أجواء “البوب آرت” تجعل من الداخل مهرجان ألوان لكل زمان ومكان

باريس: نجاة شحادة 05 يناير 2019
في ستينيات القرن الماضي، لم يكن وصف حركة الـ” بوب آرت” بموجة عابرة للقارات مجرد مبالغة صحافية، فهذه الظاهرة تحولت مع الوقت إلى تيار فني متعدد الوجوه، لا يزال يتمتع بحيوية نادرة يشهد عليها حضوره الوازن في المعارض والصالونات الدولية. وهذا العام يمكننا أن نلاحظ هذه الحيوية عبر تلك النفحة من الجسارة التي تلقي بظلّها فوق المشهد الزخرفي، من خلال صياغات مدهشة بألوانها الحية، الصاخبة، والتي ترفد عالم الديكور بعناصر فيها من الطرافة والظرف بمقدار ما فيها من الجدّ والإبداع.


تشكيلات تتلاعب بالرموز والمعايير التقليدية لفنون الديكور، مستحضرةً بقوة صوراً مسكونة بالدعابة والظرف لتقدم مشهداً داخلياً غير مألوف، مثير، ويتمتع بخصوصية لافتة. فـ”البوب آرت” حركة فنية لا تزال منذ ولادتها ناشطة في ترك بصماتها الجذابة في كل مجال. فمن عالم الرسوم والصور مروراً بالإعلان، نجدها اليوم تنشط في الداخل بتوقيعها المرح الملون لتحوله مسرحاً فريداً تطرّزه أعمال المبدعين بأشكال مختلفة من المبتكرات الرائعة بموادها وألوانها.

مبتكرات “البوب آرت” تبدو مستفزة حيناً وأليفة حيناً آخر، ولكنها في كل أطوارها، تزرع في الأمكنة مظاهر غير مألوفة، وتبث عبر حضورها الجذاب رؤية جديدة للديكور، تحفظ للمساحة مداها وتمنح الحركة فيها حرية أكبر. ومرونة هذه المبتكرات تسمح بعرضها معزولة أو مدمجة مع مواد من تيارات أخرى وأزمنة متعددة. وهذا يعكس غنى “البوب آرت” وطواعية مفاهيمه وقيمه ووظائفه أيضاً. ومع ذلك، ينبغي تجنّب الإفراط في تكديس عناصرها وتنسيقها برشاقة وعناية لئلا تعطي نتائج سلبية.

وظاهرة “البوب آرت” التي اجتاحت بريطانيا وأميركا في الستينيات ومن ثم تمددت إلى كل القارات، تم تقديمها منذ ذلك الوقت على أنها نوع من التحدي للتقاليد الفنية المتبعة، وذلك بتضمينها صوراً من ثقافات شعبية تم “تحويرها” وإعادة تقديمها بأسلوب آخر. هي نفسها تبدو اليوم وكأنها لامست نضوجاً واضحاً في قيمها الجمالية والوظيفية، فتبرز أكثر قرباً من روح العصر وإن كانت تحتفظ بكثير من المفردات التي صاحبت ولادتها.

في الديكور، نجد حرصاً على المزاوجة بين الألوان الحيادية والألوان الصاخبة، في عملية بالغة الإتقان لخلق توازن مؤكد. ومثل هذه العملية ستولّد عدداً كبيراً من الإيقاعات اللونية والتي تتوزعها تفاصيل المشهد الزخرفي وعناصره، مما يمنح مكاناً لائقاً لقطع أثاث أكثر التزاماً بالشروط التقليدية، بالإضافة إلى مكمّلات الأثاث المعروفة مثل الأقمشة وورق الجدران، من دون أن تفقد صفة التباين في اللون والملمس. كذلك فإن الإضاءة بعناصرها المتنوعة وألوانها المتعددة - على أن إضاءة النيون البيضاء والملونة تبقى الأثيرة لدى عشاق هذا النمط من الديكور - تساهم في خلق فواصل افتراضية بين المساحات، مما يشير إلى روحية هذا التيار المتفلّتة من قيود المكان والتي تراعي شروط أبعاده في الوقت نفسه. وتسمح تنسيقات “البوب آرت” الداخلية باستخدام كل المواد النبيلة والاصطناعية، فنجد الأخشاب تجاور البلاستيك والزجاج يتآلف مع الجبس والورق إلى جانب “الفيبر غلاس”. ولا ننسى بالتأكيد دور “البوستر” المطبوع والذي يمنح الجدران فرادة لا تقارن. ديكور “البوب آرت” يعتمد في الأساس على الفردانية والتي تقود إلى الفرادة.

أما الأثاث المفضل لأجواء “البوب آرت” فهو أثاث الستينيات الرائع، وكذلك كل عناصره الـ”ريترو” المستعادة، حيث نجد كبار منتجي الأثاث يعيدون إصدار قطع مختارة من أجواء الستينيات بتوزيعات جديدة تستفيد من التطورات التقنية التي نشهد تسارعها كل يوم. وهذا ينطبق أيضاً على أكسسوارات الأثاث التي اشتهرت في الستينيات ولاقت قبولاً شعبياً كبيراً.

بالطبع يعود الفضل في كل هذا إلى الجهود التي يبذلها المصمّمون ومهندسو الديكور من أجل استعادة أنقى خطوط إبداع العصور الماضية. كذلك يعود الفضل إلى جيل من هؤلاء، حيث شهدوا حركات الستينيات ونموا في ظلالها وتأثروا بأنشطتها، فكان تبنّيهم لثقافة “البوب آرت” نتيجة طبيعية لمسار حياتهم.

“أنديا مهداوي” مثال دقيق لهذا الجيل، فهي نشأت في الولايات المتحدة الأميركية وترعرعت على خلفية الصور المتحركة في الستينيات، وهذا الأمر كان حاسماً – كما تقول – لتحديد علاقتها بالألوان ولتبسيط الفضاءات والتعبيرات أيضاً. كذلك كان من الضروري توسّل الأشكال المستديرة والمربعة من أجل أن تكون “الرسالة” أكثر وضوحاً.

ونجد في أعمال ومبتكرات “هايون” الإسباني المدهش الكثير من الملامح التي ترتبط بعوالم “البوب آرت”، حيث الأشكال والألوان تبدو “ثائرة” على نفسها بأسلوب يكرّس تآلف الدعابة والجدية في اتساق فذ.

كذلك في أعمال “كريم رشيد” سنلاحظ أن أجواء “البوب آرت” تحتل فضاءات مساحاته مع لمسات بارعة تعتمد على تكنولوجيا العصر من أجل كسب المزيد من الحرية في الشكل واللون وفي الوظيفة أيضاً.