بادن بادن... اكتسبوا الصحة والعافية في مياه المدينة الدافئة

جان بيار حبيب 17 يونيو 2022
رائحة الربيع تعبق في الأجواء وتمتزج مع نفحات الصنوبر التي تصافح أنفكم كلما هبّ النسيم العليل القادم من الغابة السوداء المتاخمة لهذه المدينة الصغيرة. نحن هنا في جنوب غربي ألمانيا، في بقعة جغرافية جميلة لا تشبه سواها. نحن هنا في عاصمة المصايف الأوروبية، في مدينة تتفجر من أرضها الخصبة ينابيع المياه المعدنية الدافئة التي أكسبتها شهرة عالمية.

هذه هي باختصار بعض من سمات مدينة بادن بادن التي ستأسركم حتماً بجمالها وأوقاتها الحالمة التي ستحثكم على زيارتها مراراً وتكراراً.


مياه دافئة!

اسألوا كل من حملته أسفاره إلى هذه المدينة الوديعة عن رأيه فيها، فستنهال على مساعكم كلمات المديح والأطراء، وسيخبركم أن بادن بادن مميزة وفريدة بكل ما فيها... بدءاً من موقعها الجغرافي الراقد عند منحدرات الغابة السوداء، إلى ينابيعها الشهيرة بمياهها المعدنية الدافئة التي تتفجر من أرضها لتهب كل من يرتمي فيها التعافي من بعض الأمراض الجلدية، والصفاء الفكري، والتوازن الجسدي والعقلي. ولأن تلك المياه هي أحد عناصر الجذب السياحي في المدينة منذ أيام الرومان القدامى، فلا شيء يوازي متعة التعرج إلى منتجع “كركلا” Caracalla Spa حيث يطيب تمضية نهار كامل فيه.

وسط مساحات شاسعة من العشب الأخضر يتمادى هذا المنتجع بشكله الحديث وقببه الدائرية التي تعتمر الزجاج الأبيض. في رحابه يحلو الاسترخاء سواء في مسبحه الداخلي المحاط بغرف السونا، وحمّامات البخار، والكهوف الصخرية، والشلالات الدافئة التي تصب في أحد أحواض السباحة فيه، أو في مسبحه الخارجي الذي هو امتداد لمسبحه الداخلي، ثم الاسترخاء في حديقته الغنّاء ومراقبة الحياة وهي تدبّ في ذلك المكان الذي يضج بالفرح وحب الحياة طوال النهار. ومن المعروف أن الينابيع الـ12 التي تصب في “كركلا” لا تتأثر بعوامل الطبيعة الخارجية وتبقى محافظة على دفئها وحرارتها التي تتراوح من 50 إلى 68 درجة مئوية طوال العام. ولهذه المياه المقدرة على معالجة حساسية الجلد، والروماتيزم، كما تساهم في تنشيط الدورة الدموية.

ولمعايشة رحلتكم إلى “كركلا” إلى أقصى حدودها، ندعوكم لزيارة غرف السونا المترامية في عمق الجبل المتاخم للمنتجع، والتي يمكنكم الوصول إليها عبر ممرات ضيقة غُرست على جانبيها أغصان الأشجار المقطوعة من الغابة السوداء لتشكل سياجاً واقياً لحمايتكم من الانزلاق إلى الأسفل. على مسافة قريبة من “كركلا” هناك منتجع آخر لا يقل أهميةً عن المنتجع الأول، إنه "فريدريكزباد" Friedrichsbad. يا له من مكان رائع! هذا ما أردّده في قرارة نفسي كل مرة أقف فيها وجهاً لوجه أمام هذا المنتجع الذي لا يزال يحافظ على طريقة الاستحمام بالطريقة الإيرلندية - الرومانية التقليدية منذ عام 1877.فللمكان وهج خاص كوهج الحلم، حيث سيشعر أي زائز لهذا المكان أنه نسي إيقاع الحياة المثقَل بالهموم والمشاكل، وجاء ليعيش تجربة مكللة باستعادة النشاط والعافية. الاستحمام بالصابون والفرشاة بواسطة أحد العاملين فيه هو أولى المراحل التي يتم فيها الترحيب بكم في “فريدريكزباد”، يلي ذلك الدخول إلى أحواض سباحة تزيد حرارة مياهها تِباعاً. وعندما تشارف زيارة المنتجع على نهايتها، يكون الزائر قد مر بسبع عشرة مرحلة، وعاش تجربة رائعة لدلال الجسد والروح.


إلى أحضان الطبيعة!

بساط مطرّز بالزهور كان يمتد أمامي إلى ما لا نهاية، وأشجار عتيقة باسقة كان يغازلها نور الشمس ليشكّلا معاً لوحة بانورامية تأسر قلوب ناظريها. تلك المناظر البهية كانت ترتسم أمام ناظري وأنا أعبر شارع “ليشتنتالير اليه” على متن عربة يجرّها الخيل. فالرحلة السابقة على متن العربة نفسها كانت مع ذلك الحوذي الطاعن في السنّ، الذي أخبرني في ما مضى أنه سيستقيل من مهنته ليسلّم زمام الأمور إلى هذه الفتاة الشابة كي تقوم بالمهمة ذاتها. تمر الأيام، وتتبدل الوجوه، ولكن لا شيء يتبدل في المدينة. فبادن بادن تبقى هي هي. وسحرها يبقى هو هو. ودّعت صاحبة الحصانين الأبيضين، لأتركها تعود إلى وسط المدينة لتغري السيّاح بمشوار مماثل، قاصداً قمة جبل “مركير” التي تقف شامخة في سماء المدينة بعلو 668 متراً. وللوصول الى هناك، توجّب علي استخدام قطار السكك الحديد المعلّق الذي يعتبر أكثر القطارات الأوروبية تقدماً من الناحية التقنية. والقطار يتحرك أوتوماتيكاً من دون الحاجة إلى سائق، ويشق طريقه شديدة الانحدار بعمق الجبل، ليوصل السيّاح بغضون خمس دقائق إلى القمة. فور ترجّلي من القطار انبسطت أمامي ممرات فسيحة غُرست على جانبيها شتى أصناف الزهور والأشجار. أما المفاجأة الكبرى فكانت تلك المناظر الطبيعية الخلابة التي يهبكم إياها ذلك الموقع الإستراتيجي المميز بحيث ستطالعكم بادن بادن وما حولها من المدن والقرى الألمانية، فضلاً عن الحدود الفرنسية. من أعالي الجبل عدت أدراجي لأتذوق الحلويات في "كافيه كونيغ" التي بدأت مشوارها التجاري في المدينة منذ حوالى 250 سنة. هناك تذوّقت كعكة الغابة السوداء المزينة بحبوب الكرز والكريما والشوكولاته السوداء، لأتوجه بعدها إلى متحف "فابيرجيه" MuseumFabergé الذي يجمع تحت سقف واحد أروع القطع الذهبية والماسية والأحجار الكريمة التي كان يملكها ملوك وأمراء أوروبيون. في المتحف يتوه الزائر بين المعروضات الثمينة التي يفوق سعر بعضها ملايين الدولارات والتي تحمل كلها توقيع "بيتر كارل فابيرجيه" الذي كان مصمّم المجوهرات المفضل لدى الأباطرة الروس بين أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فمع بريق ولمعان تلك التحف الجميلة المسجونة داخل الواجهات الزجاجية، تعرفت على تاريخ كل قطعة، ومصدرها، ومَن كان يملكها. معروضات باهظة الثمن تتلاقى مع بعضها، أكثرها شهرةً البيضة التي أعطت "فابيرجيه" شهرته الواسعة، فهو كان يصمّمها للأباطرة الروس ليقدّموها لزوجاتهم كهدية بمناسبة عيد الفصح.

بادن بادن مدينة صغيرة ويمكن استكشاف معالمها السياحية سيراً على الأقدام، ولكن لا بد من استخدام السيارة للوصول إلى حديقة الورود الشامخة على إحدى الروابي. وصلتها فعبق في الأجواء أريج الورود، فأحسست وكأنني أتنشّق قارورة عطر فاخر. المشوار إلى هذه البقعة الخضراء سيشعركم بأن الربيع لا يفك حصاره عن هذه الحديقة التي هي مسرح مفتوح لورود متعددة الأشكال والألوان، ترسم في مكان ما أقواس نصر، وفي مكان آخر ستجدونها تقف وحيدة أو في حالة عشق وهيام مع الأشجار التي تسلّلت إلى أغصانها لتحفر في الذاكرة منظراً يصعُب نسيانه.

أرض الشمس!

مع إطلالة يوم جديد في مدينة الينابيع الدافئة، كانت الرحلة إلى منطقة "ريبلاند" Rebland في جنوب غربي بادن بادن. وتختصر "ريبلاند" جمال الريف الألماني بحقوله، وتلاله، ومنازله المتواضعة المغمورة بالهدوء والسكينة. فعندما يصلها السائح يلمس مناظر طبيعية شبيهة بلوحات كبار الرسامين العالميين. يردّد أهل المنطقة مقولتهم المعروفة: "الشمس تعشق ريبلاند" كونها تتمتع بنور الشمس لفترات أطول من المناطق المحيطة بها، ولذلك تتميز بتربتها الغنية المعطاء ولها الفضل في إنتاج مواسم زراعية خيّرة.

إن أكثر ما لفت انتباهي هناك هو كروم العنب التي تصطف بانتظام شديد لتُدخل البهجة الى القلوب والمتعة الى النظر. على تلة خضراء وفي مطعم مزخرف بالديكور التقليدي، تناولت طبق الهليون الأبيض مع الكريما والبطاطا، لأُنهي بذلك رحلتي إلى "أرض الشمس". وتسلك السيارة الطرقات المحفورة وسط طبيعة غنّاء متوجهاً من جديد إلى وسط المدينة. عند كل منعطف طريق كانت تبرز إبداعات الخالق على كل ما يقع عليه نظري من لوحات ساحرة لطبيعة عذراء كانت تتوهج في ذلك اليوم المشمس.

بالوصول إلى عمق المدينة، كانت لي زيارة لصالة "فيشتبيل هاوس" Festpielhausالتي تُعدّ أكبر صالة لحفلات الأوبرا والمهرجانات الموسيقية في ألمانيا، إذ في إمكانها أن تستوعب أكثر من ألفي شخص. وتستقطب الصالة أهم الأسماء البارزة في عالم الغناء... فأي عرض فني على خشبة مسرحها هو بمثابة تكريم وتقدير للمواهب الفنية. لم أمرّ مرور الكرام أمام مبنى "ترينكهول" Trinkhall الذي كان في السابق مركزاً لضخ المياه إلى المدينة. فصعدت أدراجه، وهمت في روعة هندسته التي تزيّنها أعمدة كورنثية الطراز، وجداريات ملونة برسومات من أيام الرومان القدامى. ويقال إن مياه الشرب التي تتفجر من ينبوع يصب داخل المبنى لها منافع صحية عدة. عقارب الساعة كانت تشير إلى الثامنة مساءً، وكانت الشمس تلملم طرحتها الذهبية لتشرق في مكان آخر. وعندما أحكم الليل سيطرته على المدينة ولفّها بوشاحه الأسود، أُضيئت الشوارع والطرقات والممرات بالمصابيح الكهربائية، وهبّ من جديد النسيم العليل المحمَّل بعبير زهور الربيع، كنت عند ذلك أمرّ وسط شارع "لشتنتالير اليه" متوجهاً إلى فندقي، لأجمع أغراضي وأترك مدينة يعزّ على أي سائح تركها عندما تشارف الرحلة على نهايتها.