زواج القاصرات في العالم العربي معضلة تتفاقم وضحيتها ملايين الفتيات

فرح جهمي - فرنسا 24 يوليو 2022

زواج القاصرات في العالم العربي، عنوان عريض يختزل معاناة مئات الفتيات اللواتي يقعن ضحايا مجتمع يتغنى بحقوق المرأة المنصوص عليها في المواثيق والاتفاقيات، ولكنه يقبع تحت سطوة الأعراف والتقاليد التي تهيمن على القوانين لتصبح الدولة عاجزة عن حماية الفتيات من الزواج المبكر وما يترافق معه من العنف والاغتصاب الزوجي والأمومة قبل الأوان وصولاً إلى الطلاق وأحياناً الموت. ورغم أن الكثير من القوانين تمنع الزواج في سنّ مبكرة، إلا أنها تبقى غير فعّالة تماماً ولا يمكنها لوحدها أن تحدّ من العدد المرتفع لزيجات الأطفال، حيث إن الكثير من الفتيات يُجبرن على الزواج ويواجهن الكثير من المخاطر. وتفيد تقديرات منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف" بأن أكثر من 15 مليون فتاة قبل سن الـ 18 يتم تزويجهن في كل عام، وبعضهن لم يتجاوزن الـ 10 سنوات، حيث تُجبَر الفتاة على ترك المدرسة للاعتناء ببيت الزوج الذي لم ترَه من قبل، وتحمل منه رغم أن جسمها غير مستعد لذلك بعد.


قصص مأسوية لفتيات لاجئات في لبنان

تروي الطفلة السورية سارة (13 عاماً)، والتي تقيم كلاجئة في مخيم برج الشمالي، جنوب لبنان عن رحلة زواجها الصعبة والتي بدأت قبل عامين، حيث أُجبرت على ترك لعبها وأحلامها الطفولية والالتزام بزوج ومنزل، عبارة عن غرفة صغيرة داخل المخيم، فباتت فجأة مُجبرة على الزواج والاهتمام بتفاصيل تفوق قدرة استيعابها.

وأكدت الطفلة أنها تعاني من قساوة زوجها محمد (29 عاماً) بسبب تأخر حملها، وتقول: "الطبيبة أكدت لي أنني بصحة جيدة ولا أعاني أي مشاكل، ولكن الرحم غير جاهزة للحمل والإنجاب بسبب صغر سنّي، إلا أن زوجي وعائلته لم يتقبّلوا الأمر، وأجبروني على الخضوع للعلاجات وتناول الأدوية لتسريع الحمل، مما أرهقني جسدياً ونفسياً".

أما الطفلة الفلسطينية ليلى (16 عاماً) فأقصى ما تحلم به هو أن تبلغ سنّ الثامنة عشرة بسرعة لتتمكن من الهرب، ولا تُجبر على العودة إلى منزل زوجها فريد (34 عاماً) الذي انتهك طفولتها بموافقة والدها قبل نحو ثلاث سنوات. وتؤكد الطفلة الأم لطفلين أن زوجها يعاملها بلطف وحبّ، ولكنها رغم ذلك تتمنى الانفصال عنه والعودة إلى مقاعد الدراسة، فهي تحلم بأن تصبح طبيبة أطفال، ولكنه يرفض هذا الأمر بسبب غيرته عليها.

أما علياء التي دخلت عامها التاسع عشر، فتمكنت من الانفصال عن زوجها أحمد بعد نحو 5 سنوات من الزواج وما رافقه من عنف جسدي واغتصاب زوجي وسوء معاملة أجهضت خلالها مرتين لأن جسمها الصغير لم يحتمل متاعب الحمل والولادة.

ووفق إحصائيات الأمم المتحدة، فإن أحد أهم أسباب تزويج القاصرات هو الأوضاع الاقتصادية وحالة العائلة المادية، بالإضافة إلى الحالة الأمنية والوضع السياسي في البلاد، إلى جانب تغليب منطق العادات والتقاليد على القانون.


الحمل في سنّ مبكرة يعرّض الطفلة لمشاكل صحية

إلى ذلك تعترف الطبيبة النسائية آية دياب بأنها وقفت عاجزة أمام منظر الطفلة اللبنانية مريم (15 عاماً) بعدما دخلت إلى عيادتها، لتكتشف أنها حامل في شهرها الثامن وتنتظر طفلتها الأولى من زوجها ماجد (32 عاماً)، وتقول: "عندما دخلت مريم مع والدتها إلى العيادة في صور، ظننت أن الوالدة هي الحامل، ولكن صُدمت عندما أيقنت حقيقة الأمر، فسارعت إلى إجراء صور الأشعة اللازمة وعلمت بأنها في الشهر الثامن، وأنها المرة الأولى التي تزور فيها عيادة طبيب، وهذا الأمر في غاية الخطورة ليس فقط على صحة الجنين وإنما أيضاً على صحة الحامل".

وتضيف آية دياب: "في السنوات الأخيرة بتنا نصادف الكثير من حالات الحمل المبكر لقاصرات، فمريم ليست الحالة الأولى إنما سبق وكان لديّ العديد من الحالات المشابهة، فهذه الظاهرة في ازدياد، خاصة مع المشاكل السياسية وأزمة اللاجئين والضائقة الاقتصادية وانهيار العملة اللبنانية وغيرها من العوامل التي تدفع بالأهل إلى اتخاذ قرار تزويج بناتهن للتخلص من المسؤولية تجاههن"، لافتةً إلى أن "الحمل في سنّ مبكرة يعرّض الطفلات لمشاكل صحية كثيرة قد تصل إلى حدّ الإجهاض لأن أجسامهن الطفولية لا تحتمل أعباء الحمل والولادة، ولذلك هن عُرضة في أي وقت للنزيف والموت أثناء الولادة، وهذه من المصاعب والمسؤولية الإضافية التي نعاني منها خلال معاينة هؤلاء النساء".

النساء غرض يمكن مقايضته والتخلص منه!

وفي هذا الإطار، تحدثت الصحافية والناشطة النسوية مايا عمّار عن قضية زواج القاصرات والتأثيرات الكارثية التي تلاحظها من خلال متابعتها لهذا الملف في لبنان والعالم العربي، لافتةً إلى أن النِّسب المئوية تختلف من دولة إلى أخرى وتقارير "اليونيسيف" تقول بأن هناك 10 في المئة من تزويج القاصرات في لبنان، أما أعلى نِسب حالات تزويج القاصرات في العالم العربي فتُسجّل في اليمن، السودان، الصومال، المغرب، العراق ومصر.

وتشير مايا إلى أن "الأسباب تعود إلى البنية الأبوية للمجتمع والتي ترى أن النساء غرض يمكن مقايضته أو التخلص منه بسبب عوامل عدة، أبرزها اقتصادية، مادية ومعيشية على قاعدة أنهم يتخلصون من عبء إضافي على الأسرة. ولكن أصل المشكلة يكمن في اعتبار أن أولئك الفتيات هنّ غرض يمكن التخلص منه بسهولة أو غرض من أهم أهدافه الزواج والإنجاب".

وتؤكد مايا عمّار أن هذا الجرم بحق النساء دون سنّ الـ18 عاماً يستمر في الوطن العربي بسبب وجود قوانين تسمح بذلك، على سبيل المثال قوانين الأحوال الشخصية الطائفية في لبنان، حيث إن كل الطوائف تسمح بتزويج القاصرات، وعلى الرغم من تعديل القانون عند الطائفة السُّنية، إلا أنه هناك استثناءات للفتيات اللواتي هنّ في عمر الـ15 عاماً، في حين عند الطائفة الشيعية يربطون الزواج بسنّ البلوغ، فما إن تبلغ الطفلة تصبح قابلة للزواج مهما كانت سنّها، وبالتالي فإن القوانين تسمح بهذا الزواج، مما يصعّب مهمة إيقاف هذه الظاهرة في الوطن العربي".

ارتفاع نِسب زواج اللاجئات القاصرات أمر خطير وصعب

وتلفت مايا عمّار إلى أن الحروب وأزمة النزوح واللجوء والوضع الاقتصادي والمادي الصعب للاجئين فرضت المزيد من الضغوط على الأُسر، والتي تدفعهم مباشرةً الى اقتراف جرم تزويج القاصرات للتخلص من أعبائهن، وبالتالي نلاحظ ازدياد عدد الفتيات المتزوّجات في صفوف اللاجئات السوريات في لبنان والنِّسب عالية جداً، والأخطر من ذلك أن أغلب تلك الزيجات لا يتم تسجيلها بشكل رسمي، فندخل في دوامة جديدة من المشاكل، خاصة في ما يتعلق بالاعتراف بالأطفال وتسجيلهم ليكون لديهم وجود قانوني".

أما عن المقترحات التي تقدّمها الجمعيات والمدافعات عن حقوق النساء ومنع زواج القاصرات، فتؤكد مايا عمّار أن "المطلوب هو سَنّ قوانين جدّية وواضحة تحدّ من تزويج القاصرات عبر حصر الحدّ الأدنى للزواج بسنّ الـ18، علماً أن هذا الرقم يُعدّ صغيراً أيضاً بالمقارنة مع حاجة الفتاة الى اكتشاف شخصيتها وإكمال دراستها وتحقيق جزء من طموحها، ولكن على الأقل تكون جاهزة جسدياً للزواج"، مشددةً على ضرورة سَنّ القوانين التي تمنع زواج مَن هنّ دون سنّ الـ18 في الدول العربية، ويجب أن يسري القانون على كل الطوائف من دون استثناء لحماية الفتيات، خاصة أن العديد من الدراسات والبيانات المتابِعة لشأن النساء أظهرت أن نسبة كبيرة من المعنَّفات كنّ قد تزوّجن في سنّ مبكرة، وبالتالي فإنهنّ في موقع ضعف من الأساس، وهو ما زاد من خطر تعرّضهن للعنف الزوجي والإساءة والرضوخ، لأنهن تعوّدن من صغرهن على التطبيع مع التصرفات المسيئة بحقهن، فبات من الصعب التصرف بقوة إزاء العنف ومجابهته".

المطلوب تشريع عام يحمي المرأة من كل أشكال العنف

وتشير مايا عمّار إلى أن "هناك قوانين في بعض الدول العربية لمناهضة العنف ضد النساء، منها قانون العقوبات العام وقوانين العنف الأسري الخاصة التي سنّتها معظم الدول العربية على الرغم من أنها مليئة بالثغرات وفيها دور كبير لولي الأمر الذي غالباً يمارس العنف على ابنته أو يمنعها من التحدث عن مشاكلها والعنف الذي تتعرّض له من زوجها، وفي أكثر الأحيان يمنعها من الانفصال. صحيح أن هناك قوانين لمناهضة العنف ولكن يجب أن تصبح أقوى. وثمة توجه جديد لوضع تشريع عام واحد يشمل كل أشكال العنف الذي تتعرض له النساء، وهذه الخطوة مهمة وضرورية لأنها تحمي النساء في البلدان العربية، وبالتالي يصبح هناك قدرة أكبر لمعالجة كل نتائج وتداعيات تزويج القاصرات من عنف مادي ومعنوي وجنسي وكل أشكال الحطّ من قيمة المرأة".


الأرقام صادمة في العالم العربي والأمم المتحدة تتحرك!

تؤكد منظمة "اليونيسف" أن الزواج المبكر للفتيات أدى إلى ارتفاع معدلات العنف ضدّ المرأة، ويُسجل حوالى 70 ألف حالة وفاة سنوياً نتيجة مضاعفات تتعلق بحمل القاصرات وإجهاضهنّ.

وعلى مستوى الأرقام، بينت دراسات متابِعة لهذه القضية أن نسبة تزويج القاصرات في لبنان تبلغ نحو 10 في المئة من حالات الزواج لدى الإناث. أما في العراق فالنِّسب عالية، وهناك فتاة من كل 20 تزوجت دون سنّ الـ18، ويُعدّ الزواج المبكّر من أهم أسباب حالات الطلاق في البلاد، مع كل ما يترتب عليه من إضرار بالمجتمع.

وأفاد الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء بأن في مصر أكثر من 117 ألف حالة زواج دون سنّ الـ18 سنوياً بدون أي أوراق ثبوتية. أما في اليمن، فالأرقام مرتفعة جداً وقد أدّت الحرب المستمرة منذ سنوات إلى ازدياد أعدادهن ووصلت وفقاً للبيانات إلى طفلة من كل 10 تزوجت في سنّ مبكرة، والأخطر أن أغلبهن لا تتعدّى أعمارهنّ الـ13 عاماً.

في حين سُجّل في المغرب أكثر من 30 ألف عقد زواج من قاصرات سنوياً، 10 في المئة منهنّ يتزوّجن بتلاوة الفاتحة من دون تحرير عقد مدني، وفق "جمعية حقوق وعدالة" المغربية. كذلك ارتفع عدد زواج السوريات القاصرات بشكل كبير عقب الحرب، إذ أكدت بيانات "اليونيسف" أنه تم تزويج فتيات في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من العمر، اعتقاداً بأن ذلك سيساهم في حمايتهن من الاستغلال الجنسي.

وإزاء هذه الأرقام الصادمة، تسعى شعبة التنمية المستدامة بالأمم المتحدة إلى القضاء على زيجات الأطفال مع حلول عام 2030، ومن أجل بلوغ هذا الهدف تراهن منظمة "أنقذوا الأطفال" على المؤتمرات الدولية المتواصلة بين الحين والآخر لمناقشة هذه المشكلة مع ممثلين حكوميين وشخصيات دينية ومنظّمات مدافعة عن حقوق الأطفال وتسعى للعمل على إيجاد حلول ملموسة والقضاء على ظاهرة زواج القاصرات. كما تطالب الأمم المتحدة بسَنّ قوانين فاعلة وتشديد العقوبات القانونية بحق من يُجبر الفتيات الضحايا على الزواج المبكر، فضلاً عن أهمية أن تكون هناك حماية قانونية للفتاة تضمن حقوقها وتمنع إرغامها على الزواج وتحمّل المآسي والصعوبات التي ترافق هذا الزواج.