تجرية تثير ضجة في وطننا العربي... مدن آمنة للنساء

القاهرة - جمال سالم 18 أغسطس 2018

تعد منطقة إمبابة في محافظة الجيزة في مصر، أول منطقة عربية يُطبّق فيها برنامج هيئة الأمم المتحدة للمرأة، “مدن آمنة خالية من العنف ضد النساء والفتيات”، وقد تم تجهيزها بتمويل من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، بالتعاون والشراكة مع المجلس القومي للمرأة. ورغم أن الفكرة فريدة من نوعها، إلا أن الآراء اختلفت حولها. فما قصة هذه التجربة؟ وماذا عن الآراء المؤيدة والمعارضة لها؟


بدأت الفكرة منذ سنوات قليلة، وإثر الجدال الواسع الذي أثارته التحرشات والسرقات التي استهدفت النساء في حفلة رأس السنة في مدينة كولونيا الألمانية، فقرر منظمو الاحتفالات في العاصمة برلين إنشاء “منطقة آمنة” للنساء للمرة الأولى، مع تقديم كل المساعدات لهن في “هذه المنطقة” التي يديرها الصليب الأحمر، في شارع إيبرتشتراسيه، مع توفير اختصاصيين اجتماعيين وأطباء نفسانيين، وقد اختلفت الآراء حولها، حيث أيّدها البعض، ووصفها آخرون بأنها تمييز مرفوض، حتى أن هذا الإجراء لم يرُق لرئيس نقابة الشرطة الألمانية، ووصفه بـ”نهاية المساواة وحرية التنقل”، في حين أعلنت الشرطة أن في إمكان النساء اللواتي تعرضّن للتحرش، التوجه إلى هذه المنطقة، والتي هي عبارة عن نقطة التقاء النساء “المُتحرَّش بهن”، وبالتالي طلب المساعدة من الجهات المنظِّمة، بما فيها الشرطة، التي اشترطت عدم جلب أي أدوات حادة، أو حقائب الظهر أو المشروبات الكحولية أو الألعاب النارية، مع توعد كل من يخالف هذه الشروط بعقوبات رادعة.

وانتقلت الفكرة إلى إحدى ضواحي العاصمة الفيليبينية مانيلا، التي طبّقت المبادرة الأممية لمواجهة العنف ضد النساء والفتيات، سواء اللفظي أو الجسدي، من خلال فكرة تشاركية تعتمد على تنقّل أشخاص سيراً على الأقدام في الأحياء والأماكن العامة كالحدائق، والتواصل مع الأجهزة الأمنية لحماية المرأة من التحرش بأنواعه، وإقناع السكان المحليين بالمشاركة لجعل المدينة أكثر أمناً للنساء. كما طبّقت هذه المبادرة، “المنظمة الدولية للنساء في المدن” في مدينة مونتريال الكندية، وأطلقت عليها “برنامج المدن الشاملة للنساء”، وكذلك نُفّذت في العاصمة الهندية نيودلهي، والعاصمة التنزانية دار السلام ومدينة روزاريو في الأرجنتين، وبيتروزافودسك في روسيا، وطالبت الأمم المتحدة الحكومة العراقية بتوفير مناطق آمنة للنساء في بعض المدن التي تحررت من سيطرة الجماعات المتطرفة.

تجربة فريدة 

تقول الدكتورة إقبال السمالوطي، رئيس جمعية “حواء المستقبل”، والشريك في إدارة المشروع، إن برنامج “مدن آمنة خالية من العنف” يستهدف المناطق الفقيرة التي تكثُر فيها الجرائم ضد النساء والفتيات، حيث أظهرت دراسات المسح أن خطر تعرض السيدات والفتيات من مختلف الأعمار للتحرش، تفوق نسبته أحياناً الـ 75 في المئة، ولهذا تم اختيار 4192 طفلاً لتوعيتهم بخطورة التحرش وضرورة مواجهته، وذلك في إطار البرنامج الدولي، لأن الإصلاح الفكري والاجتماعي يبدأ من هؤلاء باعتبارهم من الفئات المؤثرة في مجتمعهم وبيئتهم.

وتشير السمالوطي إلى أن الدراسات كشفت أن 26 في المئة من الأسر في منطقة إمبابة تعيلها نساء، فضلاً عما تعانيه المنطقة من ظاهرة التحرش، وخاصة اللفظي، فمنذ عام 2012 شهدت المنطقة تطوراً كبيراً، وقد تم تحديد استراتيجية تمكين المرأة التي أطلقها المجلس القومي للمرأة، وتتضمن 170 هدفاً يتم تحقيقها مع حلول عام 2030... وتضيف السمالوطي: “بنتيجة ممارستي للعمل الأهلي، لاحظت أن واقع المرأة الاقتصادي يؤثر فيها وفي أسرتها في المجالات كافة، وخصوصاً التعليم والصحة، وحتى في التخلّي عن العادات والموروثات الثقافية التي تنال من حقوقها وتعظّم الظلم الواقع عليها، كالختان.

لذا نسخّر كل طاقاتنا بالتعاون مع المجلس القومي للمرأة والوزارات المعنية للنهوض بالوضع الاقتصادي للمرأة المصرية”. وتؤكد الدكتورة إقبال أن “مشروع “مدن آمنة خالية من العنف ضد النساء والفتيات” يهدف إلى مناهضة كل أشكال التحرش التي تتعرض لها النساء والفتيات في الأماكن العامة، من خلال تغيير المفاهيم المجتمعية حول النوع الاجتماعي، وهو يركز على التحسين والتطوير العمراني للمساحات العامة، مما يعطي النساء والفتيات حرية أكبر في الحركة من دون الخوف من التعرض لعنف أو تحرش.

كما أن الهدف من تصميم تلك المدن الآمنة، هو رفع درجات الأمان لدى الفتيات اللواتي يدرسن في عدد من المدارس الثانوية في المنطقة، وقد يتعرضن للتحرش في أثناء الذهاب والعودة، وبالتالي توفير مساحة لهؤلاء الفتيات بما يسمح بخلق مُتنفس آمن لممارسة الرياضة، إضافة الى تأمين مسارات آمنة لتلميذات المدارس المحيطة، تجنّبهن التعرّض للتحرش والمضايقات وهنّ في طريق العودة الى منازلهن. هذا فضلاً عن إيجاد مساحة عمل آمنة للنساء لعرض منتجاتهن بما يضمن لهن فرصة المشاركة في سوق العمل والتمكين الاقتصادي، كذلك توفير مساحة آمنة لأفراد الأسرة، شباباً وأطفالاً، لتغيير المفاهيم حول النوع الاجتماعي ورفع الوعي للحصول على مجتمع أكثر أمناً ومساواة، وإدخال تحسينات بيئية حرصاً على سلامة النساء والفتيات في مناطق التدخل، كرصف الطرقات وإنارة الشوارع وتشجير المنطقة ومحيطها”.

تنفيذ الاستراتيجية

تقول الدكتورة مايا مرسي، رئيس المجلس القومي للمرأة، إن الاشتراك في تطبيق هذا البرنامج الأممي الدولي في مصر يأتي في إطار تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لتمكين المرأة 2030، التي أعدّها المجلس القومي للمرأة في وقت سابق، وتنص على “إدماج النوع الاجتماعي في التطوير العمراني لجعل المدن والمساحات العامة أكثر أماناً للمجتمع ككل؛ وللنساء والفتيات بصفة خاصة”. وتوضح الدكتورة مرسي، أن ما تقوم به هيئة الأمم المتحدة يعد تطبيقاً عملياً للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، مما يعود بالنفع على المجتمعات كلها، خاصة النساء والفتيات، لأنهن يمثّلن نصف المجتمع عدداً، وكل المجتمع تأثيراً، فالمرأة هي الأم والأخت والابنة. وتؤكد د. مرسي أن المرحلة المقبلة ستشمل منطقتَي منشية ناصر وعزبة الهجانة، وهما من المناطق التي تغلب عليها العشوائيات والفقر الذي يؤدي الى الكثير من الجرائم الاجتماعية والأمراض النفسية، التي تدفع ثمنها الباهظ النساء والفتيات.

تذليل الصعاب 

تشير الدكتورة منال عوض، نائب محافظ الجيزة والمشرفة على تنفيذ التجربة في المنطقة، إلى أنه تم اختيار إمبابة لإنشاء أول نموذج لـ “منطقة صديقة للنساء والفتيات”، لأنها منطقة مزدحمة وفقيرة، مما يستوجب خلق مساحة آمنة للنساء والفتيات للتعلّم، ورفع الوعي حول قضايا العنف ضد المرأة، وممارسة الرياضة والتمكين الاقتصادي، الذي لا يعني اقتصار دور المناطق الآمنة على البيع والشراء الآمن فقط، بل أن تعمل هذه المناطق على تقديم الخدمات الشاملة والمتكاملة للنساء والفتيات، وتسعى الى تنشيط المنطقة المحيطة، وتعزيز عوامل الأمان فيها، من خلال مساعدة الأفراد والمؤسسات، وإنارة المكان وإقامة الأنشطة المختلفة داخلها، بالاعتماد على آليات مجتمعية للمشاركة في إدارة ومراقبة المساحات العامة لضمان خلوها من الجرائم والعنف، وتشجيع المرأة على المشاركة في الأنشطة والفعاليات المجتمعية بحرية تامة وأمان كامل، وتمكينها من أداء دورها في المجتمع، وضمان حقها في مساحات عامة آمنة”.

وتوضح الدكتورة منال أن العمل جارٍ على تذليل العقبات التي تواجه التجربة من الناحية الرسمية في المحافظة، خاصة أن المنطقة تضم حمّاماً خاصاً وحُجرة للأمن النسائي وبوابة أمنية كاشفة عن المعادن والأدوات الحادة، ومعرضاً للمنتجات اليدوية وأماكن ترفيهية للفتيات، كما يُقام على هامش المنطقة الصديقة معرض للمنتجات اليدوية للنساء والفتيات، وورشة فنية للأطفال باستخدام عرائس “الأوريغامي” والرسم على الزجاج، كذلك تُنظّم ندوات وعروض مسرحية للتوعية بمختلف القضايا التي تهم النساء. وتلفت الدكتورة عوض إلى أن توصيات مبادرة الأمم المتحدة يتم تنفيذها حالياً، باتخاذ تدابير لضمان تمكين النساء والفتيات اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً في الأماكن العامة، وحمايتهن من كل أشكال العنف، ولهذا يتم تطوير المنطقة لتشمل حديقة لتمكين الطالبات في المدارس القريبة من ممارسة العديد من الأنشطة بطريقة آمنة وبحرية كاملة.

تمكين المرأة

تعلن بلرتا أليكو، ممثلة هيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، والتي حضرت افتتاح التجربة في إمبابة، إنه في إطار برنامج “مدن آمنة خالية من العنف ضد النساء والفتيات”، تم اختيار مصر من بين خمس دول لتنفيذ البرنامج، شرط أن تلتزم الدول المشاركة باتخاذ تدابير لضمان تمكين النساء والفتيات، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وحمايتهن من كل أشكال العنف، علماً أن ظاهرة التحرش بالنساء منتشرة في كل دول العالم، مما يؤثر سلباً في حرية السيدات والفتيات أثناء تنقّلهن في الأماكن العامة. وتوضح المسؤولة الأممية، أن هيئة الأمم المتحدة للمرأة، هي هيئة تُعنى بالمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، ويطلق عليها “النصير العالمي الرئيس لقضايا المرأة والفتاة”، حيث أُنشئت بموجب قرار الجمعية العامة في تموز/يوليو 2010 بهدف التعجيل في إحراز تقدّم في ما يتصل بتلبية احتياجات النساء في العالم.

الناشطة الحقوقية نهاد أبو القصمان تؤيد الفكرة وتؤكد أن التحرش أصبح ظاهرة مخيفة ومنتشرة في كل مكان، حتى أن بعض الدراسات حذّرت من التحرّش داخل الأسر نفسها ومن المقربين، ولهذا تفقد حواء الأمان في كثير من الأماكن، ومن هنا فإن هذه المدن أو المناطق الآمنة تمثل ملاذاً آمناً للمرأة للحصول على احتياجاتها من دون عناء. 

وتثمّن أبو القمصان حرص القائمين على تنفيذ الفكرة وتحويلها إلى حقيقة، لتوعية الشباب بمخاطر التحرش على المجتمع ككل، وضرورة احترام المرأة وعدم النظر إليها باعتبارها أنثى فقط، وإنما بصفتها إنساناً له كرامته واحترامه.

سلاح ذو حدين 

تؤكد الإعلامية نشوى الديب، عضو مجلس النواب في منطقة إمبابة، أن الفكرة سلاح ذو حدين، فهي إذا كانت توفر الأمان المؤقت للمرأة، إلا أنها قد تزرع الخوف في نفسها من رجال المجتمع، الى حد “الفوبيا” أحياناً، وكأنهم جميعاً ذئاب بشرية يجب الابتعاد عنهم، مع أنهم شركاء في المجتمع وفي كل الأمكنة، فمنهم الأب والأخ والابن والزميل في العمل والجار في المبنى، وبالتالي لا يمكن عزل المرأة عن الرجل بأي صورة.

وتوضح نشوى الديب أن الحل يكون في نشر الوعي لدى الرجال، وسنّ تشريعات رادعة لكل من تسوّل له نفسه التعرض للمرأة بأي سوء، وفي الوقت نفسه غرس الجرأة في نفوس النساء، وتشجيعهن على استخدام سيف القانون في حمايتهن من المتحرشين، وقد استطاعت بعض الجريئات سجن المتحرِّش بهن من طريق أحكام قضائية رادعة، جعلت المتحرش عبرةً للآخرين، ونُشر ذلك في وسائل الإعلام، وبدأت مرحلة محاصرة الظاهرة بالقانون والوعي المجتمعي.

فكرة عالمية 

تشير الدكتورة سامية قدري، أستاذة علم الاجتماع في جامعة عين شمس، إلى أن إيجاد مدن آمنة خاصة بالنساء فكرة عالمية جيدة، وساهمت في توفير الأمان للمرأة في مختلف مراحل عمرها، ولهذا نطالب الحكومات العربية بأن تشدّد في مناهجها التعليمية ومؤسساتها الثقافية ووسائل إعلامها على إبراز الدور المشترك للرجل والمرأة في حماية القيم والفضائل، وتحقيق الاندماج الآمن بينهما، بدلاً من السعي إلى فرض نوع من العزلة والانفصال بينهما.

وتؤكد الدكتورة سامية قدري ضرورة تغيير التقاليد البالية التي تنظر إلى المرأة بصفتها “أنثى” فقط وليس كإنسانة لها احترامها وتقديرها وحريتها في أن تعيش حياتها بدون تطفل من بعض الرجال، الذين يقتحمون عالمها من خلال التحرش اللعين، ولهذا يجب تكوين رأي عام يتفهّم دور المرأة في تعزيز الأمن الاجتماعي من خلال شخصيتها القوية الإيجابية التي تساهم في نمو المجتمع ورقيه.

وتختتم الدكتورة سامية كلامها مؤكدةً وجوب تصحيح نظرة المرأة الى نفسها أولاً لكي تستطيع العيش في المجتمع، وتساهم بالتالي في تغيير الصورة النمطية الراسخة في أذهان الرجال عنها.

جيدة ولكن... 

يحذّر الدكتور إيهاب عيد، أستاذ علم النفس في جامعة عين شمس، من التقوقع النفسي للنساء داخل تلك المناطق الآمنة، فيطالبن بانتشارها بكثرة، مما يعني أن المرأة تسعى لعزل نفسها عن المجتمع، وهذا أمر مرفوض، بل يجب العمل على رفع معنويات المرأة وغرس الجرأة في نفسها، فلتجأ إلى القانون في حال تعرّض لها أي رجل بالإيذاء النفسي أو المادي أو غيره، خاصة وقد أصبحت التشريعات الحالية أكثر تشدّداً في معاقبة المتحرش.

ويؤكد الدكتور إيهاب عيد، أن الفكرة جيدة من حيث المبدأ، لتوفيرها نوعاً من الخصوصية والحرية في مجتمع نسائي بعيداً من نظرات المتحرشين، لكننا نخاف من التطور السلبي للفكرة، لأن الشيء إذا زاد عن حدّه انقلب إلى ضده، فتوفير مناطق آمنة للنساء فكرة جيدة وأثبتت نجاحها عالمياً بعد شعور المرأة بالأمان والاستقرار النفسي، لكن نحذّر من المغالاة في الانعزال والتضييق، والذي قد تتضرر منه المرأة نفسياً، فبدلاً من مساعدتها على الاندماج في المجتمع والتفاعل النفسي معه، ندعوها إلى الانعزال عنه.