المخرجة الفلسطينية مي المصري رائدة في تحريك الصورة... فتنبض بالحياة

إسماعيل فقيه (بيروت) 20 أغسطس 2017


تتميز المخرجة الفلسطينية مي المصري بعين ذكية. فقد استطاعت الوصول، بالعين المجردة الى أعمق مفاصل الإنسان وأحاسيسه. وكانت عينها الكاميرا القديرة، أكثر مما كانت الكاميرا عينها القديرة. جسدت بأعمالها السينمائية الكثيرة، صورة الحياة بأدق تفاصيلها ومعانيها، وذهبت عميقاً في استحضار المعنى والشعور من خلال الصورة وحركتها الصافية. أفلام سينمائية ووثائقية أنجزتها المصري، وكلها أفلام مزدحمة بقوة الفعل ونشاط الحركة وصحوة العقل والوعي الرصين. غاصت، بالصوت والصورة والحركة، في تفاصيل القضايا التي تشغل الإنسان والعالم. لامست الجرح والعذاب والأمل، وكانت الصورة النابضة بالحياة.


مخرجة من طراز رفيع تقول ما تريد وما يريد أن يقوله الآخر. فمن خلال الشاشة الكبيرة حرّكت المشهد الراكد، بحيوية إبداعية راقية جداً. وفي جديدها السينمائي ما هو أبلغ وأقدر. فقد تمكنت من تحقيق الصورة التالية في المشهد، مشهد المعاناة الفلسطينية. استطاعت أن تعكس، في فيلمها الروائي «3000 ليلة» معاناة المرأة الفلسطينية، وذلك من خلال قصة حقيقية لسيدة تضع مولودها داخل أحد السجون الإسرائيلية وهي مقيدة بالسلاسل. واللافت أن هذا المشهد السينمائي ــ الموقف الأخلاقي الكبير كان بمثابة نقطة التحوّل في الموقف والرأي، التحوّل نحو الأمل، لا السير في مساحة القهر المتعارف عليها.

ويروي الفيلم قصة المعلّمة الشابة «ليال» التي تعيش حياة زوجية هانئة في مدينتها المحتلة نابلس في الضفة الغربية قبل أن تتبدل حياتها بعد توقيفها من جانب قوات الاحتلال الإسرائيلية بتهمة مساعدة مراهق فلسطيني مشتبه بأنه شنّ هجوماً على نقطة تفتيش. تقول مي المصري إنها تعرفت إلى تلك السيدة عن كثب: «تعرفت إليها إثر تصويري لأحد أفلامي في مسقط رأسي نابلس خلال الانتفاضة الأولى. وأكدت لي أنها أنجبت ابنها داخل سجن إسرائيلي. وهذا اللقاء معها كان بداية (مشوقة) لفكرة الفيلم».

وتضيفت مي قائلة: «لقد تأثرت كثيراً بتجربتها، تجربة تلك المرأة المناضلة، خصوصاً عندما روت لي أنها أُجبرت على الإنجاب وهي مقيدة بالسلاسل. وكيف تمكنت من تربية وليدها خلف القضبان. روت لي تفاصيل مذهلة، وقمت بتدوينها. وبعد هذا اللقاء أجريت العديد من المقابلات مع سجينات أخريات، وسرعان ما اكتشفت أن بعضهن عشن التجربة عينها في إنجاب الأولاد  داخل السجون الإسرائيلية. وكانت هذه المقابلات المادة والصورة التي حرّكت نبض الفيلم، وكيفية اختياري وتقطيعي وإخراجي لمشاهده».

الفيلم الرصين والصارم في توصيف مشهد المعاناة الفلسطينية يأخذ مشاهديه، طوال ساعتين، إلى حياة السجينات الفلسطينيات القادمات من عالم السياسة وإقامتهن مع سجينات إسرائيليات حوكمن بتُهم جنائية خطيرة. تقول مي المصري: «في السجن تكتشف ليال أنها حامل وسرعان ما تتعلم أن الاستسلام والانهيار والعوامل النفسية المدمّرة التي تعيشها لن تفيدها، بل عليها أن تتسلّح بالقوة والإرادة لتواجه الصعوبات والعذاب والقهر. ومع الوقت تتعرف الشابةــ الأم السجينة إلى نفسها أكثر، وتواجه مصيرها متمسكةً بالأمل ومتضامنةً مع السجينات الأخريات اللواتي فهمن باكراً أن اتّحادهن هو سلاحهن الوحيد لمحاربة ما يواجهنه من قمع. وعندما تنجب البطلة ابنها (فلسطين) داخل السجن وهي مقيدة بالسلاسل، يعيش مُشاهد الفيلم حياتها اليومية مع طفلها في لقطات ومَشاهد مؤثرة جداً، جمعت بين الواقع المرّ ومشاعر الأمومة».

تعترف المخرجة بأنها أرادت بث الصورة على حقيقتها القاسية والمعبّرة، لتكون عاملاً مؤثراً في الذات المتلقية والمتابِعة لمجريات الفيلم ووقائعه: «لقد أردت للجمهور أن يتأثر بهذه المشاهد، وأن تكون اللمسة الإنسانية هي الحاضرة والطاغية والمؤثرة والفاعلة، وفي الوقت نفسه أن تكون هذه الأعمال مصدر وحي له، كي يغير ويساهم ويناضل بكل ما أوتي من أمل، وإن على طريقته، بكل ما يقدر وبكل ما يمكن أن يقدمه ويكشف ويفضح حقيقة الظلم الذي يعيشه الشعب الفلسطيني تحت نير العنصرية الصهيونية. تماماً كما حصل معي عندما استمعت إلى قصص النساء في السجون الإسرائيلية. أرغب بشدة في أن ألامس روح الجمهور وأن أبث في داخله اللمسة الإنسانية، والأهم هو الأمل. الأمل هو القوة التي تحمي النفس وتساعدها على الوصول الى الهدف النبيل».

وعن السجن الذي صوّرت فيه الفيلم، تقول مي: «في هذا السجن كان المشهد الحقيقي والمعاناة الحقيقية. السجن الذي صوّرنا فيه هذا الفيلم كان بمثابة استعارة للظروف التي يعيش فيها كل فلسطيني. وربما كانت مشاهد السجن مطابقة تماماً لتلك المعاناة التي جهدتُ لإبرازها في الفيلم».

تاريخ المخرجة مي المصري حافل بالإنجازات والأفلام الوثائقية. فقد قدمت سابقاً العديد من  الأفلام الوثائقية والهامة في مضمونها ومحتواها، لكن فيلمها «3000 ليلة» يختلف عن سياقات أفلامها وأعمالها السابقة، وتقول مي عن كواليس فيلمها: «أذكر جيداً هذا الشعور الثقيل بالمسؤولية، لا سيما أنني كنت أصوّر فيلمي الروائي الأول ولم أكن أنام إلا ساعات قليلة جداً. واليوم أستطيع أن أضحك عندما أتذكر ساعات التصوير الطويلة. وعندما أنظر إلى تلك الأيام، أؤكد أن فريق العمل والممثلين هم الذين عاشوا لحظات المرح الحقيقية، لا سيما وسط الدموع الغزيرة والضحكات غير المكبوحة التي سيطرت على أجواء التصوير».

وفي جوابها على سؤالنا عن كيفية اختيار السجن الافتراضي لهذا الفيلم، توضح مي: «لقد تم تصوير هذا الفيلم في أحد السجون العسكرية في مدينة الزرقاء على مقربة من العاصمة الأردنية، وعملت مع فريق عمل على تجهيز المكان المختار ليكون انعكاساً حقيقياً لسجن إسرائيلي. وقد نجحنا في بناء الشكل المطلوب للوصول الى المعنى الدفين والعميق في النفس...».

أما المشهدية والإخراج، فتصفهما مي «بالحاجة الماسة لنبض الفيلم»: «لقد شدّدنا على لعبة الأضواء لنُظهر التفاوت بين الليل والنهار. وكانت الأصوات الخلفية تمثل الانعكاس الحقيقي لأصوات السجون الحقيقية. وأعني بذلك إغلاق الأبواب بقوة وأصوات السلاسل وأقفال الأبواب. وأرى أن هذه الأصوات تعطي أبعاداً كثيرة للفيلم. حتى بتنا نشعر أننا نعيش في الأسر الحقيقي مع كل هذا العذاب وأشكال الظلم الذي جسدناها في المشهدية وفي الإخراج».

وحتى الآن، نال فيلم «3000 ليلة» جائزة الجمهور في مهرجان الفيلم الأول الدولي في فرنسا، وجائزة لجنة التحكيم في المهرجان السينمائي لحقوق الإنسان في سويسرا، وجائزة لجنة التحكيم في العروض الدولية لأفلام وتلفزيون المرأة في لوس أنجلوس في الولايات المتحدة، وجائزة الجمهور في مهرجان بلد الوليد السينمائي في إسبانيا.

الفن السابع، والصورة الذكية، والعين الثاقبة، والأحاسيس والشعور الضروري في تلمّس الواقع... وسواها من فصول البحث والصورة والتعبير للوصول الى الشكل المطلوب، تعتمدها المخرجة القديرة مي المصري، وترى في الفيلم السينمائي الوثائقي أو الروائي، مهما كان مضمونه، الصورة النابضة والقديرة والتي تخوّل مخرجه تحقيق غاية المعنى الكبير. وتقول: «الحياة بأبسط مشاهدها، تحتاج الى عين تراقبها وتصوّرها، فكيف اذا كانت مشاهد الحياة مكتظة بالمشاهد الصاخبة، كتلك المشاهد التي تحدث تحت ظلم الاحتلال وما يعانيه شعب من عذاب واحتلال وقهر... لا بد من القول والعمل، وفي الصورة الكبيرة المتحركة يكمن كل القول وكل العمل. وما أقوم به في عملية الإخراج والتصوير السينمائي ليس إلا هدفاً من أهداف الحرية التي ننشدها وتنشدها الشعوب المقهورة».

عوّدت المخرجة مي المصري مشاهدي أفلامها على (الأكشن) الرصين، فقد لامست أعماق العذاب في النفس البشرية من خلال أفلامها القائمة على بناء الصورة وتحريكها وفق مشهدية منتظمة، كما لو أنها انتظام مدرسي. قالت بالصوت والصورة والكلمة كل الحكاية، لم تترك نوراً ولا حرفاً ولا صمتاً إلّا واستحضرتها في الإطار البصري. ذكاء العين التي تراقب بها زمن العذاب، هي نفسها (الكاميرا) التي لا تفارق كتفها أينما حلّت.