المتباهون الصغار! كذب وسخرية يدفعان الأطفال الى الانطواء والعزلة

المتباهون,الصغار,كذب,الأطفال,السخرية,الانطواء,العزلة

عزيزة نوفل (جدة ) 05 سبتمبر 2015

لم تعد فكرة شراء دراجة أو حتى دمية شيئاً مغرياً أو محفزاً للطفل كالسابق، بحيث أصبح الأطفال يتهافتون مثلهم مثل الكبار على المقتنيات الثمينة والعلامات المعروفة. عمرهم لا يتعدى السنوات الست ويطالبون بهواتف نقالة حديثة ليصبحوا مثل أقرانهم في المدرسة أو كأحد أقاربهم. هي ليست مسألة تقليد فحسب، بل تتطور لتصل الى درجة التعالي والسخرية ممن هم أقل شأناً، ورفض التعامل أو التصادق مع من ليسوا بمثل مستواهم المعيشي، لنجد أحياناً في الطرف الآخر أطفالاً يتأثرون سلباً بهذه السلوكيات التي تجعلهم يخجلون من واقعهم لكونهم لا يمتلكون بيوتاً أو مقتنيات أو ملابس تشابه تلك الفئة المتعالية، ما يسبب لهم ألماً نفسياً وشعوراً بالدونية... نظرة سريعة نلقيها على المتباهين الصغار وعلى المشاكل النفسية والأسرية التي تسببها تلك الظاهرة مع استعراض حلول من اختصاصيين...


«ملابسك مقرفة» عبارة تقطعها عن العالم وتجبرها على الانطواء
الطفلة يارا ذات الست سنوات عانت لوقت طويل مشكلة عدم الثقة والانقطاع عن الناس، بعد تعرّضها لمواقف سيئة عدة من أقرانها من الأطفال، فتقول أم يارا (31 عاماً)، إنها وعلى رغم كونها سيدة مطلقة، تحاول جاهدة تلبيه احتياجات طفلتها، وشراء كل ما هو ثمين وجميل، في سبيل تعويض ابنتها عما تفتقده من الجو الأسري واهتمام الأب بشكل أكبر، ولكنها تستاء لتأثر ابنتها بكلام الأطفال الآخرين وسخريتهم منها. ففي أحد المواقف، علقت إحدى الفتيات في المدرسة على ملابس ابنتها بعبارة «مقرفة»، لأنها لم تكن مرتدية فستاناً ملائماً للحفلة.
وتؤكد أم يارا أن ابنتها انفجرت بالبكاء بعد سماعها تلك الكلمات، وبقيت فتره تحاول عدم الاختلاط بالأطفال، إضافة إلى أنها أصبحت أكثر تدقيقاً في مسألة ارتداء ملابس باهظة الثمن لتتفادى تعليقات هؤلاء الأطفال المتنمّرين.


المدارس العالمية بيئة حاضنة للمدللين والمتباهين
تلعب بيئة البيت أو المدرسة دوراً مؤثراً في دفع الأطفال الى المباهاة بما يمتلكونه من أحدث الملابس والأجهزة والألعاب. فأم ياسر وريان الحنفي (34 عاماً)، كان هدفها الأول والأخير من تسجيل أبنائها في إحدى المدارس العالمية، تقوية لغتهم الإنكليزية، والتأكد من حصولهم على تعليم جيد وبمستوى عالٍ. ورغم دخلهم المتوسط، كانت تصر على أن يكمل أبناؤها تعليمهم في هذه المدرسة التي غالباً ما تضم الكثير من الأبناء المدللين والمتباهين، وقد لاحظت أن أبناءها أصبحوا يهتمون كثيراً بشراء الأحذية والحقائب وحتى الملابس ذات الماركات العالمية لمجاراة زملائهم في المدرسة، ما يكلفها جهداً اضافياً في توفير متطلباتهم الكمالية.


إغاظة «زميلات المدرسة»
الأطفال بطبيعتهم يحبون المقارنة، وهذه مشكلة تعانيها السيدة سلمى فاروق (36 عاماً)، وهي أم لأربعة أبناء، حيث ترى أن من الصعب التعامل مع متطلبات أطفالها وخصوصاً الفتيات اللواتي يرغبن دائماً تقليد صديقاتهن من خلال الملابس والأجهزة الالكترونية، فابنتها ذات السنوات الثماني، تلح على والدها باستمرار لشراء أحد الهواتف الذكية بحجة أن غالبية زميلاتها في المدرسة يسخرن منها، وتود مجاراتهن بشراء هاتف أكثر حداثة من هواتفهن في سبيل إغاظتهن.


القناعة تمنحهم الثقة وتقلل التأثر بالمضايقات
في حين ترى أم عز صالح (27 عاماً)، أن المسألة تبدأ من التعود، إذ تحاول دائماً ترسيخ القناعة في نفوس أطفالها، وشراء مستلزماتهم بشكل معقول ومتوسط. فالملابس والأحذية والحقائب المدرسية تحرص على أن تكون من اختيار أطفالها مع مراعاة النوعية الجيدة، وهذا لا يعني بالضرورة أن تكون باهظة الثمن أو من ماركة معينة. وكون أطفالها مقتنعين بما اختاروه من ملابس وألعاب ومستلزمات مدرسية، يخفف من حدة المضايقات ويعطيهم الثقة في مواجهة زملائهم.


«أدوات مدرسية» سبب في تقديم شكوى
حتى الأدوات المدرسية لا تخلو من كونها مصدر سخرية أو مباهاة بين الأطفال. فالسيدة أم جواد (32 عاماً)، ذهبت الى مدرسة ابنها وهي تحمل شكوى ضد أحد الأطفال الذي كان يتفنن في السخرية من طفلها جواد البالغ من العمر 7 سنوات، والذي تأثرت نفسيته جداً بعد سماعه تعليق هذا الطفل على أقلامه وأدواته المدرسية والسخرية منه أمام رفاق الصف، والادعاء بأنها زهيدة الثمن وقد اشتراها من الباعة المتجولين في الشوارع... وقتها لم تستطع أم جواد أن تتمالك نفسها من شدة الغضب، فتوجهت الى المدرسة في اليوم التالي طالبةً من المعلمة المسؤولة عن الصف معاقبه هذا الطفل وإبلاغ والدته بسلوكه، والتي قدمت بدورها اعتذاراً معلّلة سلوك ابنها بأنه تقليد لإخوته الأكبر سناً.


المباهاة أمر طبيعي عند الفتيات الصغيرات
أما السيدة إيمان أم ريماس خليفة (37 عاماً)، فترى أن المباهاة عادة تعتمد على شخصية الطفل وبيئته ونوعية أصدقائه. ورغم شخصية ابنتها المستقلة والمحبة لانتقاء كل شيء بنفسها، لكنها لا تواجه هذه المشكلة. فمحيط العائلة والأصدقاء جميعهم من الطبقة المادية نفسها، ولا يوجد تعالٍ أو تباهٍ في ما بينهم على مسألة الممتلكات أو الملابس الثمينة، ولكن قد تتباهى ابنتها ريماس بأناقتها وترتيبها أمام قريناتها، من دون التطرق الى ثمن ما تلبسه أو مكان شرائه، وهذا أمر طبيعي بالنسبة الى الفتيات اللواتي في سنّها.


التسلط والتباهي حتى على الكبار
الهوس باقتناء الماركات العالمية انتقل الى طفلتها ذات السنوات الأربع. هذا ما تؤكده أم جنى (27 عاماً)، التي اعتادت على الدوام شراء كل ما هو (ماركة) لابنتها، التي اعتادت بدورها على الدلال من جميع أفراد العائلة، فهي لا ترتدي إلا ما هو باهظ الثمن، حتى أنها أصبحت سليطة اللسان وتعيب على كل ما هو رخيص أو من دون ماركة معروفه، وتعاني الأم كثيراً من تسلط جنى الزائد وكلامها الفظ حتى مع الأكبر منها سناً، وتتمنى أن تتدارك الأمر وتقلع عن هذه العادة السيئة.


يخجل من بيته ويكذب على أصدقائه
وفي موقف غريب، صُدمت أم عبدالله (33 عاماً) بابنها البكر الذي يبلغ من العمر عشر سنوات، والذي كان يهتم بارتداء ملابس ذات «ماركات عالمية» حتى وإن كانت ملك أخيه أو أحد أصدقائه، ولم تكن أم عبدالله تعير ذلك اهتماماً بالغاً، معتبرة الأمر مجرد تبادل ورغبة في التغيير والتنويع فقط، إلى أن فوجئت بعد حادثة كسر رجله برفضه القاطع استقبال أي من رفاقه في بيتهم، ما دفعها الى السؤال والتقصي عن ذلك، إلى أن اكتشفت أن ابنها يخجل من استقبال زملاء الدراسة في شقتهم المتواضعة، كونه سبق أن أخبرهم بأنه يقطن في فيلا كبيرة في أحد الأحياء الراقية، وستكشف زيارتهم له كذبه وتنقطع علاقته بهم.
 

العجب بالذات تتحمل تبعاته الأسرة وتنشره وسائل التواصل الاجتماعي
يشير الدكتور محمد حسن عاشور المستشار التربوي وخبير التنمية البشرية، الى أن المسمى الذي يطلق على هذه الظاهرة هو العجب بالذات، أو التفاخر بالنفس، وهو من الآفات الاجتماعية التي تظهر في أي مجتمع عموماً. ويعود ذلك بشكل أساسي الى عدم وجود أشياء أو أهداف محددة في حياة هؤلاء الأطفال بما يتناسب مع أعمارهم وأفكارهم، فلا تجد هذه الفئة من الأطفال ما يشغل عقلها وقلبها، كما ليس لها ميول أو واجبات مفيدة في الحياة، لذلك تتمسك بالغرور والتعالي بالأشياء المادية الملموسة.
وجذور هذه الآفة وأسبابها قد تعود إلى الموروثات الاجتماعية الموجودة في الأسرة، وقد يكون منطلق وجودها أن الأطفال عاشوا أساساً في بيئة يمارس فيها الأب والأم مثل هذه السلوكيات. وبهذا تأخذ هذه الموروثات الاجتماعية السلبية نصيب الأسد من هذه التربية الفاشلة.
كما تعد البيئة خارج البيت مثل الحي أو المدرسة عاملاً مهماً في ظهور هذه السلوكيات، وقد يفوق تأثير الأقران في بعضهم بعضاً تأثير أي عامل آخر في الطفل، ما يعني أنه قد تكون بيئة البيت جيدة، ولكن لم ينتبه الوالدان الى هذه السلوكيات، ليزرعوا في أبنائهم بعض المضادات أو اللقاحات التي تقيهم الانصياع الى هذه الآفة المعدية التي أُصيبوا بها في محيط المدرسة.
ويضيف الدكتور عاشور أن وسائل التواصل الاجتماعي سهلت كثيراً انتشار هذه السلوكيات وأدت إلى تغلغلها بين الأطفال والمراهقين، فحين يرى الطفل أحد أصحابه أو أقاربه يصوّر نفسه بطريقة (السلفي) أمام سيارة من أحدث الموديلات، وهو يضع نظارة شمسية من أفضل الماركات، والتي قد لا تكون ملكاً له في الأساس... حتماً هذا التصرف سيزرع في وجدان الطفل الإعجاب بالنفس وقد يتطور الأمر الى مرحلة الكذب والادعاء أحياناً.


التواضع والقناعة من الأسس التربوية المهمة
أما خبيرة فن الاتيكيت ومؤسسة مركز السلوك الراقي في جدة الأستاذة أميرة الصايغ فتؤكد: «كما سبق للأسرة تحمل العبء الأكبر لمثل هذه السلوكيات، وخصوصاً في حال عدم وجود توازن في تلبية رغبات أطفالهم، يجب ألا تكون هناك تلبية متواصلة ولا حتى حرمان، فالأساس ينبع من ضرورة زرع قيم مهمة أبرزها تقدير النعمة والمال وعدم الإسراف، إضافة إلى ترسيخ مبدأ التواضع والبعد عن الغرور، وأن نوضح للطفل، قولاً وفعلاً، أن السعادة لا تأتي من المال والمقتنيات الباهظة أو المدارس المرفّهة، وأن قيمة الشخص لا تكمن في ملابسة ولا في ما يمتلكه، بل في التركيز على الإحساس بالآخرين، وهذا يبدأ من عدم التعالي عليهم».
وتوضح الصايغ أنها تركز دوماً على الاهتمام بالمظهر لما يعكسه من انطباع جيد عن الشخص، وهذا الاهتمام يكون من طريق النظافة والترتيب وأسلوب المعاملة والأخلاق الحسنة.
وتنوه بأن الأسلوب النظري المقتصر على الكلام من دون الفعل لا يحقق أي نتيجة، فزرع قيم العطاء ومحبة الناس يجب أن يكون ملموساً من خلال تقديم ما هو فائض الى المحتاجين، فذلك يمنح الطفل الرضا والقناعة بما يمتلكه، وينزع من نفسه الغرور والتعالي.


أضرار التباهي بالذات والوقاية والعلاج
وعن الأضرار المترتبة على هذه السلوكيات، يذكر الدكتور عاشور أهم الأطراف المتأذية من الإعجاب بالذات، ويؤكد أن الطفل نفسه الذي يمارس هذه السلوكيات هو المتضرر الأول، كونه سيعيش ويكبر ضمن فقاعة وهم قد تنفجر يوماً ما، خصوصاً إذا استمر هذا التعالي الى فترة مراهقته وشبابه، فذلك سيجعله إنساناً يلجأ الى الكذب والادعاء ليرتدي ثوباً ليس ثوبه، وسيجد نفسه في دوامة لن يخرج منها إلا من خلال صدمة أو موقف أو لحظات اختلاء بالنفس.
أما المتضرر الثاني من هذه السلوكيات فهم الأطفال الآخرون الذين تأذّوا من هذا الطفل المتعالي والمعجب بذاته، إذ يجدون نفسهم لا يمتلكون ما يمتلكه، فلا بيتهم كبيته ولا سيارتهم كسيارته، وتكمن قوة الضرر ونسبته في طبيعة البيت والتربية، كون الآباء الذين يربون أبناءهم على القناعة بما لديهم وعدم مصاحبة المغرورين يبعد عنهم التأثر بسلوكيات هؤلاء الأطفال، وهذا يعد أسلوب وقاية وحماية لهم.
أما بالنسبة الى العلاج فيجب أن يكون هناك إيمان من الأسرة بأن هذه السلوكيات مشكلة بحد ذاتها وليست أمراً طبيعياً، ومن ثم يمكنهم تقويم سلوك أبنائهم بزرع القيم، وتفعيل التربية من طريق القصص الواقعية الملموسة، وتقوية ارتباطهم بمبادئ الدين الإسلامي الحنيف، وتذكّر عاقبة التكبر والغرور التي أشار إليها النبي عليه الصلاة والسلام في حديثه: «لا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر».