متى يكون كذبك على زوجك حلالاً؟
د. يوسف القرضاوي, علماء الأزهر, الكذب, د. مبروك عطية, د. عبلة الكحلاوي, الحياة الزوجية, د. عفاف النجار
11 فبراير 2013الكذب الحلال
تشير الدكتورة عفاف النجار، العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر، إلى أن «الكذب خصلة ذميمة وذنب من أقبح الذنوب، وقد ذمت الآيات والأحاديث الكذب بشكل عام، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صدِّيقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن والرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذَّاباً». فهذا التحريم للكذب بوجه عام لضرره، لكن هناك حالات يكون الكذب فيها مفيداً، وقد حددها الإسلام، ومنها كذب الزوجة على زوجها بإظهار مشاعر الحب والود له، حتى وإن كانت الحقيقة في قلبها غير ذلك، وذلك حفاظاً على بيتها وحياتها الأسرية واستقرار عاطفتها، لأن الحب قد يكون بالتحبّب المرتبط بحسن عشرة الزوج لزوجته التي لا تحبه، لكن بمرور الوقت تحبه لحسن معاملته لها».
وتعرض النجار قصة واقعية تؤكد هذا فتقول: «رُوي أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب يستشيره في طلاق امرأته، فقال له عمر: لا تفعل. فقال: لكني لا أحبها. فقال له عمر: ويحك ألم تبنَ البيوت إلا على الحب؟ فأين الرعاية وأين التذمُّم؟». ويقصد الفاروق عمر بهذا القول أن البيوت إذا عز عليها أن تبنى على الحب والمشاعر ، فهي يمكن أن تبقى وتستمر على ركنين آخرين، أولهما الرعاية التي تكون بين الرحم والتكافل بين أهل البيت وأداء الحقوق والواجبات. وثانيهما التذمُّم أي التحرُّج من أن يصبح الرجل أو زوجته مصدرًا لتفريق الشمل وتقويض البيت وشقاء الأولاد».
وأنهت الدكتورة عفاف كلامها بالتأكيد أن أحداً لا ينكر أهمية الحب في الحياة الزوجية، لكن إذا تعذر وجوده أو تغيرت مشاعر القلوب بعد الزواج، هل يتم هدم البيوت باللجوء للانفصال أم يستمر الزواج ولو بكذب بوجود الحب؟ وبالتالي ليست كل البيوت تبنى على الحب، بل قد تستمر بالمعاشرة بالمعروف وبإظهار الحب ولو كذباً، وقد قال أحد الحكماء: «إن من أعظم البلايا معاشرة من لا يوافقك ولا يفارقك»، فالحل في هذه الحالة يكون بإظهار الزوجة مشاعر الحب كذباً لزوجها، وهي هنا تكون مثابةً شرعاً وليست آثمةً، طالما مشاعرها نبيلة ولم تتجه بالحب لغير الزوج.
التعامل مع البخيل
وتعرض الدكتورة سعاد الشرباصي، أستاذة الفقه في كلية الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر، لجانب آخر من الجوانب التي «يباح فيها للزوجة الكذب على زوجها، إذا كان بخيلاً جداً عليها وعلى أولادها، لأنه من واجب الأب شرعاً أن ينفق على من يعول من الأولاد والزوجة، فإن قصَّرَ في أداء ما أوجبه الله عليه من النفقة على أبنائه، فإن للزوجة أن تأخذ من ماله ما يكفيها وأولادها بالمعروف. والدليل على ذلك ما روته أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، أن هند، زوجة أبي سفيان وأم معاوية، قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل عليَّ جناح أن آخذ ماله سراً؟ قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف». وبالتالي إذا سألها هل أخذت من ماله بدون علمه أم لا؟ فلن تخبره أنها أخذت، لكن من المهم هنا أن تتقي الله وتخافه بأن تأخذ ما يكفيها فقط، حتى لا تكون سارقة وكاذبة وتأثم شرعاً».
وأوضحت الشرباصي أن «الأخذ من مال الزوج البخيل بدون علمه إنما يكون في حدود الضروريات الحياتية فقط، وليس الكماليات التي لا تتوقف الحياة عليها مثل الضروريات، ولهذا فإن الكذب هنا من الزوجة على زوجها يكون من باب إعمال القاعدة الشرعية «الضرورات تبيح المحظورات». وهذه القاعدة مرجعها قوله تعالى: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إن اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ». آية 173 سورة البقرة. لكن يبقى هذا الوضع على سبيل الاستثناء وليس كقاعدة حياة، حتى لا يكون الكذب والسرقة داءً في سلوك الزوجة وأخلاقياتها، وإنما هذا حلّ موقت لمشكلة موقتة تفعله الزوجة على مضض منها، أي تفعله وهي متأزمة وليست مستمتعة بهذا الكذب وهذه السرقة من مال الزوج البخيل، لأن الله أباح لها ذلك للضرورة القصوى».
وأنهت الدكتورة سعاد كلامها بدعوة الزوجات اللواتي يجبرن على الكذب في ظل هذه الظروف الاستثنائية، إلى الاستغفار عقب الكذب والسرقة من مال الزوج البخيل، لأنه من ابتلي بشيء من المعاصي ثم تاب فإن الله يتوب عليه ويبدل سيئاته حسنات، بشرط أن تكون التوبة صادقة لله تعالى القائل: «وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا. إِلا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا «الآيات 68-70 سورة الفرقان. ومن المقرر شرعاً أن من إحسان الله تعالى على عبده أن يستره ولا يكشف أمره، لقوله صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى الله عز وجل عنها، فمن ألمّ فليستتر بستر الله عز وجل».
تحذير ونصائح
أما الدكتور مبروك عطية، الأستاذ في جامعة الأزهر، فيحذر الأزواج والزوجات من التحوّل إلى «مفتش عواطف»، سواء في ما يتعلّق بالمشاعر قبل الزواج أو بعده، «لأن هذا يتنافى مع ما أباحته شريعة الإسلام في هذه الحالة، مما يمكن أن نطلق عليه «الكذب الأبيض»، ولهذا قال عمر بن الخطاب متعجباً: «أوكّل البيوت تبنى على الحب؟». وقد أباح عمر بن الخطاب الكذب لامرأة دون مخالفة للدين، وهذا ما تؤكده القصة التالية: «في عهده كان هناك رجل يدعى ابن أبي عذرة الدؤلي، علم من الناس أن زوجته لا تحبه، فأخذ بيد عبد الله بن الأرقم حتى أتى به إلى منزله، ثم قال لامرأته: أنشدك بالله هل تبغضينني؟ قالت: لا تنشدني. قال: فإني أنشدك الله. قالت: نعم. فقال لابن الأرقم: أتسمع؟ ثم انطلقا حتى أتيا عمر بن الخطاب. فقال: إنكم لتحدثون أني أظلم النساء وأخلعهن، فاسأل ابن الأرقم! فسأله عمر فأخبره، فأرسل إلى امرأة ابن أبي عذرة، فجاءت هي وعمتها، فقال: أنت التي تحدثين لزوجك أنك تبغضينه؟ فقالت: إنه ناشدني الله، فتحرجت أن أكذب. أفأكذب يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، فاكذبي! فإن كانت إحداكن لا تحب أحدنا فلا تحدثه بذلك، فإن أقل البيوت الذي يبنى على الحب، لكن الناس يتعاشرون بالإسلام والأحساب!». وبالتالي فإن من أخلاق المؤمنين والزوجات المؤمنات البحث عن أسباب الألفة والتحابب والتقارب بينهم».
ودعا عطية الزوجات والأزواج إلى عدم التلصص على الماضي والحاضر وافتراض سوء النية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفاسفها»، أي التوافه أو الصغائر التي تخلق المشكلات، ولعل هذا ما جعل الإمام أحمد بن حنبل يقول: «تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل»، ومعناه تكلف الغفلة مع العلم والإدراك لما يتغافل عنه، وترفعًا عن صغائر الأمور والمشكلات التي تنجم عنها، أي التغاضي الكريم حتى لا يحرج المشاعر في غير المعاصي وما يغضب الله.
ونصح الدكتور مبروك الأزواج بأن «يتغاضى كل طرف عن بعض ما لا يحب أن يراه في الآخر، ويضع كلاهما في حسبانه أنه إذا كره في الآخر صفة فلابد أن تكون فيه صفة أخرى طيبة، ولعل هذا ما أشار إليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين قال: «لا يفرك مؤمن مؤمنة أن كره منها خلقًا رضي منها آخر»، ومعنى يفرك أي يكره. وعلى الزوجة التي أباح لها الشرع الكذب في التعبير عن مشاعرها بالحب تجاه الزوج أن تحسن عشرته بالمعروف، الذي له ثلاثة عناصر متعلقة باللسان بقول التي هي أحسن، وكذلك باليد بفعل التي هي أحسن، وأيضا بالقلب بأن يكون رحيماً، فليست كل البيوت تبنى على الحب، فإذا لم يحصل الحب بالشكل المأمول فلنحافظ على الحد الأدنى الذي تستمر به العلاقة الزوجية، وطول العشرة يؤدي إلى الاعتياد على طباع شريك الحياة».
الماضي العاطفي
وتتطرق الدكتورة عبلة الكحلاوي، العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر، إلى «قضية جوهرية يجوز فيها للزوجة الكذب على زوجها، عندما يصرّ على معرفة ماضيها العاطفي قبل الزواج، فلها ألا تخبره بهذا سواء أثناء فترة الخطبة أو بعد زواجها، وخاصة أنه قد يكون فيها شيء من المعاصي التي سترها الله عليها، ويجب عليها الحفاظ على ستر الله لها، فلو سألها لا تخبره، لأنه يستحب لمن وقع في معصية أن يتوب إلى الله تعالى ويستر نفسه ولا يذكر ذلك لأحد. وليس من الصدق فضح الإنسان لستر الله له أو المجاهرة بالمعصية، لأن هذا يتنافى مع أحكام الشريعة، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أن يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ». كما قال الإمام الشافعي: «أُحبُّ لمَن أصاب ذنباً فستره الله عليه أن يستره على نفسه ويتوب»».
ونصحت الكحلاوي الأزواج بأن «يختاروا صاحبة الدين والخلق، حتى لا تحدثهم أنفسهم أن يفتِّشوا في ماضيهن أو يسألوهن عن معاصيهن السابقة، لأن ذلك مخالف لما يحبه الله تعالى من الستر، وما فيه من إثارة الشك والظنون السيئة التي قد تدفع إلى التجسس الذي يحول الحياة الزوجية إلى جحيم، ولهذا قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إن بعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أن يَأْكُــلَ لَحْمَ أَخِيــهِ مَيْتــاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إن اللَّهَ تَــوَّابٌ رَّحِيـمٌ» آية 12 سورة الحجرات. وكذلك يجب على الزوجة ألا تسأل زوجها عن ماضيه، وهل أحب غيرها أو تعلق بسواها؟ لأن هذا كلام لا خير فيه ويفتح أبواباً للشر والفتنة التي تضر بالثقة بين الزوجين».
ودعت الدكتورة عبلة في نهاية كلامها الزوجين إلى عدم البحث في ماضي الآخر، حتى لا يضطر للكذب، حتى إن كان من الكذب الحلال، لكن عليهم العيش في الحاضر ومحاولة إسعاد الآخر، وأن يحاول كل منهما إسعاد الآخر بالمعاشرة بالمعروف، لقوله تعالى: «وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا» آية 19 سورة النساء. وبالتالي فإنه لا يشترط الحب وحده لبقاء الزواج قائماً، وإنما قد تضطر الزوجة وكذلك الزوج للكذب على الآخر بأن مشاعره تجاهه طيبة.
فجّرت فتوى للدكتور يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، بجواز الكذب بين الزوجين في المشاعر جدلاً حول الكذب الحلال بين الزوجين: ما هي ضوابطه؟ وما هي الموضوعات التي يباح الكذب بشأنها، وخاصة من الزوجة تجاه زوجها؟ ومتى يتحول كذب الزوجة على زوجها من حلال إلى حرام والعكس؟ وهل في السنّة النبوية وسيرة الصحابة ما يؤكد أن هناك كذباً حلالاً من الزوجة على زوجها والعكس، أم أنها اجتهادات غير ملزمة؟ هذه الأسئلة وغيرها أجاب عنها علماء الأزهر، فماذا قالوا؟
يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: «إذا كان الإسلام قد منح رخصة في جواز الكذب بين الزوجين، فليس هذا على إطلاقه، فلا يجوز الكذب في كل شيء، لكن الكذب المسموح به هو ما يتعلّق بإيجاد الألفة بينهما، بأن يظهر كل منهما لصاحبه الود والحب، حتى وإن كان ما في قلبه عكس ذلك، وما عدا ذلك فهو باقٍ على أصل الحرمة، لأن الأصل في الكذب هو الحرمة لما وراءه من مضار على الفرد وعلى الأسرة وعلى المجتمع كله. لكن الإسلام أباح الخروج عن هذا الأصل لأسباب خاصة، وفي حدود معينة ذكرها الحديث النبوي: «عن أم كلثوم رضي الله عنها قالت: ما سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث، الرجل يقول القول يريد به الإصلاح، أي بين الناس، والرجل يقول القول في الحرب، والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها».
ويضيف القرضاوي: «هذا الكذب المباح يعدّ من واقعية الشريعة وبالغ حكمتها، فليس من الحكمة أن تصارح المرأة زوجها بما كان لها مثلاً من ماضٍ عاطفي عفا عليه الزمن ونسخته الأيام، فتدمر حياتها الزوجية باسم «الصدق» الواجب، ولهذا كان الحديث النبوي في غاية الحكمة والصواب، حين استثنى ما يحدث بين الزوجين من كلام في هذه النواحي من الكذب المحرّم ورعاية للرباط الزوجي المقدس».