دار المسنين... إهانة أم إعانة؟!
مشكلة / مشاكل إجتماعية, حكايات, المجتمع السعودي, الشيخوخة ومقاومتها, دمشق, شهادات حيّة, علم النفس, طبيب نفسي, دار المسنين, المأوى, المسكنات, قضية / قضايا الأسرة, معاناة المسنين, كبار السن, محمد طريفي, رعاية إجتماعية, د. عمر السيد
18 يناير 2010 انعدام الوفاء والأخلاق
وسمعنا خلال تجوالنا في الدار حكايات مؤلمة ترتبط كلها بعدم الوفاء وتفسخ القيم التربوية والأخلاقية. فمثلاً أم منصور مقيمة منذ ستة سنوات توفى زوجها منذ ٣٥ عاماً، لديها ولدان في أحد المصحات وابنتها مصابة بمرض في الكليتين ولم تستطع البقاء مع ابنها المتزوج بسبب عدم قبول زوجته بها.
أبو رافي مقيم منذ ثلاث سنوات، زوجته متوفاة وإخوته الثلاثة أيضًا توفوا، وهو مصاب بشلل في يده اليسرى.
والسيدة أم صبري مقيمة منذ ثلاث سنوات، أرمله.. لديها ستة أولاد، خمسة في الخارج، وابنة قريبه منها تزورها مرة في الشهر.
قال الله تعالى في كتابه الكريم: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً. واخفض لهما جناح الذُلّ من الرحمة وقل ربّ ارحمهما كما ربّيان صغيراً». صدق الله العظيم.
الشيخوخة مرحلة عمرية متميزة بخصائصها ومتفردة بمشاكلها، تتشعب بها معاناة المسنين بدنياً وأسرياً واجتماعياً وتتدنى قدراتهم الأساسية في العمل ومقاومة الأمراض. وعلى المستوى الجسدي يحدث هبوط في نشاط الجسم وضعف عام واختلال في بعض الوظائف العقلية، لذا نجد العديد من المجتمعات تعد كبار السن عبئاً لكن كبار السن الذين يعيشون حياة صحية جيدة من الممكن أن يكونوا مورداً بشرياً مهماً ليس داخل أسرهم فحسب بل بإمكانهم ولوج سوق العمل، وإعطاء تجاربهم في مختلف المجالات العلمية والمهنية. فالعديد من الدول المتقدمة لا تعترف بحد معين بوصفه حداً للعطاء والإبداع والمشاركة في بناء المجتمع، وكبار السن جزء أساسي من المجتمع فهم إذا كانوا قد تركوا الحياة العملية فإن هذا لا يعد دليلاً على عجزهم، فالخبرة والحكمة اللتان يحصلون عليهما، خلال العمل الطويل تجعلان لمشورتهم ثقلاً يعتد به.
ونتيجة التطور الذي نعيشه فقد تغير شكل المجتمع وأصبحت العلاقات الإنسانية علاقات مباشرة غير أولية كما كانت، بل أصبحت من التعقيد بحيث لايجد كبار السن من أفراد الأسرة من يتفرغ لخدمته أو يسهر على راحته، لذلك أصبح لزاماً أن توجد المؤسسات المتخصصة في رعاية المسنين، وأصبح من الواجب التفكير في أن مشكلة السن ليست فقط في ضرورة توفير المسكن والملبس والمأكل باعتبارها حاجات مادية ضرورية فضلاً عن الرعاية الطبية، إنما يجب أن تمتد الرعاية لتشمل إشباع الحاجة العاطفية وتقدير الآخرين لهم وتعاطفهم معهم وتكوين صداقات في المجتمع.
ولكن لا يمكن لجهة واحدة أن تقدم هذه الخدمات للمسن، وهنا فإن التعاون الوثيق بين المؤسسات الصحية ووزارة الشؤون الاجتماعية والجمعيات ذات النفع العام وقطاعات أخرى يمكن أن يساعد في توفير المناخ الصحي والنفسي والاجتماعي للمسن، مما يساعده في مواصلة نشاطه ودوره في الحياة الكريمة والآمنة البعيدة عن الأخطار بكافة أشكالها.
حكايات ممزوجة بالألم
أي قدر يكتب على جبين الإنسان منذ ولادته؟ فبعض الناس يولدون وفي أفواههم ملاعق من ذهب كما يقال، والبعض الآخر يبحث عن مأوى ليعيش فيه... هذا السؤال طرح نفسه خلال زيارة ميدانية لإحدى دور المسنين في دمشق حيث سمعنا قصصاً مؤلمة.
ماذا قالوا؟ تابعوا معنا قصصاً وحكايات مؤلمة استمعنا لها ونحن نتجول في أروقة الدار، وحينما تسمعها يتبادر إلى ذهنك أولاً سؤال: هل سيحصل يوماً لي هذا؟
الحاجة بدرية: لم تتحملني زوجته فوضعني ابني في المستودع مع الخادمة
خلف عينيها الدامعتين حملت أم أحمد آهات كثيرة، فبعدما أصابها المرض انزعجت زوجة ابنها منها، فطلبت من زوجها أن يخرج أمه من المنزل، لم تستطع تكملة حديثها وأجهشت بالبكاء، وعرفنا في ما بعد أن ابنها أحضرها إلى هذه الدار بناء على طلب من زوجته، هذه كتلك وتلك كغيرها.
فأم سامر الغنية جداً في الواقع، تعرضت لنصب واحتيال من أقربائها، وقد تنازلت لهم عن كل ما تملك وتغيرت بها الأحوال بعد أن كانت في عز ونعيم لا يُوصفان.
ووجدت امرأة تقيم منذ سبع سنين في دار المسنين وتدعى الحاجة بدرية. تشتكي وتقول: كنت مريضة بالسُكَّري، ثم أُصبتُ بِغرْغرينا في ساقي وقرَّر الأطباء أن تُقطع ساقي، فلما خرجتُ مع ولدي إلى البيت، ومكثتُ عنده أياما، لم تتحملني زوجته.
فوصل به الحال أن رماني في المستودع لكي أنام مع الخادمة. والله كنتُ أنام مع الفئران والحشرات، مرَّت الأيام فلم أتحمَّل، طلبتُ منه أن يُغير لي هذا الحال، فكان يقول لي: لا يوجد عندي أفضل من الحال، حتى عطفتْ عليَّ جارتي فأخذتني وجعلتْ لي غرفة في بيتها، فمكثتُ عندهم أسابيع، حتى بدأ ابني يُهدِّدهم ويُشاكيهم خوفاً على سُمعته وفضيحته من أهل الحي. ثم أخرجني من عندهم وهو يقول لي: سأضعك في مكان أفضل. فوجدتُ نفسي في هذه الدَّار، سبع سنوات ولم يكلف نفسه الزيارة ولا بالاتصال، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
بينما المسنة أم سالم البالغة من العمر ٨٠ عاماً بدت كالوردة المتفتحة بنور الإيمان رغم كبر سنها، فطوال الزيارة ما انقطع لسانها عن الذكر والتسبيح والدعاء لنا،وأن يرزقنا الله السعادة وأن يُحسن خاتمتنا.
ذكريات الصبا وأيام الشباب
خلال جولتنا في الدار استمعنا الى مسنّات كثيرات دفعتهن ظروف حياتهن الصعبة وفقدانهن السند والمعيل إلى الإقامة الجبرية في الدار إحداهن وتدعى الحاجة هنية تتباهى قائلة: «زوجي كان كريماً ومخلصاً، كان يعطيني راتبه كاملاً».
وثانية تدعى مريم تعرض علينا صورتها وهي شابة فتقول لنا: «أنظروا ما أجملني، لقد أخذت جائزة كبيرة عندما أقاموا قبل أربعين عاماً مسابقة الجمال. تزوجت وبقيت مع زوجي احدى وعشرين سنة دون أن أنجب له أطفالاً صبر عليّ وتحملني، وفي النهاية أشفقت لحاله وأردت أن أزوجه، فزوجته وظلّ معي يعاملني بلطف وحنان حتى توفي فأتت ضرتي بي إلى هنا».
أما المسنة أم هالة فحدثتنا عن وضع فلسطين أيام الانتداب البريطاني «سبب نكبة شعبنا وتشريده حتى يومنا هذا... أنا متأكدة أنكن جميعا لم تروا الإنكليز، أنا عشت الفترة.
لا يختلف حال الرجال عن النساء كثيراً، فعند دخولنا إلى ردهة الرجال كان الوضع محزناً لأنه يصعب عليك رؤية دموع الرجل.
أبو يوسف الذي رفض التصوير، كان يعمل موظفاً. جلس يتكلم طويلاً عن حياته في العمل، وعن أصدقائه الذين أحبوه وأحبهم، وغيرها من القصص، إلا أن الزمن انتهى به إلى هذا المكان، فقد سافر أولاده بعد وفاة زوجته، وهم يعملون في الخارج إلا أنه لم يشأ إخبارهم بحقيقة كونه في هذه الدار.
وهذا أبو بشار (٧٠ سنة) أب لأربع فتيات وولدين، تزوجت بناته ورحلن خارج الوطن، بينما بقي ولداه وهمهم الوحيد المال، فحينما أحس أبو بشار بأن أولاده يريدون أن يرثوه حياً تنازل لهم عن كل ما يملك وترك لهم الجمل بما حمل، وأتى إلى هذه الدار التي يحس فيها بالأمن والاطمئنان.
ونستعرض لكم قصة تلو الأخرى، ولكن هذه أكثر إيلاماً... أبو راتب تزوج من امرأة مطلقة ولديها طفل، فأخبرها بأنه مهدّد بالعمى فقالت له انها ستعتني به. ولكن بعد أن حصل ما حصل، وأصيب بالعمى ذهب كلامها أدراج الرياح وصارت تحتقر وجوده، وتعيّره بمرضه وتذكّره بأنها تتحمله وهو أعمى إلى أن أصبحت حياته جحيماً.
يقول: أخذت أجمل سني عمري هي وابنها وكانت الزوجة المدللة لكن ما الفائدة؟ طلبت مني الطلاق وتركتني وحدي هنا، إلا أنني آسف على شيء واحد، هو أنني أحببتها بكل جوارحي».
مدير دار المسنين محمد طريفي: ضاقت بهم الأيام
تحدث السيد محمد طريفي مدير الدار عن حال هذه الدار فقال: «احتضنت الدار مجموعة كبيرة من المسنين بعد أن ضاقت بهم الأيام وتركهم أبناؤهم، وهذه الدار تتضمن مسنين لا يوجد لديهم معيل و يُعاملون معاملة جيدة جداً، ولهم أوقات زيارات وأوقات للتنزه، لكن المشكلة التي تواجهنا هي الحالة النفسية الصعبة التي يعانيها المرضى جراء ترك أولادهم لهم... الجميع هنا يعيشون حالاً أفضل من السابق فإحدى المقيمات تقول انها تحس بالكرامة هنا على عكس إحساسها بالذل في بيت ابنها أو أقاربها.
تعايشنا مع هذا الوضع منذ زمن، ومشاكلهم قليلة جداً، إذ إنهم ينامون كثيراً ويجلسون بهدوء أيضاً، أما عن سبب ترك بعض الأبناء لآبائهم فهو نتيجة تربية خاطئة، وكما يُقال ازرع تحصد أو سوء تصرف من الأهل، إذ إنهم يثقون ثقة عمياء بأولادهم ويسلمونهم كل ما يملكون من أموال... فيجب أن تراعى مبادئ وأسس صحيحة في التربية كعدم التدليل والإسراف فيه إلى حد كبير».
وعن الأسباب التي تدعو المسن الى اللجوء إلى هذه الدار قال: «الأسباب غالباً ما تكون مشتركة لكن أغلب المسنين يشتكون من زوجة الابن التي لا تطيق وجود المسن معها في البيت وهنا أريد أن أذكر أن أغلب المسنين يحسون بارتياح واطمئنان في الدار فترى بعضهم قد تزوج في الدار وقد حصلت لدينا ثلاث حالات زواج وكانوا سعداء جداً لكن بعض الزوجات انتقلن إلى رحمة الله تعالى.
كما تقدم الدار للمسن الإقامة اللائقة بهم من مأكل وملبس ومشرب بالإضافة إلى تقديم كافة أوجه الرعاية الاجتماعية والنفسية والثقافية والتعليمية والصحية والترفيهية التي تتيح لهم التوافق النفسي وتساعدهم على التكيف الاجتماعي، مما يشعرهم بإنسانيتهم ويوفر لهم الراحة والطمأنينة على حياتهم ويوثق الصلة بينهم وبين أسرهم والبيئة الخارجية».
رأي علم النفس: موت الضمير
الموضوعات كثيرة والقصص الغريبة أكثر، فمرة تجد أختاً تخلّت عن أختها وأناساً تخلّوا عن أقاربهم، ولكن أن تجد أناساً يتخلون عن أمهم وأبيهم فهذا أمر نادر الحصول وأسبابه معقدة. ويقول الطبيب النفسي الدكتور عمر السيد: «يجب أن تراعى في تربية الأبناء التربية الإسلامية الصحيحة، ويجب زرع مبادئ الدين الإسلامي الحنيف في الأبناء والذي بغرسه في النفس البشرية منذ الصغر يربي في الأبناء حب الوالدين وطاعتهما، لكن على العكس من ذلك، فالتربية المنفلتة والأسر المفككة والمشاكل التي تغزو حياتهم تؤثر تأثيراً مباشراً في هذه النفس وتجعلها قاسية وصلبة، فتتراكم هذه السلبيات وتتحول إلى كره وأنانية ونرجسية كبيرة فتتغلب المصلحة الشخصية على مصلحة الكل، فيفضل الولد زوجته على أمه، وتوحي له نفسه بأن هذا شيء عادي. وللأسف إذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة فعلاجه صعب جداً ويكاد يكون مستحيلاً».
كتبت قصيدة لولدها الذي رماها لكنه تسلمها بعد موتها
هذه قصيدة لأم تعيش في دار المسنين تنثر كل أحزانها بصوت الأمومة لولدها الذي رماها وتركها من أجل خاطر زوجته التي رفضت العيش مع أمه، وتمر ثلاث سنوات ولم تر فلذة كبدها ولو مرة واحدة فكتبت هذه القصيدة. وسلمها مدير الدار لولدها وهو يتسلم الجثة بعد أن ماتت الأم :
يا مسندي قلبي على الدوم يطريك ما غبت عني وطيفك سمايا
هذي ثلاث سنين والعين تبكيــك
تذكر حياتي يوم أشيلك وأداريك
ترقد على صوتي حضني يدفيك
وليا مرضت أسهر بقربك وداريك
اما عطيتك من حناني و بعطيك
لكن خسارة بعتني اليوم و شفيك
أنا أدري أنها قاسية ما تخليك
خليتني وسط المصحة وأنا أرجيك
يا ليتـني خــدامة بين أياديك
مشكور يا وليدي وتشكر مساعيك
أوصيت دكتور المصحة يعطيك
وأن مت لا تبخل علي بدعاويك
وأمطر تراب القبر بدموع عينيك
ما شفت زولك زايرآ يا ضنايا
وألاعبك دايم وتمشي ورايا
ما غيرك أحدآ ساكنن في حشايا
ما ذوق طعم النوم صبح و مسايا
تكــبر وتكــبر بالأمل يا مـنايا
وأخلصت للزوجة وأنا لي شقايا
قالت عجوزك ما أبيها معايا
هذا جزا المعروف وهذا جزايا
من شأن أشوفك كل يوم برضايا
وأدعي لك الله دايمـــــــــآ بالهدايا
رسالتي وحروفها من بكايا
وأطلب لي الغفران وهذا رجايا
ما عاد ينفعك الندم والنعايا