الدكتور مصطفى الرزاز: أدين بالفضل لـيحيى حقي وتوفيق الحكيم وسعد الخادم

طارق الطاهر (القاهرة) 12 أغسطس 2018

تقديراً لموهبته وتجربته المتميزة فناً وتدريساً، حصل الدكتور مصطفى الرزاز على جائزة النيل في الفنون، وهي أرفع جائزة مصرية، وكان ينافسه عليها الفنان الكبير جورج البهجوري، لكن جاء تصويت المجلس الأعلى للثقافة في مصر، لمصلحة الدكتور الرزاز، الذي يعد اليوم واحداً من أهم الفنانين التشكيليين في مصر والعالم العربي، وهو يمتلك تجربة فنية ثرية ومتعددة الأوجه، بحيث يجيد فن الرسم الزيتي، فضلاً عن منحوتاته الجذابة، وبحوثه ودراساته في القيمة، لا سيما في الفن الشعبي.

تجربة ثرية

يمتلك الدكتور مصطفى الرزاز تجربة ثقافية ثرية، فله تجاربه الخاصة والمتفردة في تكوين الذات، بحيث كان شغوفاً منذ صغره بالتردّد على دار الكتب في باب الخلق، وربما شجعه على ذلك أن والده شغل وظيفة رئيس قسم المخطوطات فيها لمدة عشر سنوات بدءاً من عام 1948 حتى إحالته على المعاش، ويتذكر كيف أن أستاذه الفنان الكبير الراحل سعد الخادم طلب منه أن يصحبه في زيارة لوالده - كان الرزاز حينذاك في الصف الثاني في كلية التربية الفنية - لكي يطلع على المخطوطات الخاصة بالسحر، وهنا تعجب التلميذ من أستاذه، الذي ترك المخطوطات الإيرانية المذهّبة والمليئة بالرسوم الواضحة والجذابة، وذهب الى مخطوطات السحر ذات الرسوم الموحشة والحبر الباهت. وهنا تعلم الرزاز درسه الأول من معلّمه سعد الخادم، إذ قال له إن الأعمال الكاملة لا تلهمك، بل تعلّمك كيف تستفيد منها... لكنك في النهاية لن تستطيع أن تتجاوزها. بمعنى أن الهرم الأكبر يعد عملاً متكاملاً تتعلّم منه، ولكنك لن تتمكن من تجاوزه. أما التراث والفن الشعبي فهما بذرة تستطيع أن تستلهمها وتقودك إلى أعمال أخرى، فهي الملهم لك ولفنّك وثقافتك.
ومنذ ذلك الدرس صار الرزاز يتردد على دار الكتب يومياً، ليتفرّج على المخطوطات المرتبطة بالسحر والتراث الشعبي والفقه والشريعة.
ويتذكر الرزاز هذه التجربة قائلاً: «من مخطوطات الشريعة كنت أتوقف عند بابين مهمّين، الأول باب الحسبة والمحتسب، أي مراقب الأسواق، ففي كل مخطوط من هذه المخطوطات كان هناك تقرير يرفعه المحتسب في الأسواق إلى المحتسب الأكبر، يخبره فيه بسير العمل في كل حرفة، والورش الملتزمة بأصول المهنة والتي لا تتلاعب بأدواتها، والأخرى التي لا تلتزم بهذه الأصول وتغشّ في الصنعة، مما يوجب إغلاقها، وبالتالي كنت أتعرف على الخامات والأدوات وطرق صناعة الحِرف المختلفة، وأجمع هذه المعلومات في كرّاس خصّصته لهذا الغرض، ومن ثم توافرت لدي معلومات غزيرة عن كل مهنة وتطوّرها وأهم صنّاعها. أما الباب الثاني الذي توقفت عنده في مخطوطات الشريعة، فهو الخاص بـ«عرش الرحمن»، وكيف صوّر الفقهاء هذا العرش وأطلقوا لخيالهم العنان في تصوره».

تكوين مكتبته

تجربة الرزاز في دار الكتب، أثّرت بلا شك في حبّه للقراءة ورغبته الدائمة في جمع الكتب، لا سيما تلك النادرة، وكذلك كوّن مكتبة لا بأس بها من المخطوطات التي خطّها بيديه، وعندما سافر في بعثة الى أميركا تعرف على مكتبة هناك تسمّى «ستراند»، كانت تخصّص جزءاً منها للكتب القديمة، واعتاد الرزاز أن يشتري منها طوال فترة وجوده طالبَ بعثةٍ في أميركا، أو حتى في زياراته المتعددة بعد ذلك، وأحياناً كانت رغبته الشديدة في اقتناء الكتب تدفعه إلى نقل ما يقتنيه على متن السفينة من أميركا.
وبسبب مبالغته في شراء الكتب، كان يكتشف عند قراءة مضمون بعضها أنها مجرد طبعات لاحقة للطبعة الأولى، التي سبق أن اقتناها منذ سنوات، ولكن حدث ما جعله يتمنى شراء الكتب، التي كان قد اشتراها من قبل، وذلك عندما احترقت مكتبته الموجودة في مرسمه عام ١٩٩٣، هذا الحريق الذي أتى على كل مقتنيات المكتبة. ومنذ ذلك الحين، كلما زار نيويورك قصد تلك المكتبة على أمل أن يجد ما سبق أن اشتراه. ويضطر الرزاز أن ينقل مرسمه بشكل مؤقت ليكون أحد مراسم الطلبة في كلية التربية الفنية، التي كان وقتها عميدًا لها.
عندما حكى لي الرزاز عن واقعة احتراق مكتبته، وكان قد مر على ذلك سنوات طوال، شعرت بحزن دفين لم يغادر قلبه على فقدان هذه المكتبة التي هي على حد وصفه جزء من ذاكرته، إلا أنه يتذكر بابتسامة عريضة ما قام به تلاميذه وأصدقاؤه، تضامناً معه في هذا الموقف، إذ فوجئ بأنه يملك عشرات الكتب، وهي التي كان يعطيهم إيّاها وينسى أمرها، فأعادوها إليه بعد هذا الحريق ليكوّن مكتبة جديدة، كما أهداه الكثير منهم كتباً من مكتباتهم، تقديراً له ولمكانة مكتبته القديمة في نفوسهم. وهو استطاع فعلاً أن يكون مكتبة جديدة، بدا جوهرها شاهداً على مكتبته القديمة.

مواقفه السياسية

الرزاز من الفنانين الذين يمتلكون رؤى ومواقف سياسية واضحة لا لَبس فيها، فقد ناصر القضية الفلسطينية من خلال معارضه المختلفة، وأقام أكثر من معرض عن هذه القضية، آخرها معرضه «فلسطين من الواقعية إلى السيريالية».
وعن هذه التجارب يقول الدكتور الرزاز: «في أعقاب ثورة تموز/يوليو 1952 بدأ موضوع فلسطين يشكل ملمحاً أساسياً في أعمال الفنان المصري، إذ أصبح لا يخلو معرض من العديد من الأعمال التي تتحدث عن هذه القضية بصفتها هدفاً مهماً من أهداف الثورة. ومع مرور الوقت وتعقّد الأمور، ساير الفن التشكيلي ذلك إبداعاً، وكانت هذه القضية دافعاً لي فعبّرت عنها في الكثير من المعارض، فأقمت عام ١٩٦٦ معرضاً استخدمت فيه التعبير بالزيت والحفر، وحمل عنوان  «الناس والجدران»، وضم مجموعة كبيرة من الأعمال التي دارت حول تصوير مجموعة جدران سميكة، وتتخللها فتحات صغيرة تظهر من خلالها أنامل وعيون لأطفال وعجائز، ويرمز ذلك إلى أن الفلسطينيين أصبحوا ينظرون الى بلادهم من وراء جدران منيعة، تلاه معرض بعنوان «الناس والديار»، صمّمت فيه بيوتاً كرتونية، ومن حولها مجموعة من الناس تركض في اتجاه متباعد عنها، وقصدت من ذلك طرد الفلسطينيين من بيوتهم».
وقد كان الشعور في المعرضين السابقين هو: كيف نساند الفلسطينيين في ضرورة التشبّث بأرضهم؟ ولكن تعدّت القضية بعدها هذا المنظور، وأصبحت كيف نحافظ على حقوقهم الإنسانية؟ وانتقلت إلى التعبير عن التراث الفلسطيني، الذي لا يمكن انتزاعه أو طمسه، فإذا كان الإسرائيليون قد تمكّنوا من الاستيلاء على العقارات، إلا أنهم لم يستطيعوا محو التراث الفلسطيني، المتمثل في الأغاني والعادات والتقاليد، وعندما احتلت إسرائيل القدس، كان معرضي بعنوان «النازحون عبر الجسر»، وعبّرت فيه عن مشاهد طرد آلاف الفلسطينيين من القدس وترحيلهم عبر جسر اللمبي إلى الأردن، وسط أناس مدجّجين بالسلاح، وركزت في هذا المعرض على فكرة البطش في سبيل العزل في لوحتي «النازية الجديدة»، وأوضحت فيها أن القدس أرض السلام لكل الأديان».
ويؤكد الرزاز أن عدداً من الفنانين لا يزال همّهم وشاغلهم الشاغل هو التعبير عن هذه القضية، ومن أبرزهم الفنان الدكتور محمد رياض سعيد، ذو الطابع السوريالي المتميز، الذي عبّر في لوحاته عن القدس وقبّة الصخرة وأرض المعاناة، والفنان الدكتور مصطفى الفقي، الذي عبّر عن القدس ومعاناة المواطنين من جراء هذا الاحتلال.

عاشق لفن الطباعة

للحاصل على جائزة النيل في الفنون تجربة خاصة جداً في فن الطباعة، عنها يقول: «عندما أنظر إلى الوراء، عبر الحقب الخمس، التي درست فيها ومارست فنون الطباعة الغرافيكية الفنية، أتأمل دوافع انجذابي الى هذا المجال خصوصاً، وحرصي على تعلّم كل التقنيات والطرق الطباعية، باحثاً عن ماكينات الطباعة اليدوية القديمة وإعادة تأهيلها».
ويضيف: «لقد كانت بداياتي مع فنون الغرافيك الطباعية اليدوية منذ عام ١٩٦٢، حين كنت أعاود زيارة النوبة القديمة وموقع بناء السد العالي، حيث كنت أتنقل من قرية إلى نجع في أرجاء هذا الجزء العزيز من مصر على مركب يسير بطيئاً، بصحبة أستاذي الفنان سعد الخادم وزوجته الفنانة عفّت ناجي، ومعهما الكاتب الكبير يحيى حقي وزوجته، وعدد آخر من زملائي وأساتذتي، أرسم وأصوّر منازل النوبة الفريدة من نوعها في الفن الشعبي المصري، وأحوال الناس وإيقاعهم، الذي يجسد تواصل التاريخ، وهم يزخرفون واجهات البيوت وغرفها الداخلية بوحدات ورموز ذات دلالات قوية».

رحلة مع الجوائز

عرف الرزاز طريق الجوائز قبل أن يقيم معرضه الأول. ففي العام 1962، فوجئ بخطاب في يد والده، وهو يناديه بصوت عالٍ... توقع أن عقاباً سيحلّ به، فهو في نظر والده الابن الأكثر إزعاجاً، والأبناء الآخرون أكثر تفوقاً من الرزاز، الذي التحق بكلية التربية الفنية. لكن هذا الخطاب أعاد الأب إلى التفكير من جديد في ابنه الموهوب، إذ فوجئ بأنه يتضمن توقيعاً من الكاتب الكبير توفيق الحكيم، المسؤول عن جمعية الفنون الجميلة في ذلك الوقت، وأن الخطاب يخبر الرزاز بفوزه بالجائزة الثالثة لصالون القاهرة، ويستأذنه في حالة الموافقة أن يخطرهم حتى يتمكنوا من إعطائه القيمة المالية للجائزة، ومقدارها مائة جنيه، وهي بكل تأكيد ثروة في ذلك الوقت... وكان لهذا الخطاب مفعول السحر في الأسرة التي أيقنت أن لديها موهوباً ينتظره مستقبل باهر، وهو ما حدث فعلاً، فقد نال درجة البكالوريوس بتقدير أهّله ليُعيَّن معيداً، وبعدها نال الماجستير عن موضوع «زخارف العربات الخشبية في مصر» 1973، والدكتوراه في فلسفة الفن من جامعة نيويورك 1979، وعمل مدرّساً في كلية التربية الفنية منذ تخرجه عام 1965 ولا يزال الى اليوم، كما أنه مؤسّس وعميد كلية التربية النوعية في جامعة القاهرة 1998.
وعن الجوائز الأخرى التي حصل عليها، يقول الرزاز: «حصلت على العديد من الجوائز، منها جائزة صالون القاهرة الحادي والأربعين في التصوير، جائزة مسابقة أمجاد الثورة، جائزة مسابقة السد العالي، جائزة جامعة نيويورك للفيلم المتحرك، جائزة بينالي البلكونات في إسبانيا، منحة الدراسة في جامعة أوسلو، تكريم قطاع الفنون التشكيلية في المعرض القومي العام 1999».

مؤلفاته

كما أثرى الدكتور الرزاز المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات، منها: «مجلد الفن العربي» (عربي- إنكليزي- فرنسي)، «الفن الإسلامي من منظور شرقي»، «الفن المصري الحديث»، «عبد الرزاق صدقي... العلم والفن»، «التعبيرية في الفن المصري الحديث»، وغيرها من الكتب.