توريث البنات جائز أم حيلة لحرمان ورثة آخرين؟

علماء الدين, توريث البنات, د. أحمد عمر هاشم, الشيخ جمال قطب, صبري عبد الرؤوف, د. عبلة الكحلاوي, د. آمنة نصير, د. فايزة خاطر, د. مهجة غالب

15 ديسمبر 2013

يورث بعض الآباء ثرواتهم لبناتهم، سواء خوفاً عليهن من الزمن، أو لعدم مشاركة أقارب آخرين لهن في الميراث بعد وفاة الأب. فهل هذا يجوز شرعاً؟ وهل هناك فرق بين توريث الأب لبناته وبين قيامه ببيع ما يملك لهن؟ وهل يحق للأب تفضيل إحدى البنات على شقيقاتها في الميراث؟ تساؤلات تثير جدلاً فماذا يقول علماء الدين ليحسموها؟


في البداية يؤكد الدكتور أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر، أن الأصل المقرر شرعًا أن الإنسان حر التصرف في ما يدخل تحت ملكه، ببيعه أو هبته أو وقفه أو إجارته أو غير ذلك من التصرفات الشرعية، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ أَحَدٍ أَحَقُّ بماله من والده ووَلَده والناس أَجمَعين». فهذا الحديث يقرر أصل إطلاق تصرف الإنسان في ماله ومع ذلك فقد طلب الشرع من المُكلَّف أن يُسَوي في خصوص هبته لبناته أو أولاده في ما بينهم فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «ساوُوا بين أولادكم في العَطيّة، ولو كنتُ مُؤثِرًا أحدًا لآثرتُ النساء على الرجال».
وأنهى الدكتور عمر هاشم كلامه بتأكيد حق أبو البنات شرعاً في أن يقسم ثروته في حياته بين بناته على سبيل البيع أو الشراء أو الهبة منه لهن، وليس على أنه ميراث، لكن المشكلة في النواحي الاجتماعية، حيث ستفقد هؤلاء البنات السند الاجتماعي لهن نتيجة الغضب، الصريح أو الخفي، من بقية الورثة، سواء أعمامهن أو أبناء أعمامهن أو غيرهم من الورثة الذين حرموا بهذا التصرّف من أبي البنات.


ضوابط شرعية

ويوضح الشيخ جمال قطب، الرئيس الأسبق للجنة الفتوى في الأزهر، أنه لا يوجد نص شرعي يمنع أبا البنات من التصرف في ثروته في حياته بالبيع أو الهبة لهن، حتى يحافظ على مستقبلهن، لأنه تصرف في ما يملك، لكن المشكلة الأخرى التي ستترتب على ذلك «عرفية»، إذ سيورث هذا التصرف حقداً دفيناً بين الذكور من عصب أبو البنات، سواء إخوته أو أبناء إخوته على المدى البعيد، لأنهم سينظرون إلى البنات على أنهن سلبنهم نصيبهم الشرعي بالتواطؤ مع أبيهن الذي ربما اتخذ هذا الإجراء بمفرده.
وطالب الشيخ قطب بعدم التعميم في تلك القضية الخطيرة، ودرس كل حالة على حدة، بمعنى انه إذا كان الأب غنياً ونصيب بناته من الميراث الشرعي يكفيهن، وبقية الورثة من إخوته أو أبناء إخوته فقراء، فعليه أن يترك الأمور طبيعية بحيث يأخذ كل وارث نصيبه دون أي تدخل مسبق منه، أما إذا كانت ثروته قليلة مقارنة بأحوال إخوته وأبناء إخوته، ويخشى على بناته الفقر مثلاً، فإنه يجوز له إعطاؤهن ثروته هبة أو في شكل بيع وشراء، وليس من قبيل التوريث الصريح المسبق، لأن هذا منهي عنه شرعاً، لأنه من المفترض أن يوزع الميراث بعد الوفاة وليس قبلها.

وطالب قطب أبا البنات بأن يساوي بين بناته في هبته، لأنه من المستحب ذلك، وقد ذهب إليه جماهير العلماء، بقولهم: «يُكرَه تفضيل بعض الأولاد على البعض في الهبة حالة الصحة إلا لزيادة فضل له في الدِّين، وأما هبةُ الرجلِ لبعض ولدِه مالَه كلَّه أو جُلَّه فمكروه لحديث النُّعمان بن بَشِير، رضي الله عنهما، أنه قال: انطَلَق بي أبي يحملني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللهِ، اِشهَد أَنِّي قد نَحَلتُ النُّعمانَ كذا وكذا مِن مالي. فقال: أَكُلَّ بَنِيكَ قد نَحَلتَ مثلَ ما نَحَلتَ النُّعمانَ؟. قال: لا. قال: فأَشهِد على هذا غيري. ثم قال: أَيَسُرُّكَ أن يكونوا إليك في البِرِّ سَواءً؟. قال: بلى. قال: فلا إذن». وبالتالي يستحب لأبي البنات أن يساوي بينهن في الهبة أو توزيع ثروته عليهن.


للضرورة فقط

أما الدكتور صبري عبد الرؤوف، أستاذ الفقه المقارن في جامعة الأزهر، فيشير إلى إنه إذا كتب أبو البنات ثروته لبناته فإنه يجوز له، عند الضرورة، أن يميز إحداهن في الهبة عن الأخريات لعلة شرعية، كأن تكون مريضة أو صغيرة أو غير متزوجة وهن متزوجات، وبالتالي فإنها تحتاج إلى مبلغ إضافي لتجهيزها للزواج.
واستدلّ عبد الرؤوف على مشروعية تفضيل بعض الأبناء أو البنات في الهبة، بما ورد عن بعض الصحابة أنهم فضلوا بعض أبنائهم، دون أن ينكر عليهم من بقية الصحابة ذلك بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد فَضَّل أبو بكر الصديق ابنته أمَّ المؤمنين السيدة عائشةَ رضي الله عنها، وكذلك فَضَّل الفاروق عمرُ بن الخطاب ابنَه عاصم بشيء أعطاه إياه، وكذلك فَضَّل عبد الرحمنِ بن عوفٍ ولدَ أمِّ كلثوم، وقيل: إنه فَضَّل ابنته من أم كلثوم بأربعة آلاف درهم، ومع هذا فقد ذهب فقهاء الحنابلة وغيرهم إلى وجوب التسوية بين الأولاد في الهبات والعطايا قدر الاستطاعة، حتى لا يولد ذلك الحقد بينهم، ما لم يكن هناك مبرر ظاهر لذلك، وارتضت بقية البنات بذلك في حالة أبي البنات.
وعن الحكم إذا تم تفضيل بعض البنات على بعض في «الهبة» قال الدكتور صبري: «غالبية الآراء الفقهية تؤكد أن هذا مكروه فقط لكنه ليس محرّماً، إذ لم ترد نصوص قاطعة التحريم، وكما قلت فإنه جائز إذا كان هذا التفضيل لعلة أو مرض أو كثرة إنجاب أو اشتغال بالعلم وما شابه ذلك».


الأخذ
بالأحوط

 تطالب الدكتورة عبلة الكحلاوي، العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية في جامعة الأزهر، البنات اللواتي كتب والدهن كل ثروته لهن ثم توفي، ثم لاحظن غضباً من أعمامهن أو أبناء أعمامهن، إذا كن من الورثة أن يتصرفن بحكمة. فمثلاً إذا رأين أعمامهن فقراء جداً وهن ميسورات فلا بد أن يعطفن عليهم، أو حتى يعطينهم ما يعادل نصيبهم في الميراث إذا سارت الأمور بشكل طبيعي.
وتعرض الدكتورة عبلة نموذجاً عملياً لتوضيح رأيها قائلة: «البنت الوحيدة ميراثها نصف ثروة أبيها، لقوله تعالى: «...وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ...» الآية 11 سورة النساء. وبالتالي النصف الآخر لبقية الورثة معها، فإذا قام الأب بكتابة كل ثروته لها فالأفضل لها أن توزع النصف على الورثة حسب النصيب الشرعي لكل منهم، وهي هنا تكون ذات فضل وتتحرى الحلال كليةً، وتأخذ بالأحوط، مثل الصحابي الجليل وابصة بن معبد الأسدي، حيث قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئًا من البر والإثم إلا سألته عنه، وحوله عصابة من المسلمين يستفتونه، فجعلت أتخطاهم، فقالوا: إليك يا وابصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: دعوني فأدنو منه، فإنه أحب الناس إليَّ أن أدنو منه، قال: «دعوا وابصة، ادن يا وابصة» مرتين أو ثلاثًا، قال: «فدنوت منه حتى قعدت بين يديه»، فقال: «يا وابصة، أخبرك أم تسألني؟» قلت: «لا، بل أخبرني»، فقال: «جئت تسألني عن البر والإثم»، فقلت: نعم، فجمع أنامله فجعل ينكت بهن في صدري، ويقول: «يا وابصة استفت قلبك، واستفت نفسك» ثلاث مرات، «البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتَوك».


نصيحة
مخلصة

وتنصح الدكتورة آمنة نصير، العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية للبنات بالإسكندرية، أبا البنات بألا يتسرع ويكتب كل ثروته لبناته، بحجة المحافظة عليهن، والأفضل أن يترك الأمور طبيعية لتوزع ثروته ميراثاً بعد وفاته كل حسب نصيبه الشرعي بدون تدخل منه، وخاصة إذا كان أقاربه الوارثون من أشقائه مثلاً على علاقة طيبة به وببناته، وذلك للمحافظة على المودة وصلة الأرحام، فهذا يتفق مع حكمة الشريعة التي أقامت أحكامها على أساس تحقيق مصالح العباد أحياء وأمواتاً، وخاصةً أن من مزايا أحكام الشريعة أنها متماسكة متكاملة ومتناسقة وتعمل للمحافظة على صلة الرحم، التي أمرنا الله بها فقال: «... وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ...» الآية 6 سورة الأحزاب.

 وحذرت الدكتورة آمنة أبا البنات من الوقوع فريسة للأحقاد أو تصفية الحسابات مع أقاربه لحرمانهم من حقهم الشرعي من الميراث، ولو على حساب قطيعة الأرحام، فيكون من قاطعي الرحم أو المساعدين على ذلك بهذا التصرف، ويكون ممن قال الله فيهم: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ. أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا. إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ» الآيات 22-25 سورة محمد.
وقد حذر الله رسوله، صلى الله عليه وسلم، وأمته من بعده من أي مخالفة للأحكام الشرعية، فقال: «وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ» آية 49 سورة المائدة.


شبهة

وتشير الدكتورة فايزة خاطر، رئيس قسم العقيدة بكلية الدراسات الإسلامية بالزقازيق جامعة الأزهر، إلى أنه إذا كان المقصود أن الأب كتب جزءاً من ميراثه باسم البنات كوصية ولم يبعه لهن بيعاً حقيقياً في حياته، فإن هذه وصية لوارث وهي ممنوعة شرعاً، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث». ولا تنفذ هذه الوصية إلا إذا رضي بها بقية الورثة، ويعتبر رضاهم مشروطاً بأن يكونوا بالغين راشدين، فإن لم يرضوا بها لا تنفذ الوصية وترجع التركة كلها كاملة ويقتسمها الورثة جميعاً القسمة الشرعية.

وأوضحت الدكتورة فايزة أن بعض الحالات فيها شبهة، والمسلم مطالب بالابتعاد عن الشبهات، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُتَشَابِهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلا لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ».

 وتنهي الدكتورة فايزة كلامها بأن بعض الفقهاء يرى أنه إذا كان الأب باع لبناته ما يملك بيعاً صورياً بمبالغ زهيدة، لحرمان بقية الورثة، فلا عبرة بذلك البيع، لكونه حيلة وخداعاً، والحيلة الموصلة إلى المحرم، وهو حرمان بعض الورثة من حقهم، تكون محرّمة في الشريعة الإسلامية، ومثله أيضاً إذا كان الأب يقصد عدم تحقق العدل، فتعتبر تلك هبة باطلة، وأما إذا باع لهن بيعاً حقيقياً فلا شيء في ذلك، والله أعلم بالنوايا من تصرفات الأب لقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إنَّما الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى، فَمَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ ورَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللهِ ورَسُولِهِ، ومَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيا يُصِيبُها أو امْرأةٍ يَنْكِحُها فَهِجْرَتُهُ إلى ما هَاجَرَ إليه».


أحكام الشرع

أما الدكتورة مهجة غالب، عميدة كلية الدراسات الإسلامية في جامعة الأزهر، فتطالب بتحري الدقة في تنفيذ أحكام المواريث باعتبارها من «الفرائض»، وعدم توريث البنات في حياة أبيهن، لأن هذا يخالف أحكام الشرع ويؤدي إلى حرمان بعض ذوي الحقوق في الميراث، لهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الجهل بالمواريث، وعدم تطبيق أحكام الشرع فيها، وخاصةً أن الله هو الذي حددها بدقة، فقال صلى الله عليه وسلم،: «تعلَّموا الفرائض وعلِّموها للناس، فإني امرؤ مقبوض، وإن هذا العلم سيُقْبَض وتظهر الفتن حتى يختلف الرجلانِ في الفريضة فلا يجدان من يفصُل بينهما»، وقال أيضاً: «تعلَّموا الفرائض فإنها من دينكم، وإنها نصف العلم، وإنه أول عِلْمٍ يُنْزَعُ من أمتي».

 وأشارت الدكتورة مهجة إلى أن الله تولَّى بنفسه توزيع التَّرِكة في آيات المواريث، حيث بيَّن نصيب الأصول والفروع، ثم نصيب الزوجين، ثم نصيب الإخوة والأخوات، واختتمها الله بقوله: «...آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً» آية 11 سورة النساء.
وبعد أن نزلت آية المواريث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله أعطى كُلَّ ذي حَقٍّ حقه، ألا لا وصيةَ لوارث»، وقال أيضاً «ألْحِقوا الفرائض بأهلها فما بقيَ فِلأوْلَى رجل ذَكَر».