعاد، ما النهج الذي اختلف في إصدارك الأخير؟

أصدرت مجموعتي القصصية «عرق القوارير» تزامناً مع بداية عام 2018، وذلك بعد أربع سنوات من المحاولات الشاقة والمضنية لإصداره، فالأغلب كان يرفض طباعته لكونه يرى أن دخوله في هذا الكتاب أشبه بدخول عشّ الدبابير، لكني على رغم ذلك تحدّيت كل الظروف والرفض، لأُتيح هذا الكتاب للقارئ، الذي سيرى بين سطور هذا الكتاب قصصاً لامرأة عايشت وتجرعت مرارة السنوات وسط الصمت، وحان الوقت لقول الحقيقة صريحة وواضحة، فقد انتهى زمن تكميم الأفواه!

- مسمّيات كتبك تحمل جاذبيةً لا تقاوم، وتعطي انطباعاً قوياً للنصوص التي في داخلها، هل تعتبرين نفسك من الكتّاب الذين يعتمدون على العناوين، وما العلاقة ما بين المحتوى والعنوان من وجهة نظرك؟

العناوين هوايتي المفضلة التي توازي ركوبي للخيل وممارسة السباحة، لكنها الأكثر وقعاً على صحّتي الكتابية، وهي المؤشر الذي يضع بصمتي في عالم الكُتب المكتظّ، والوصول إلى العنوان هو نهاية رحلة أمضيها لسنوات بحثاً عن «الدهشة» التي تقع في صدري، فحينما ينزل عليّ العنوان بعد الفراغ من كل ما يدور في مخيلتي من مشاهد وأصواتٍ وروائح وتفاصيل، أشبه بهديّة ربّانية تفاجئني وتغمر قلبي حتى السجود شكراً لله على هبته، في حين أن النص داخل الكتاب يمثّل البركان الذي ينفجر بعد الانتهاء من قراءة العنوان، فهو الوجبة الشهية التي تُكمل مكوّنها بعضها ببعض، لأقول بكل فخر لمن هضم نصوصي بعد أن تذوّق لذّتها: «بالعافية».

الساحةُ الأدبيةُ كانت أفضل والكتابُ الحقيقيون على حافة الهاوية

- الكتب الورقية ليست منصتك الوحيدة التي تخرجين بها إلى متابعيك، فحتى العالم الافتراضي تنثرين عليه يومياتك وعباراتك الملهمة، ما أهمية ذلك لك ككاتبة، وهل تسعين إلى زيادة بقعة انتشارك وشهرتك؟

أُعَدّ شديدةَ الحرصِ على ألا أتواجد بكثرة حتى لا يملّ المشاهدُ أو متابع قنوات العالم الافتراضي، وأستعين بالحكمة بتدبير الكيف لا الكم في ما أطرحه وأتناوله، لكن للأسف إن هذا العالم الافتراضيّ على رغم انتشارنا الجيّد فيه، إلا أنه يحرمنا من حلاوة الواقع، فهو يأكل من مادة الوقت والعمر الذي يمضي، وهذا الشعور في حدّ ذاته لا يُريحني، لذا أتمنّى أن يُلتمسَ لي العذرُ في حبّ الواقع.

- ما تقييمك للساحة السعودية الأدبية في شكل عام؟

منذ عامين فقط، كانت الساحة الثقافية السعودية في أبهى صورها، ولمع اسم كثرٍ من الكتّاب الذين وُفّقوا بالحصول على جوائز محلية وأدبية، حتى المغمور منهم كان يجد كرسياً في الصف الأول، وعلى مستوى العالم الافتراضي وُظِّف الأدب السعودي أيضاً في شكل باهر وعالميّ من خلال ترجمة الكثير من المؤلفات السعودية إلى أكثرَ من أربعةٍ وأربعين لغةً، ذلك الشعور الذي أقف على أطلاله بكل حزن، فقد ضاقت الذائقة بعد أن انتشر التزوير الصريح للمحتوى، وسرقة العناوين «عيني عينك» والقارئ في غفلة تؤلمني وتأجّج حزني على صعود مذهلٍ تلاه هبوط إلى الجرف، والكتّاب الحقيقيون هم على حافةِ الهاوية.

- أنتِ مدربةٌ في مجالات تطويرِ الذات، وذلك هو أحد جوانبك التي تشاركين بها الناس الطاقة الإيجابية والتحفيز على الإنجاز، هل تنوين التطور في هذا المجال وإصدار مؤلفاتٍ تخصّ ذلك؟

مدرّبة نعم... لكنني وبكل صراحة تعلّمت أن أكون كذلك من أجل نفسي أولاً، لأكسرَ حواجزي الداخليّة وخجلي من خلال ممارسة ما أؤمن به وتربّيت عليه من حب مساعدة الآخرين، وعلى مستوى مشاعري ووجداني، لا أجد أحياناً ما أساعدُ به الناس مادياً بقدر ما أقدّم لهم معنوياً من الكلامِ الطيّب والابتسامةِ، لأحصدَ بذلك ابتسامةَ الكثيرين، أما عن التأليف في هذا المجالِ فأرى أن له متخصّصين به، وأنا لا أعدّ نفسيَ متخصّصة بذلك، ولو حدث وخدعتُ القراءَ بكتابةِ كتبٍ تتناول مواضيعَ تطويرِ الذاتِ، فاعلموا أنني كاتبةٌ بارعةٌ تقمّصت الدور بطبيعتي وعالجتُ بالطبّ الأدبي!

- هل تفكرين بدخول مجالاتٍ أخرى وخوضِ تجارب بعيداً عن الكتابة، أم أنّ مخططاتك تنصبّ في هذا المجال، حدثينا عن الأحلام والمخططاتِ التي ستولد قريباً؟

حتى الآن، أنا مستقرة على أن الكتابة هي كل حياتي، ولا أعلم صراحةً متى ستستقرّ حالةُ طموحي، ولا أجدُ في ذلك حرجا،ً فأنا أريد كل شيءٍ من كل شيءٍ دفعةً واحدة، وعن الأمل والخطط فلا يسعني سوى تذكّرِ لحظات جلوسي في مقهى «غراند كافيه» في مدينةِ بيروت في نهاية فصل الشتاء، حين كنت أنفث أنفاسيَ الحارةَ على قهوتي البيضاء، التي تمازجت مع مشاعر الإحباطِ، لأرفعَ رأسي بعد دقيقة أمتلأَ فيها صدري برائحة الحياة، بعد أن شهدتُ خجل الشمس وهي تغيب في أحضان البحر الثائر حتى ابتلعها بلا هوادة، دقائق وكان البحر قد نام في ظلمته، ورحت أتأمل حتى بكيتُ مبتسمةً لقوله تعالى: (وعلّم أدمَ الأسماءَ كلَّها)، فلمعت في رأسي قصةٌ رست على ورقة كتبت في أولها «البحر على رغم أسراره لا يعرف أسمه... فكيف بأسراري وأنا أعرفُ أسمي!؟» وانحسر الشرود وفتحت ابتسامتي أشرعتها مجدداً.