مأساة طفلة تثير جدلاً فقهياً
جدل فقهي بين علماء الدين في مصر فجرته مأساة الطفلة السعودية فاطمة التي أنكر أبوها نسبها باللعان منذ سنوات، أي بالقسم أربع مرات على أن زوجته زنت وأن الطفلة ليست ابنته، وأن لعنة الله عليه إذا كان من الكاذبين. ثم رفض إجراء تحليل الحمض النووي لإثبات النسب بعدما أقامت الأم دعوى عليه لرفض المدرسة مواصلة فاطمة للدراسة إلا بعد استكمال أوراقها. فماذا قال المؤيدون والمعارضون لاستخدام تحليل البصمة الوراثية دليلاً قاطعاً لإثبات النسب؟ وهل هناك فرق بين وجود علاقة زوجية أو علاقة محرمة ؟ طرحنا القضية على العلماء فكانت هذه أقوالهم.
بداية قصة الطفلة السعودية فاطمة كانت حين أقام الزوج دعوى يتهم فيها زوجته بالزنى لينفي علاقته بالجنين الذي تحمله. ومع إنكارها لم يكن أمام قاضي المحكمة الكبرى في نجران سوى إلزام الزوجين بـ «اللعان» ومن ثم إصدار حكم بالتفريق بينهما وإلحاق الجنين بعد ولادتها بأمها، وهو ما جعل فاطمة رسمياً دون أب شرعي ولا تملك أي أوراق تمكنها من الحصول على حقوقها.
وبعد عشر سنوات من الحكم الأول اكتشفت المدرسة الابتدائية التي التحقت بها فاطمة نقص أوراقها الرسمية بعدما اجتازت الصفين الأول والثاني ورفضت إلحاقها بالصف الثالث، فطلبت الأم من محكمة التمييز في مكة إرغام الزوج على إجراء تحليل الحمض النووي لتتمكن من إثبات نسب ابنتها ومن ثم استكمالها للتعليم. لكن الزوج رفض إجراء التحليل... وما زالت فصول مأساة فاطمة مستمرة في ظل عدم وجود نص قانوني يلزم الزوج بإجراء التحليل بل إن التحليل نفسه ليس قرينة قانونية معترف بها.
ضوابط شرعية
يوضح الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بعض الجوانب الشرعية في القضية بوجه عام فيقول: «شرع الله حد القذف لمن رمى إنساناً بالزنى ـ رجلاً كان أو امرأة ـ ولم يقم بينة على ذلك. والبينة أن يأتي بأربعة شهود رأوا عملية الزنى وهي تحدث بأعينهم دون تجسس منهم على الزاني ومن يزني بها لقوله تعالي: «والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون* إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفوررحيم» (الآيتان 4-5 سورة النور). ولكن القرآن استثنى من هذا الحكم الأزواج الذين يرمون زوجاتهم ولم يكن لهم شهود إلا أنفسهم، فمن أتهم امرأته بالزنى فقد جعل الله له بديلاً عن الشهود الأربعة وهو أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين وبهذا يسقط عنه حد القذف وذلك لقوله تعالي:
«والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين* والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين* ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين* والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين» (الآيات 6-9 سورة النور). وهذا اللعان مشروع إذا اتهم الزوج زوجته بالزنى أو اتهمها بنفي الولد منها، ومن نتائجه أن يتم التفريق بين الزوجين وينسب الولد إلى أمه ومن باب الستر على المرأة لم يُعرف إن كانت هي الكاذبة أو هو الكاذب ولم يُعرف إن كان الولد ابنه حقيقة أو لم يكن ابنه، وفي هذا مصلحة للجميع».
ويضيف القرضاوي: «بعدما ظهرت البصمة الوراثية وأصبح ممكناً معها تحليل الدم ومعرفة ما اذا كان الولد من صلب هذا الرجل أو لم يكن من صلبه، فإن العلماء اتفقوا على أن الزوج إذا طلب الاحتكام إلى البصمة الوراثية لم يستجب له لأنه يحرم المرأة ما يوفره لها اللعان من الستر عليها وعلى ولدها، وهذا الستر مقصود للشارع لما فيه من مصلحتها ومصلحة ولدها. لكن ما اختلف فيه العلماء هو ما إذا طلبت المرأة المقذوفة أو المتهمة الاحتكام إلى البصمة الوراثية هل تجاب إلى طلبها أم لا؟ ورغم أن أكثر العلماء قالوا: لا يجاب طلبها ويكتفى باللعان لأنه هو الذي شرعه الله لعلاج مثل هذه الحالة فيوقف عنده ويقتصر عليه ولا يتعداه، إلا أنني أرجح أن يستجاب للمرأة في هذا الطلب على أساس أنها لا تفعل ذلك إلا إذا كانت متيقنة من براءتها وتطلب اللجوء إلى وسيلة علمية مقطوع بها تدفع التهمة بها عنها وتحفظ بها حقها ولا تعتدي على حق إنسان آخر».
وأنهى كلامه بأن من حق المرأة طلب الاحتكام إلى البصمة لإثبات أمور ثلاثة في غاية الأهمية شرعاً أولها: تبرئة نفسها من التهمة المنسوبة إليها وهذا أمر يحرص عليه الشرع بألا يُتهم بريء بما ليس فيه، وثانيها: إثبات نسب ولدها لأبيه وهذا حق للولد، والشرع يهدف إلى إثبات الأنساب ما أمكن، والثالث: إراحة نفس الزوج وإزاحة الشك من قلبه بعد أن يثبت له بالدليل العلمي القطعي أن الولد الذي اتهمها بنفيه منه هو ابنه حقاً، وبذلك يحل اليقين في نفسه محل الشك والطمأنينة مكان الريبة وبهذا تستفيد الأطراف الثلاثة بهذا الإجراء الزوجة والزوج والولد. فهذا أمر يحقق هذه المصالح كلها وليس فيه ضرر لأحد ولا يعارض نصاً شرعياً، وبالتالي لا ترفضه الشريعة بل إنه متفق مع مقاصدها. وإذا طلبت الزوجة من القاضي الشرعي أو من المحكمة الشرعية الاحتكام إلى البصمة الوراثية فالواجب أن نستجيب لها.
لا مانع
ويفتي مفتي مصر الدكتور علي جمعة بأنه لا مانع من الاستعانة بتحليل البصمة الوراثية لإثبات نسب الابن داخل إطار الزوجية وذلك بعدما جاءت إليه كثير من الطلبات الواردة من مجلس الشعب المصري والخاصة بتعديل وإضافة عدد من المواد إلى قانون الأسرة والتي تفيد في مجملها بضرورة إلزام الزوج بإجراء تحليل البصمة الوراثية في حالة إنكاره نسب الابن، وذلك بناءً على طلب من الأم المدعية. وفي حالة رفضه الخضوع للتحليل يعتبر ذلك قرينة على ثبوت نسب الابن له. وأصدر جمعة فتوى تنص على أنه لا مانع شرعاً من إلزام المنكر سواء أكان الرجل أو المرأة بإجراء تحليل البصمة الوراثية عندما يدعي أحدهما أو كلاهما قيام علاقة زوجية بينهما في ذاتها بشهود أو توثيق أو نحوهما، وكذلك الحال في وجود عقد فاسد بينهما وهذا لإثبات نسب طفل يدعي أحدهما أو كلاهما أنه ولد منهما. وفي حالة رفض المدعي عليه إجراء التحليل المذكور يعد الرفض قرينة قوية على ثبوت نسب هذا الطفل له.
التحليل بدلاً من الملاعنة
ودعا مفتي مصر السابق الدكتور نصر فريد واصل إلى اعتماد التحليل الوراثي بديلاً من اللعان لتحقيق النسب بنتيجة قطعية لا تقبل الشك، خاصة أن التحليل الوراثي أصبح قطعي الثبوت في قضايا النسب ولا عبرة الآن بحلف الزوج على زوجته ليتبرأ من نسب ابنه ما دامت هناك وسيلة تؤكد ذلك النسب أو تنفيه خاصة أن مجال العلم القطعي أكد بما لا يدع مجالاً للشك أن التحليل الوراثي لا يحدث فيه خطأ ونتيجته يقينية بإجماع الأطباء المتخصصين، وبالتالي يصبح استخدامه في قضايا النسب أوجب من اللعان. ويمكن أن يتم التوقف الآن عن الأخذ بقضايا اللعان بين الزوجين لأنه ظني في التصديق ولأن هدفه الذي شرع من أجله هو إثبات النسب وهو ما لا يحققه قطعياً، على أن يؤخذ بالـتحليل لكونه قطعي النتيجة أمام القضاء. ويمكن للقاضي أن يمنع قبول اللعان ويقضي بالتحليل الجيني إجباراً للزوجين على اثبات النسب في حالة إنكار الزوج، وحتى لو كانت هناك دعوى لعان مقامة وتم الأخذ بها وأثبت التحليل الجيني النسب فإنه يؤخذ بالتحليل ولا ينفي اللعان النسب.
محافظة على الأنساب
ويؤيد الشيخ عمر الديب وكيل الأزهر السابق إلزام الأب بإجراء تحليل الحمض النووي إذا ما أنكر نسب طفل تقول زوجته إنه ابنه لأن تلك الفتوى تمنع كثيراً من القضايا التي يضيع بسببها العديد من الأبناء. ويجوز اللجوء الى هذا التحليل في حالة التنازع على نسب الطفل من عقد زواج، لكن لا يجوز اللجوء إليه في حالة الزنى لإثبات نسب الابن لأن الشرع يقضي بعدم نسب ولد الزنى إلى أبيه، ولا يعترف بما ينتج عن الزنى من أبناء. ومن المعروف أن الشرع يأمر بحفظ الأنساب ويحث دائماً على الأخذ بالوسائل التي تؤكد الصلة بين الابن وأبيه وتنزع الشك في نسبه ما دام قائماً. وقد أقر الأطباء أن هذا التحليل دقيق جداً ويشترط أن يقوم به أناس أمناء، فهذا لا يتعارض مع الدين والمهم في هذه المسألة هو الدقة الفائقة وعدم وقوع أي خطأ.
يجوز لإثبات ابن الخطيئة
لكن الدكتور محمد رأفت عثمان عضو مجمع البحوث الإسلامية يذهب إلى جواز اللجوء لتحليل البصمة الوراثية في إثبات نسب الابن لأب ارتكب الخطيئة مع امرأة غير متزوجة لأن في ذلك إنقاذاً للابن من العار الذي يلحق به طوال حياته كما أن هناك علماءً ومنهم ابن تيمية وابن القيم قالوا بجواز نسب ولد الزنى إلى الزاني إذا كانت المرأة غير متزوجة، ولهذا فإن استخدام تحليل البصمة الوراثية لإثبات نسب الابن سواء داخل إطار الزوجية أو خارجها جائز شرعاً بالاستنادإلى أن الاختبار الوراثي يعطي نتيجة تقترب إلى اليقين في نسب الأبناء وإقرار حقوقهم. ويشترط أن يحتاط في عملية إجراء الاختبارات الوراثية فتقوم به أكثر من جهة دون علم بالقضية وأطرافها.
الدين يرفضه
واعترض الدكتور محمد الدسوقي أستاذ الشريعة في جامعة القاهرة على القائلين بابدال اللعان بالتحليل الوراثي وذلك لأن الله جعل اللعان مجالاً فقط للإشهاد على جريمة الزنى دون حضور أربعة شهود، كما أن اللعان نزل به كتاب الله لأن الزوج يدخل بيته في أي لحظة وحينما وجد في كتب السنة أن أحد الصحابة وجد مع زوجته رجلاً فذهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحكى له فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم «البينة أو حد في ظهرك» فرد الصحابي: سينُزل الله ما يبرئ به ظهري. ونزلت فيه آيات اللعان. و«بناء على أن اللعان ثابت في القرآن أرفض أي محاولة لتغيير تطبيقه أو حتى إبداله بتحليل البصمة الوراثية، فمهما كانت دقته فإن القائمين به يمكن أن يلحق الشك بهم أو الخطأ في ظل احتمال استبدال التحاليل ببعضها حتى ولو كان احتمالاً ضعيفاً. وإذا كان الله جعل اللعان للزوج فقد جعل للمرأة الدفاع عن حقها لإبطال لعان الزوج وقد حدث هذا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حين تم اللعان بين الطرفين فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أحدهما كاذب وحسابه على الله».
شروط المجمع الفقهي
ونظراً لأهمية هذه القضية لأنها مرتبطة بالأنساب فقد سبق أن ناقشها المجمع الفقهي الإسلامي في مكة المكرمة وعرّف البصمة الوراثية بأنها المادة الوراثية الموجودة في خلايا جميع الكائنات الحية وهي التي تجعل كل إنسان مختلفاً عن غيره، وهو ما يعرف بالحمض النووي. وقال المجمع إنه لا يجوز للزوج أن يعتمد على البصمة الوراثية لنفي نسب من تلده زوجته وإنما طريق ذلك اللعان بشروطه الشرعية، ولا يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية بدعوى الاستيثاق من صحة من ثبت نسبهم شرعاً ولكن لا بأس بالاعتماد على البصمة الوراثية في حالات التنازع على مجهول النسب سواء أكان التنازع على مجهول النسب بسبب انتفاء الأدلة أو تساويها، أو كان بسبب الاشتراك في وطء الشبهة ونحوه. وكذلك في حالات الاشتباه في المواليد في المستشفيات ومراكز رعاية الأطفــال ونحوها، وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب، وكذلك في حالات ضياع الأطفال واختلاطهم بسبب الحوادث أو الكوارث أو الحروب وتعذر معرفة أهلهم أو وجود جثث لم يمكن التعرف علــى هويتها، أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب والمفقـودين.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024