عمر بشير: إلهام المدفعي لم يتنكّر لي... لكنه لم يتذكّرني!

تونس - كارولين بزي 18 نوفمبر 2018

يعترف بأن قسوة والده عليه كانت في محلّها، فهي التي صقلت شخصية ذلك الفنان المستقل الذي يعيش في كنف التراث العراقي والمدرسة البشيرية ويمزج الألوان الموسيقية من خلال آلات مختلفة مثل الغيتار والقرع الغربي والعربي ويتربع العود على عرشها، عود الفنان منير بشير الذي أهداه لابنه عمر بشير في العام 1975 ولا يزال يعزف عليه الأخير حتى اليوم. يعتبر الفنان العراقي العالمي عمر بشير أن الجمهور العربي لا يمتلك ثقافة موسيقية، أما الفنانون العرب فكاذبون وناكرون للجميل... في حوار صريح يتحدث عازف العود العراقي ووريث منير بشير، عمر بشير على هامش مشاركته في أيام قرطاج الموسيقية في تونس، ويقول: “لهذا السبب أُبعدتُ من مهرجان قرطاج لخمسة عشر عاماً”!


- ما زلت تحتفظ بالعود الذي أهداك إياه والدك وأنت في سنّ الخامسة، ألم يتطور العود اليوم؟

العود الذي أملكه يسبقني بألف سنة. هذا العود البشيري لا الشرقي، صمّمه والدي في العام 1957، وصنعه رجل عراقي شهير جداً يُدعى محمد فاضل عوّاد، وله مواصفات تميّزه عن العود الشرقي، وخصوصاً في الشكل، فالعود البشيري صُمم أولاً وتلاه العود العراقي.

- ولماذا تستميت بالدفاع عن العود العراقي؟
لأنه عراقي المنشأ، وأنا أتحدّر من أصول عراقية-هنغارية، وفي عائلتي أرمن وأتراك، وبالتالي لا يمكن أن يكون فكري أو حلمي واحداً. الأمر صعب ولكنه جميل. موسيقاي مختلفة ومجنونة... أحب الدمج بين الشرق والغرب، ولكنني لا أنسى عراقيتي وفضل العراق عليّ. العراق قدّم لي تراثاً وتاريخاً وحضارة يتمنّاها أهل الأرض. يمكنني أن أتاجر بقضايا سياسية باسم العود والناس تصفق لي، وبالتالي لن أتعرف على معاناة العراقيين والفلسطينيين والشعوب العربية كما يفعل غيري. العراق رجل جريح يحتاج إلى مساعدتنا. أنا متعمق في المقامات العراقية بفضل والدي العراقي منير بشير الذي أسّس المدرسة العراقية الموسيقية.

- كونك ابن منير بشير، هل يحمّلك مسؤولية؟
بالتأكيد، والدي منير بشير وعمّي جميل بشير، من أهم عباقرة الموسيقى، وبالتالي يجب أن أكون عمر بشير المُطعّم بالمدرسة البشيرية والمستقل بعزفي وأسلوبي، وألاّ أشوّه اسم والدي وعمّي وفقاً لمزاجي. أنا أحمل اسم العراق، وقد افتتحت مركزاً للموسيقى في مسقط، عمان.

- متى تحدّ من جنونك في الموسيقى؟
أنا مجنون بأفكاري وروحي وملابسي وعزفي، ولا أشبه أحداً. حتى أنني لم أكن أذهب إلى المدرسة عند الثامنة صباحاً، بل في التاسعة لأنني أرفض أن يمارس أي شخص سلطته عليّ.

- هل أنت متمرد؟
هو ليس تمرداً بالمعنى الحقيقي، لكن لا أحتاج أن يشرح لي أحد أين الصح وأين الخطأ. فأنا مرتبط بالخالق مباشرةً من طريق الموسيقى الروحية. أحب الملابس الملوّنة والبساطة وأعيش مرتاح الضمير... وكل ذلك يؤثر في الموسيقى. مثلاً، لي موسيقى اسمها “العود المجنون”، وهو جنوني بالعود الذي أمزج معه الفلامينغو والجاز والأوبرا والكلاسيكي... لا حدود لموسيقاي.

- اتُّهمت بأنك تشوّه الموسيقى الشرقية، ألا يقلقك هذا؟
لقد اتُّهمت فعلاً بتشويه الموسيقى الشرقية، وللأسف أصحاب هذا الاتّهام هم من أبرز عازفي العود في الوطن العربي، ويقلّدونني اليوم، لكن كبرياءهم لا يسمح لهم بالاعتراف بذلك. يعزفون بطريقة خاطئة، لأنهم لا يعرفون شيئاً عن الغيتار، أما أنا فقد درست الغيتار والموسيقى الغربية والشرقية والعود والقانون وأجيد المزج بين هذه الآلات. والدي ربّاني على موسيقى شعوب العالم، وبالتالي هي موسيقى عمر بشير بل جزيرة عمر بشير.

- ألا يُعتبر ذلك غروراً؟
لا، ليس غروراً، لكن أرحّب بأي شخص يدخل إلى جزيرتي، شرط أن يتعلّم ولا يشوّه. لقد صنعت نفسي بنفسي. اسم والدي لم يخدمني، بل كان عبئاً عليّ. وأينما ذهبت كانوا يقولون لي، لم نكد ننتهي من منير بشير حتى جاءنا عمر بشير. حقدهم فاشل علينا، وعلى الفاشل أن يتعلّم لا أن يتظاهر بالكبرياء وهو فارغ في الحقيقة.

- تعليقاً على ما ذكرت، هل تتقبّل النقد وتعترف بالخطأ؟
أتقبّل النقد وأعترف بالخطأ، ودائماً أطلب من الصحافة أن تنتقدني ولا تمدحني. أنا واثق من مستواي الفني، فلو لم يكن جيداً لما وصلت الى العالمية، ولما بحث عني المنتج العالمي كوينزي جونس كي أشاركه الوقوف على المسارح العالمية، أو اختارني فريق جيبسي كينغس... لكن كل ذلك لا يعني لي شيئاً، وأكثر ما يهمّني هو أن أكون مقتنعاً بقدراتي في العزف وأتدرّب أربع ساعات يومياً. حتى أنني صُنّفت من أخطر عازفي العود، وتساءلت ما الذي يؤكد حقيقة هذا التصنيف! فربما أذهب إلى تركيا وألتقي عازفاً في الشارع يتجاوزني بتقنية واحدة. ليس في الفن ما هو أفضل وأخطر، ووالدي كان يكرر على مسامعي أن أكون كالصفر النظيف... الصفر النظيف هو أفضل نقطة نعيش فيها.

- أيّهما أقوى: الموسيقى أم الكلمة؟ وكيف تستطيع أن تتغلب بالموسيقى على الكلمة؟
بالتأكيد الموسيقى هي الأقوى. الادّعاء بأننا لحّنا عملاً ناجحاً لن يساهم في تطويرنا. 90 في المئة من المطربين والموسيقيين العرب يضحكون على جمهورهم بكلماتهم وموسيقاهم... يتغنّون بالحب وهم في الحقيقة فاشلون وكاذبون. في الموسيقى، يعزفون ألواناً عدة، لكن بعد أن أستمع إلى موسيقاهم، أقول ما هذه “اللخبطة”؟ نحن نعتمد موسيقى الرجل لا موسيقى العقل.

- ماذا تعني بموسيقى الرجل لا موسيقى العقل؟
أي أننا نرقص تلقائياً من دون الاستماع الفعلي إلى الموسيقى، فيكون العقل غائباً.

- لكنك ألّفت مقطوعات موسيقية تناسب الرقص!
هذا صحيح، إذ يتذوق المستمع الموسيقى فيرقص على أنغامها. لكن في العادة، ما إن يقف الفنان على خشبة المسرح حتى يبدأ الجمهور بالهتاف والصراخ...  ولا يعود يسمع شيئاً.

- أي أنك تنتقد الجمهور والمطرب في الوقت نفسه!
لا شيء اسمه “الجمهور عايز كده”، فالفنان هو الذي يرعى هذا الجمهور، ويسمح له بالهتاف والصراخ في حفلاته، لكن الفنان الناجح لا يحب هذه الأجواء الصاخبة، لأنها تؤثر في غنائه. حتى أيام عبدالحليم حافظ كان يُطلب من الجمهور أن يهدأ ليغني.

- هل الجمهور العربي يفتقر الى الثقافة الموسيقية؟
الجمهور العربي يفتقر الى الثقافة المسرحية. نحن ندرك ثقافة مهرجانات الشوارع، بينما ثقافة المسرح مختلفة. الغناء في الأوبرا مختلف عنه في المهرجانات. أتحدّى أي مطرب عربي يؤكد أن في استطاعته الغناء في دار أوبرا في أوروبا. إذا لم يستأجر الفنان القاعة فلن يتمكن من الغناء هناك... وبعد أن يستأجر القاعة، تبدأ الإعلانات بأن المطرب الفلاني سيحيي حفلاً في مونتريال مثلاً، فالفنان العربي يغني إما في نادٍ أو فندق أو مسرح مخصّص للعرب، والجمهور الغربي لن يأتي ليستمع إلى المطرب العربي، وكلهم كاذبون... أعيش في الغرب وأعرف تماماً ما يحدث هناك. لكن حين أحيي حفلة في فرنسا مثلاً، يحضرها 1200 فرنسي وأربعة أشخاص عرب، فالجمهور الفرنسي يأتي ليستمتع بأنغام العود ويتعرف على المقامات، وهو بخلاف الجمهور العربي الذي تكون إحدى أغنيات فريد الأطرش أول ما يرغب في سماعه.

- هل تعاونك مع آلات موسيقية غربية إلى جانب العود هو لجذب الجمهور الغربي إلى موسيقاك؟
أنا جذبت الجمهور الغربي بعزف العود منفرداً.

- ألا يخيفك أن تسرق إحدى الآلات الموسيقية على المسرح الاهتمام الذي يحظى به عودك؟
أسمح لفرقتي الموسيقية بحريّة التصرف. فرقتي هي الجناحان اللذان أحلّق بهما في سماء العزف، ونسعى دائماً لتقديم عمل فني متكامل يستمتع به الجمهور... هناك فنانون يقفون على المسرح بإمكانيات صوتية بسيطة، وأعضاء الكورس خلفهم حائزون على دكتوراه في الغناء ولكنهم لم يحظوا بفرصة لتسليط الضوء عليهم. العود هو سيد الموقف على المسرح، ولا يمكن أي آلة أن تطغى عليه. فرقتي من أفضل الفرق التي ترافق العود، ونتمرّن يومياً، كما أنها لا تضم أي عازف عربي.

- هل تعتقد أن الجمهور الغربي أكثر ثقافةً من نظيره العربي؟
في العادة، يتعلّم الأطفال الموسيقى في المدراس، وبدءاً من سنّ السابعة يتعرفون إلى مؤسّسي الموسيقى من باخ إلى موزارت وشوبار... وبالتالي يجب أن نُدخل الى مدراسنا العربية مادة تتعلق بالموسيقى العربية، وتتيح لطلابنا التعرّف على مؤسّسي هذه الموسيقى، مثل رياض السنباطي، محمد القصبجي، سيد درويش، أم كلثوم، ناظم الغزالي، منير وجميل بشير، الرحابنة وملحم بركات وفيروز، إذ من الضروري أن تُجرى دراسة على صوت فيروز الذي نحته الرحابنة.

- هل الرحابنة هم الذين نحتوا صوت فيروز؟
فيروز تملك صوتاً ملائكياً، والرحابنة وظّفوه وفقاً لموسيقاهم. كما أن ملحم بركات أستاذ كل المطربين، وحده يشكّل مدرسة.

- نادراً ما نرى المرأة تعزف على القانون، ما السبب؟
لأننا نعيش في مجتمع متخلّف لا تُعطى فيه المرأة أي فرصة. حتى نسبة المستمعين العرب الى غناء المرأة هي ضئيلة. الإبداع يولد من الرفاهية لا من الضغوط.

- لكن ثمة مواهب كثيرة وُلدت من رحم المعاناة والألم...
وهل سنستمر في الغناء على وقع الألم؟ لماذا لا نغنّي للفرح؟! الفن بات تجارة، مثلاً تنجح موهبة في أحد البرامج، يستسثمرها أحد المنتجين فينتج لها ألبوماً رديئاً، تفشل على أثره ثم تختفي.

- ألا ترى أن برامج المواهب هي نافذة للفنان المبتدئ؟
يجب ألاّ نعطي الفنان المبتدئ أي نافذة، ولندعه يصقل موهبته ويطوّرها بنفسه. شخصياً، لم تُفتح أمامي أي نافذة. كنت أقول لهم إن والدي هو منير بشير، فيجيبونني “والدك عملاق ولكن من أنت؟”... فبذلت جهداً وصقلت موهبتي من خلال التدريبات اليومية لخمس ساعات في اليوم على مدى عشر سنوات.

- حين قررت الخروج من عباءة منير بشير، ما كان رأيه؟
أنا أحمل مسؤولية العراق وليس منير بشير وحده... قبل أن يتوفى والدي، أحييت أمسية وكان هو حاضراً، وقد جمعت فيها العود مع الغيتار والقرع اللاتيني والقرع العربي، ويرافقني مطرب عراقي. قبل تلك الحفلة لم يكن والدي يشيد بعزفي بل كان يشتمني على الدوام، ولكن في تلك الحفلة كان حاضراً مع عمّي فكري بشير والفنان إلهام المدفعي، وقال لي حينها: “انطلق وحدك، ولا خوف عليك، فأنت من أفضل عازفي العود، وقد كتبت في الجريدة أنك خليفتي، لكن أتمنى ألا تنسى شرقيتك وعروبتك، وانتظر فستُحارب ويحقدون عليك وستجد كثيرين يدّعون أنهم من أسّسوا هذا الفن، فالطريق صعب جداً”. وبعد مضي ثلاثة أشهر، توفي والدي وكانت المرة الأولى التي يمدحني فيها. عندما أعطاني والدي العود، لم يكن يرغب بأن يدخل أحد من أبنائه مجال الفن بسبب المآسي التي مر بها... والدي هوجم كثيراً وكان يُضرب بقشور البطيخ، لأنه لم يدرس الطب أو الهندسة. والدتي اقترحت على والدي أن يعلّمني العزف على العود لأنني أملك الموهبة، فوافق لكنه قال لي: إذا لم تكن رجلاً قوياً فستُدمّر حياتك، والحياة علّمتني أموراً كثيرة. 

- ذكرت أنك تحمل مسؤولية العراق، لكنك لا تقيم فيه!
وهل أنسى نفسي؟ أقمت في العراق بين عامَي 1975 و 1991. عشت مآسي وحروباً وتذوقت طعم الثقافة في العراق. أنا منفتح فكرياً، لكن ثقافتي شرقية عراقية. أحمل على عاتقي مسؤولية مطربين وموسيقيين، وأمثّل كل عربي أمام الجاليات الأجنبية. الحمل ثقيل بالتأكيد.

- لماذا حزت جائزة الأونيسكو لحفظ التراث في العام 2013؟
سجّلت “تقاسيم عود” من وحي المقامات العراقية من المدرسة البشيرية ولكن بأسلوب عمر بشير، وقد سجّلته في غرفة النوم. ثم اقترح عليّ أخي أن أرسل الألبوم إلى شركة تابعة لدار الثقافات العالمية ففعلت وأبدوا إعجابهم به. وبعد فترة حزت جائزة لأنهم اعتبروه مزيجاً من التراث والحداثة، ويحافظ على المقامات الشرقية، فضمّوه في كتاب الأونيسكو لحفظ التراث في العام 2013، وكان أفضل عمل في غرب آسيا.

- إلامَ تهدف من الموسيقى؟
أن يستفيد الجمهور من موسيقاي، وتُتّخذ وسيلة لعلاج مدمني المخدرات والذين يعانون أمراضاً عصبية.  

- من هو الفنان الذي ترغب في التعاون معه؟
لا أحب أن ألحّن لفنانين لأنهم في ما بعد سيتنكرون لي. العديد من المطربين يتمنّون العمل معي، ولدي حوالى 12 لحناً غنائياً سأُصدر أحدها بالتزامن مع طرح ألبومي الجديد “العود الراقص”. هذه الألحان ستساهم في عودة المطربين الى الساحة الفنية بعد غياب طويل.

- هل نكر إلهام المدفعي الجميل؟
إلهام المدفعي لم يتنكر بل لم يتذكر. في أحد البرامج أجريت مداخلة قلت له فيها، على الأقل اذكر في ألبوم “خطّار” أن عمر بشير عزف على العود، فرات حسين قدوري على القانون، وتولّى قاسم الصابونجي التوزيع الموسيقي... بيننا عِشرة عمر وقد طلبنا منه أن يسجل ألبوماً كاملاً هو الأول له بعد غياب طويل عن الساحة الفنية، وقلت له حينها: “أتحدّاك أن تصدر ألبوماً أنجح من ألبوم “خطّار”... لكنه كتب على الألبوم “شكراً خاصاً” لعمر بشير يمكن رؤيتها بالمجهر.

- كيف تصف مشاركتك في مهرجان أيام قرطاج الموسيقية؟
أنا مُحارب من مجموعات موسيقية يخاف أفرادها من اسمي وعزفي لأنها ضعفاء، فبسببهم أُبعدتُ عن قرطاج لخمسة عشر عاماً، وبعد أن تفككت العصابة طلبوا مني الحضور. قاومت التيار لأنني فعلاً رجل وجعلت الجميع يقلدونني.

- هل صحيح أن المرأة لا تستطيع أن تحارب في هذا المجال!
يجب أن تُحمل المرأة على أكفّ الراحة، فهي لم تأتِ الى الحياة لكي تُدمّر... المرأة أصل البشرية، فهي الأم التي تربّي أجيالاً بعد أجيال.