«التبلاح» أو نظام التسمين

صحة المرأة, أسباب العنوسة, هموم المرأة, مشكلة / مشاكل الزواج, يوم المرأة العالمي, مهرجان سينما الذاكرة المشتركة المغربي, السمنة

29 يوليو 2009

تعتبر ظاهرة «التبلاح» من التقاليد والعادات الموروثة في الأقاليم الصحراوية في جنوب المغرب، ومن بينها مدينة الداخلة التي تقع على مسافة 1810 كلم من العاصمة الرباط. وهي تشكّل هاجساً للنساء مهما علت مراتبهن العلمية والمهنية يخضعن لسلطة التقاليد التي تجعل من السمنة هدفاً تسلك من أجله كل السبل، ويستعملن لتحقيق السمنة كل الوسائل بداية من إقناع الفتاة بأن الرجل يفضل المرأة السمينة، مروراً بتخويفها من العنوسة إن هي لم تكن سمينة إلى حدّ البدانة، ووصولا إلى الضرب لإجبارها على الأكل!

هاجس الزواج

تعيش فتيات الصحراء منذ فترة المراهقة على هاجس وحيد، وهو الحصول على أكبر مقدار من الكيلوغرامات، بغرض الحصول على زوج مقتدر مادياً. ويفسر إبراهيم الحيسن الباحث في التراث الشعبي أن هذا المعتقد له جذور ضاربة في التاريخ حيث ينظر إلى العائلة التي تضمّ نساء سمينات على أنها عائلة غنية وقادرة على تأهيل بناتها للزواج وتحقيق رغبات الرجل في الاقتران بزوجة سمينة. لذلك فالصحراوية السمينة تكون أكثر حظاً في الحصول على زوج من مثيلتها الرشيقة، فلا مكانة للرشاقة والنحافة في المجتمع الصحراوي، وهي كابوس يقضي على أحلام الصغيرات في أن يحملن لقب متزوجة.

وقال: «خلال مرحلة مهمة من البلوغ، تستفيد الفتيات في الصحراء من عملية لبلوح Gavage، وهي من الطقوس الشعبية الغريبة بالصحراء. إنها عملية إعداد الفتاة للزواج من جانب أمها. ومن خصوصيات هذا الطقس أن يفرض على الفتاة المؤهلة للزواج استهلاك كميات كبيرة من الألبان على امتداد أيام معينة وأكل مقدار كبير من اللحوم والأطعمة المحضرة. وفي حالات الرفض أو الامتناع، تتعرّض الفتاة للضرب والعنف على يدّ وصيفة تسند إليها هذه المهمة».

 نحو سمنة سريعة

تؤكد السيدة البركة السالكة، وهي عجوز في عقدها السابع كانت معلمة وكانت تتولّى تسمين فتيات منطقتها، أن الجدات والأمهات يحرصن بشكل خاص على تسمين الفتيات الصغيرات بمجرّد بلوغهن سن ست سنوات، فيجبرنهن على تناول كميات كبيرة من المواد الغنيّة بالسكريات والدهنيات والسعرات الحرارية العالية. وتعطي الأم هذه الوصفات لإبنتها سراً دون علم بقية إخوتها بذلك. وعند بلوغ سنّ الثالثة عشرة تقصد بها والدتها سيدة مشرفة على التبلاح تسمى «المعلمة»، وهذه غالباً ماتكون متقدّمة في السنّ ولها خبرة طويلة في التسمين ودراية بالأعشاب المستعملة في عملية التبلاح. وتستقرّ بالضرورة في خيمة إلى جانبها خيام لإيواء الفتيات من جميع أنحاء المنطقة.

وتضيف أن الفتاة الخاضعة لبرنامج التبلاح تبدأ يومها من أولى ساعات الفجر، فيتمّ إيقاظها طوعاً أو كرهاً لشرب كميات كبيرة من حليب الإبل، ثم تعود إلى النوم. وحين تستيقظ ترغم على شرب أكبر كمية ممكنة من الحساء، وتناول التمر والحلوى والشاي. وتختم وجبة الفطور بشرب كمية من حليب البقر، وفي الظهيرة تتناول وجبة دسمة مكوّنة من لحم الإبل المشوي، أو طبق مكون من لحم الضأن والبطاطس. وفي وجبة الغداء ترغم على تناول كمية كبيرة من الأرز أو الكسكس أو العجائن. وقبل المغيب تعود الفتاة إلى تناول الحساء والتمر، لتختم بوجبة العشاء التي غالباً ما تتكون من النشويات. واستطردت «السالكة» وهي تضحك قائلة: من الأفضل أن تأكل الفتاة لحم جدي أو خروف كامل مطبوخ بالزبدة كل يومين لكي تسمن بسرعة وتلتحق بأهلها، فأكيد العريس ينتظرها».

وكشفت السالكة انه أثناء عميلة التبلاح لا يسمح للفتاة الصحراوية بالشعور بالجوع، ويقدم لها بين الفينة والأخرى شراب أعشاب يساعد على تنظيف الأمعاء وتوسيع الجهاز الهضمي ليستطيع احتواء المزيد من الأطعمة. كما تلتزم الفتاة أثناء هذه الفترة عدم القيام بأي مجهود عضلي يمكن أن يفقدها الوزن الذي اكتسبته، إذ تمضي أغلب ساعات يومها ما بين النوم أو تطبيق وصفات العناية بالبشرة والشعر. وغالباً ما تظهر علامات السمنة على جسد الفتاة أو ما يعرف محلياً بـ «التبطاط» في غضون خمسة أسابيع.

في المقابل، تقول فاطمتو، وهي إحدى تلميذات السالكة وتبلغ من العمر الآن 34 سنة وهي أم لطفلين أنها كانت تحسّ بإحراج شديد وبالخجل من وزنها حين تعود إلى البيت في فصل الصيف. فقد حرمتها بدانتها من اللعب وجعلتها تبدو أكبر من سنها.

وخلصت السالكة إلى أن الهدف من التبلاح حسب التقاليد الصحراوية هو أن تتعلم الفتيات الهدوء والإتزان. فالبدانة رمز للرزانة والإنضباط ومقياس للجمال، فإذا «عدنا إلى التاريخ نجد أن الدافع يكمن في أن النساء السمينات تحميهن سمنتهن من الخطف. إذ يصعب على الخاطفين حمل إمرأة سمينة، في حين يسهل عليهم حمل خمس نساء نحيفات على جمل واحد».
كما تعد السمنة مظهراً إجتماعياً دالاً على رغد العيش ووفرة الغذاء عند الأهالي الصحراويين.
يضاف إلى ذلك، إعتقاد معظم الصحراويين أن السمنة تقي نساءهم من العين والحسد في فترات الحمل، ذلك أن بدانة أجسادهن تساعدهن على إخفاء بطونهن المنتفخة، وبالتالي درء كل الأخطار التي تنجم عن أعين الحاقدين. كما كان عندهم تصور طريف حول السمنة، يتجلى في أن الجسد الممتلىء يساهم في ستر العورة حتى لو تجرّدت النساء من الملابس، ذلك أن وفرة الشحم واللحم حول منطقة البطن تساعد على حجبها بسبب الترهلات الناجمة عنها.
ومن الأهداف الكامنة وراء التبلاح في إعتقاد الصحراويين، حسب الباحث محمد ولد هنون، أن البدانة التي تتمتّع بها أجساد نساءهم تساعد على تجنّب الإحساس بالبرد خلال الأيام الباردة، لإعتقادهم أن البدن الممتلىء يعمل كواق ضد القر، ولإيمانهم كذلك بأن السمنة تعين على توفير الحرارة المناسبة للجسم والحفاظ كذلك على تلك الحرارة، تجنّباً لبعض الأمراض التي تنجم في نظرهم عن البرودة كآلام المفاصل و آلام الصدر.

وأضاف أن النساء الشديدات البدانة تضطرّهن سمنتهن للجمود وبالتالي يشهد مجتمعهن لهن بالإتزان والهدوء. لذلك لابدّ أن يكون لهذا الإتزان وضعية تلاءم نمط حياتهن، فطريقة جلوسهن مثلاً أثناء السمر وتبادل الأحاديث الحميمة تتّخذ شكلاً مغايراً لما هو مألوف لدى الناس عامة. وأشار إلى أن الزي الصحراوي «الملحفة» فضفاض وواسع، لذلك كانت السمنة حاضرة لتناسب هذا النوع من اللباس.

عشوائية الوصفات

لا تزال ظاهرة التبلاح سارية المفعول إلى يومنا هذا، والخطير في الأمر هو تغيير طريقة التسمين التي كانت تعتمد في الماضي، اذ أصبحت تُستعمل وصفات طبية مخصصة لبعض الأمراض. فإذا كانت ظاهرة حبوب الهلوسة منتشرة بكثرة في مناطق كثيرة في المغرب وتؤدي بالمدمنين إلى الإنتحار البطيء والإنتقام من الذات، فإن الأمر لا يقل خطورة عن ذلك في المناطق الصحراوية، إلا انه يقتصر على النساء.

توضح الشابة ميتو في هذا الصدد أنها ضد التبلاح  بطرقه الحديثة التي هي خطيرة على الصحة، «اذ حضرت خلال السنوات الأخيرة جنازات لفتيات وافتهن المنية جراء تناول  الأدوية المحظورة. خصوصاً أنهن يمزجن هذه الأدوية بالأعشاب على شكل خليط دون استشارة طبية.

ويعتبر الخبير في التداوي بالأعشاب لحسن أفيدي رئيس جمعية العشابين في المغرب، ان طقوس التبلاح التي تعتمد أساساً على تناول لحم الإبل بمعية الأعشاب بطريقة عشوائية هي سلوك غير صحي تظهر آثاره السلبية وتسبب مشاكل جسدية ونفسية للمرأة عند سن الأربعين فما فوق، كأمراض السكري والمعدة والأعصاب والشرايين وخاصة الإصابة بالأزمات القلبية. ولفت  إلى أن بعض العشابين المتطاولين على قطاع الطب البديل رصدتهم جمعيته يستعملون أعشاباً لزيادة الوزن  مع مواد كيماوية على شكل  كبسولات، مضيفاً ان حالات تعرضت للتسمم والوفاة من جراء استعمال هذه الأعشاب المضرة لأن هذه الوصفات تعمل على الإخلال بوظائف بعض أعضاء الجسم وشل حركتها. وأكد أن هناك أعشاب طبيعية ومقوية تخضع لتحاليل طبية وباستشارة المختصين، من بينها الجوز واللوز والجنجلان والكاوكاو الأبيض، لها دور مهم في زيادة الوزن، معتبراً أن الطريقة المثلى لعلاج النحافة هي اتباع حمية متوازنة في التغذية والقيام بنشاطات رياضية.

 ردود متباينة

لم يتخل الرجل الصحراوي عن الكثير من مطالبه في الارتباط بفتاة أحلامه، ويصر على الارتباط بفتاة سمينة وجميلة مثل إصراره على أن تكون من أصل عائلي كريم، على أن تجمع بين خفة الدم وثقل الوزن! فالسمنة هي في كثير من الأحيان معيار الجمال والكمال.

يقول محمد سالم ولد الشيخ ماء العينين، وهو في حوالي الـ 60 من عمره «نعشق النساء السمينات، اذ ان الرجال يحبون النساء الشديدات البدانة، الرخوات، ذوات البشرة الفاتحة والبراقة. أما جمال الوجه فهو غير مهم بالنسبة اليهم، إذ أن لامكانة للمرأة النحيفة في المجتمع الصحراوي، فهي غير نافعة إذ تدفعها الرياح في كل اتجاه»...  وأضاف: انه  لا يجوز أن يكون سميناً، لأن هذا يعد شيئا معيبا للرجل ويحول دون إقامة علاقة متوازنة مع المرأة خاصة من الناحية الجنسية.

ويقول الباحث إبراهيم الحيسن ان غذاء الفتاة (لبلوح) يستمر على هذه الوتيرة لفترة طويلة حتى يكتنز جسدها ويمتلئ لدرجة تظهر عليه علامات تسمى بالحسّانية «لبطط»، أو التبطاط والتجراح، وهي تشققات صغيرة تصيب الجسد ناحية الرجلين. آنذاك تكتمل سمنة الفتاة وتتحول إلى مركز اهتمام وإغراء الرجال. وأضاف ان بعض علماء  الدين قالوا بحرمة هذا الشكل من أشكال التجميل لما يترتب عليه من فساد للطعام وإهانة النفس حتى أن بعض علماء الصحراء أفتوا بمنعه مثل باب بن محمد بن حمدي (ت 1316 هـ). أما الشيخ محمد المامي، فقال بجوازه معتبراً إياه ضرورياً لإصلاح بدن الفتاة وتهيئتها للزواج.

ونفى الحيسن أن تكون عملية التسمين القسري التي تخضع لها الصحراويات تنقيصاً من مكانتهن، وأكد أن المرأة في المجتمع الصحراوي تتمتع بمكانة عالية لا تحظى بها نظيراتها من المنحدرات من أصول أخرى في مجتمع متعدد الانتماءات كالمجتمع المغربي. وأضاف أن الرجل الصحراوي يرى في المرأة النحيفة مصدر شؤم ونحس، لذلك يستحيل عليه الزواج بها مهما امتلكت من محاسن.

إلا أن المناضلات من أجل حقوق المرأة لا يوافقن الحيسن رأيه، وقد أعلنّ حرباً ضروساً على ما سمينه معسكرات التسمين القسري. ونادين بضرورة الإقلاع عن هذه العادة، لما لها من مضاعفات على صحة المرأة الصحراوية ومستواها التعليمي وحياتها المستقبلية. ويبررن موقفهن هذا بأن المرأة الصحراوية تمنع من التمتع بسنوات شبابها، كما ان السمنة تعيق اندماجها في الحياة النشيطة والمساعدة في بناء المجتمع الذي تنتمي إليه.