ألوان منعشة لأفكار واضحة: اللون لغة مرئية تقرؤها القلوب

نجاة شحادة (باريس) 08 سبتمبر 2018

الألوان داخل المنزل، ليست مجرد عناصر يستدعيها المشهد الزخرفي لتفعيل أجوائه ومدّها بالحيوية، بل هي تتجاوز مفهوم الزخرفة والتزيين، لتتصل بالشخصية والسلوك، وفي الدرجة الأولى علاقتها الوثيقة بالمزاج. هذه العلاقة التي تتداخل في نسجها عوامل عدة، هي التي تحدد الميول وتبلور الذائقة وتجسّد الرغبات وتشير إلى الاهتمامات بكل مراتبها.

على أن هذه العلاقة بـ “غموضها الواضح” تقدّم للمهتمين بمجال الديكور والزخرفة آفاقاً معرفية أساسية لخلق الأجواء والفضاءات المطلوبة، كذلك لتحقيق التميّز والتمايز في داخل تزداد تعقيداته بإطراد مع تعقيدات الحياة المعاصرة.

وسيكون من البدهي هنا أن نذكّر بالدور الكبير الذي باتت تلعبه الألوان في حياة الفرد والمجتمع، وعلى المستويات كافة. وهو دور يتجاوز عملية التواصل البصري مع محيطنا الداخلي والخارجي بكل موجوداته وتفاصيله، ليتسلل الى أعماقنا ويعقد معها صلة سرّية يصعب تحديد ماهيتها، غير أن تعبيراتها تتجسد في كل خياراتنا الخاصة والعامة.

والحقيقة أن علاقة الألوان بالسلوك الإنساني، تطرح مجموعة من الأسئلة، الإجابة عليها تتطلب استدعاء الكثير من العلوم الإنسانية والنظريات التي تؤسّس لها. ولكن السؤال الأكثر بساطةً هنا ينطلق من حتمية التأثير والتأثر: هل السلوك الإنساني هو الذي يتأثر بالألوان، أم أن الألوان هي نتيجة تفاعلات لهذا السلوك؟

ومن دون الدخول في متاهات التحليل، سيكون من الأفضل في هذا المجال التعامل مع الوقائع البصرية في يومياتنا. فنحن حين نختار الألوان لداخل بيوتنا، لا نفكر كثيراً بالخلفيات العلمية لهذه الخيارات، وإنما تنحصر العملية في استشارة مشاعرنا وأحساسيسنا، وما يتوافق مع ميولنا ورغباتنا.

على أن مسألة التعامل مع الألوان ليست بهذه البساطة، فهي في أبعادها النفسية والجمالية تحتاج إلى تجربة عميقة ومهارة متميزة، خاصة حين يتعلق الأمر بالديكور كمهنة تُعنى بخلق أجواء وصوغ فضاءات وابتكار وسائل ووسائط تهدف إلى تأمين الراحة والرفاهية من خلال التوازن والتناغم والانسجام بين كل التنسيقات التي تحيط بنا في الداخل.

ولكي نلقي الضوء على جانب من هذه العملية، سنقول إن الألوان كما هي حاكمة في وجودها فإنها محكومة في حضورها، بمعنى أن داخل المنزل لا يمكن أن تكتمل شرعيته الجمالية والوظيفية في غياب الألوان. فحضور الألوان ينبغي أن يكون خاضعاً لمعايير وأحكام وقواعد تمنح اللون فعاليته المطلوبة.

إن أبعاد المكان ومساحاته وأشكال الأثاث والأكسسوارات وأحجامها كلها عناصر تتحكم في الخيارات اللونية، غير أن الألوان في هذا السياق ليست مجرد عنصر إضافي، بل هي في كثير من الأحيان تعمل على تلطيف المكان ومساحاته عبر دلالاتها وتأويلاتها. كما تساهم الألوان في التوزيع العادل بين أشكال الأثاث والأكسسوارات وأحجامها، لتتحول في هذه اللحظة الى آلة لغة بصرية ناضجة بقاموسها الغني بالمفردات والتعابير، والتي يمكن أي إنسان، بصرف النظر عن لغته، أن يفهمها.

وحين نتحدث عن لغة الألوان، نجدها كغيرها من اللغات تمتلك خصائصها من الدلالات والمعاني والتفسيرات، ولكنها تتعدّى اللغات “التقليدية” في كون هذه الخصائص تمس مناطق خفية في شخصية الإنسان وتؤثر في مكوناتها ومكنوناتها. إنها نتيجة حوار دائم بين الحسي والمتخيّل.

ومفردات مثل متناغمة أو صادمة، متباعدة أو متقاربة، هادئة أو صاخبة، حارّة أو باردة، بسيطة أو معقدة، مرحة أو رصينة... هي مفردات لا يمكن استخدامها كلها مع لغة مغايرة للغة اللون.

من هنا يصبح للألوان الحارّة وتلك الباردة، مفهوم آخر يخضع لتأويلات شعورية، ولكنها تأويلات تؤدي وظيفتها الحسية المطلوبة...

لا يمكن المهتمين بعالم الديكور والتصميم تجاوز المعايير والقواعد والأحكام اللونية، ولهم في الوقت نفسه مطلق الحرية للخلق والابتكار، فالألوان في هذا المجال تعلن سلطتها المطلقة، وهي تستمدها من علاقتها الحميمة مع وجدان الإنسان قبل داخل منزله. فبين التأسيس لعملية الديكور وتصميم قطع الأثاث والأكسسوارات، تتسلل النغمات اللونية بتوزيعات مثيرة، خفيفة أو كثيفة مشبعة  لتجد مكانها بين مكونات المشهد بسيناريوات هادئة ناعمة أو بما يشبه الانفجار اللوني.

وبين الخفّة والإثارة اللونية، نوصد أبواباً ونشرّع أخرى لاستقبالها في كل ركن من المنزل، بدءاً من المدخل، مروراً بالصالون وغرفة الطعام والمطبخ وغرف النوم والحمّامات، وصولاً الى الشرفات الخارجية، وكل ذلك وفقاً لأسلوب التصميم وأنماطه.

مع الألوان، لا يمكن المرء أن يكون حيادياً، لكن أمام المشهد الزخرفي المشحون بالنغمات الحارة والباردة يصبح هذا المرء طرفاً معنياً... فهي ليست مجرد ألوان وحسب، بل مزيج من الأفكار والألوان. هي ألوان لإنعاش الأفكار، وأفكار لتوضيح الألوان وربما العكس أيضاً. 

من هنا تصبح المعرفة العميقة بالألوان وتأثيرها في المزاج أمراً ضرورياً للعاملين في مجال الديكور والتصميم، حيث إن عملهم يعتمد في الأساس على هذه المفاهيم لفهم طبيعة زبائنهم وطبائعهم.

إن تأمل التفاصيل التي يتشكل منها أي مشهد زخرفي، يعطي فكرة واضحة لمقاصد مكوناته، الشكلية واللونية وبالطبع العملية. بمعنى آخر، تكرس التفاصيل دلالات الجمالي والوظيفي في هذا المشهد. غير أن الجوهري في هذا المشهد يكمن في خيارات مطابقة للأهداف... بمعنى آخر، في ألوان منعشة لأفكار واضحة.