الفنان بلال بصل يفتح شرفات باريس

إسماعيل فقيه (بيروت) 14 أكتوبر 2017

تتميز أعمال الفنان اللبناني الشاب بلال بصل، بخصوصية لافتة وفائقة، ذلك أنها تحتوي على مزيج من الحياة وإمكاناتها المتخيلة والمستحيلة، ربما. فقد استطاع التقاط الزمن ببصره وبصيرته، شدّ على وتر البصر جيداً، فأعطى له إيقاعاً وصورة مفتوحة على الصور. مرآة واسعة النطاق والعناق والشعور والأحاسيس في لوحة الفنان، ربما كانت كافية لرسم مشهد الخيال وتثبيته وفق نظام اللون والشكل الثابت والمتحرك. وفي تجربته الجديدة، أو عمله الأخير، نسج بصل مشاهد أخرى للحضور الكوني، من خلال مشاهد عابرة التقطتها نظراته، إن في الأرض أو في السماء. وكانت (شرفات) المدينة باريس هي المشهد الأكبر والأجمل في معرضه الأخير.


الفنان التشكيلي بلال بصل من مواليد بيروت عام ١٩٧٣، يقيم ويعمل في باريس.
حاز دبلوماً في الرسم والتصوير من كلية الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية سنة ١٩٩٩. انتقل بعد ذلك إلى باريس، حيث درس فن الحفر والطباعة في المدرسة العليا للفنون التطبيقية École supérieure des arts appliqués Duperré Paris، وهو يعمل الآن في مجال الفن والإعلان.
أقام معرضه الأول سنة ٢٠٠٠ في بيروت. وشارك في عام ٢٠٠٢ في بينالي الحفر في سيول The 12th Space International Print Biennial Seoul الذي منحه جائزة الانتقاء وعُرض عمله في متحف Sungkok هناك. منذ ذلك الحين، يشارك في العديد من المعارض الفنية الجماعية، بين لبنان، فرنسا، تونس، إسبانيا، ألمانيا وكوريا. عضو في جمعية الفنانين للرسم والنحت في لبنان، وفي بيت الفنانين La Maison des Artistes في باريس.
أنجز الكثير من الرسوم الفنية للعديد من المؤسسات الصحافية، مجلة النقّاد التي كانت تصدر من بيروت، مجلة اللوموند ديبلوماتيك بنسختها العربية في فرنسا، مجلة العربي الكويتية وغيرها. يولي اهتماماً خاصاً لرسوم الأطفال، التي نشر نماذج كثيرة منها عادت عليه بجائزتين. كما ساهم في دعم المادة الفنية البصرية الموجهة للطفل العربي، وهو حالياً عضو في لجنة التحكيم في متحف رسوم الأطفال على الإنترنت Le Muz في فرنسا. يكتب في النقد الفني في مجلات ثقافية عدة، منها مجلة العربي الكويتية، تراث الصادرة في أبو ظبي، وماغازين إن الكورية الجنوبية.

- «إفتح نافذتك...» عنوان معرضك الأخير، ماذا تخبرنا عن تلك النوافذ التي تقصدها؟
حين وصلت الى فرنسا  في مطلع هذا القرن قادماً من لبنان، كان أول ما استقبلني هناك واجهات المباني الباريسية، وبخاصة تلك النوافذ المتعددة الأشكال والأحجام، التي اعتدت مشاهدتها في بيروت. هكذا تجددت حينها علاقتي القديمة مع النافذة، وأحيت ذكرى حميمة أشرت إليها في مقال كتبته عن الحياة الفنية في باريس قائلاً: «لطالما عنت لي النافذة في حياتي الكثير، فمن خلالها كنت أسترق النظر في طفولتي لأشاهد الطرقات الفارغة، بعد سماعي مجبراً سمفونية من أصوات الرصاص والقذائف، التي كانت تعزفها الميليشيات المتقاتلة خلال الحرب الأهلية اللبنانية، مجبرةً الكبار والصغار على حجز أماكنهم في ملاجئ الأبنية الأقرب إليهم... ومن نافذة الطائرة المحلقة فوق الشواطئ اللبنانية ومن ثم مياه البحر الأبيض المتوسط، شاهدت بيروت من السماء، مدينتي التي قسا عليها الزمن، تبتعد شيئاً فشياً وتختبئ بجمالها وسحرها خلف السحاب، وأنا أغادرها مع بداية الألفية الثالثة، متجهاً نحو العاصمة الفرنسية... ومن نافذة أخرى، شاهدت ضوء القمر يتسلل إلى داخل أحد المباني القديمة على هضبة مونمارت، إحدى أبرز معالم باريس، ليضيف سحراً خاصاً الى هذا البيت العتيق والمرسم الهادئ...».

- كأنك سائح في أرض الجمال والدهشة من خلال النافذة؟
صحيح هذا الانطباع. نعم، إنني سائح أتمتع بجمال المكان والزمان من وراء النافذة.
لقد مرت سنوات وأنا أتأمل النوافذ الباريسية، أعاين تفاصيلها، تقاسيمها، أشكالها وحالاتها المتعددة. وفي هذه الأثناء، بقيت الحرب ومشاهدها ماثلة أمامي، ومعها الأحاسيس والانفعالات التي عشناها ونحن نتوسل طريقة للوصول تحت القذائف إلى أقرب ملجأ. ورغم المأساة، كانت عيني تلتقط صوراً إيجابية ما زلت أحتفظ بها في ذاكرتي، بخاصة تلك التي تُظهر كيف أن حب الحياة والبقاء، يلغي الفوارق الاجتماعية والطبقية، فمن كنت أراه يمر فوق الأرض في الأمس وأنفه في السماء، أصبح اليوم تحت الأرض في الملجأ، يتقاسم الخوف والرغيف وقطعة الجبنة مع جاره البسيط، متمنياً كغيره أن تضع الحرب أوزارها، عل بيروت تعود الى سابق عهدها، بيروت القديمة، لؤلؤة الشرق كما يعرفها كثيرون، أو مدينة العيش المشترك من دون تعصب وتفرقة كما كانت قبل الحرب، ولا أزال أحلم بأن تُبعث من تحت الرماد.

- هل عملك هذا هو تجربة فنية تشكيلية متعددة الوجوه والمواقف، أي أنك أردت مقاربة التفاصيل الكثيرة لتصل الى الشكل الواسع، الحاضن خصوصية في حياتك؟
لا شك أنني سعيت بعمل الفني التشكيلي الى تشكيل مشهدية مفتوحة على المدى الأرحب. فقد كنت وما زلت متيقناً أنني سأخوض تجربة تشكيلية ستكون النوافذ محورها الأساسي يوماً ما. لكن، لم أرغب في أن أتناولها فقط من الجانب الفني المجرد، بل أردتها أن تنبض بتجربتي الشخصية. لم يكن هدفي قط أن أتوقف مجدداً عند الحرب وما حفلت به من معاناة، وهو موضوع عالجه كثيرون؛ بل كان همي الأساسي البحث عن سبل إبعاد شبح الحرب وبسط الأمن والسلام... كانت هذه الفكرة الأساسية التي شغلتني. ومرت الأيام مسرعة، ولم ألبث أن وجدت تلك العلاقة بين ما أردت الحديث عنه وبين فكرة النافذة نفسها. هكذا ولدت مجموعة نوافذ عام ٢٠٠٨، بتخطيطات بسيطة لنوافذ متقاربة، ما لبثت أن تطورت مع الوقت.

- النافذة التي يطل منها الفنان بلال بصل ربما هي نافذة مفتوحة بالشكل والمضمون. وربما أيضاً هي أكثر من نافذة وأوسع من باب. لماذا هذه النافذة (الباريسية) في مبنى أو هيكل أيامك ونشاطك وفنك؟
قبل نحو سنة، كتبت رسالة لصديق مع صورة العمل الذي كنت أشتغل عليه حينها. وسأختتم هذه الأسطر بمقتطفٍ من رسالتي تلك عساه يلخص الفكرة العامة لمجموعة (نوافذ…) . «النافذة هي عنصر البحث الأساسي في هذه المجموعة. تلك الفتحة المتعددة الأشكال والمقاسات، التي تسمح لنا بالدخول بصرياً إلى فضاء أي بيت، والخروج بصرياً إلى ما يحيط بنا... إنها قناة التواصل الدائم مع الآخر، ففي حين تبقى الأبواب مقفلة، تظل النوافذ مفتوحة، فعلياً أو مجازيا لأن النافذة الموصدة تبقى مشرعة على دلالات رمزية عديدة.
للنافذة جمالية فريدة. قد يشف زجاجها ليكشف لنا، في آن واحد،  الداخل، بتفاصيله، وأحلامه، وتعقيداته، وأسراره كلها، والخارج  الذي ينعكس على سطحها، بمعالمه، وسحره، وأسئلته، وآلامه.
تسعى هذه المجموعة الى التقاط  صفوة ما أحببته وعشته في باريس، وهو وجه آخر لما عشقته في الحلة التي تزينت بها بيروت الستينات، لكن الزمن حرمني من أعيشه وأتأمله عن كثب... هذا العشق، في الحالتين، هو اللوحة البصرية التي ترسم باللون والضوء، التعايش بين الأديان والأفكار الثقافية والسياسية كافة في مبنى واحد (المبنى هنا متعدد الدلالات فهو يرمز الى الوطن، المدينة، الشارع أو هو مبنى فعلي يقوم هنا أو يرتفع هناك). لكل منها نافذته الخاصة، يخفي وراءها أسراره وهواجسه وخيالاته، يقفلها أو يفتحها، لكنها تبقى أداتنا الأساسية لإثراء جمال المشهد العام... وحين تسود المحبة، والتسامح، الأخلاق والإنسانية، في الزمن الجميل الذي نحلم به، سيعمّ الفرح ونقترب من بعضنا، فتتقارب نوافذنا وتتعانق، غير مبالية بالخطوط الهندسية والحسابات التقليدية».

- لماذا ترسم وتلون. ما الدافع الأساسي الذي حرضك لترسم وتعبر باللون والشكل والخطوط؟
أجدني أمام سؤال كأنه يقول لماذا تأكل وتشرب. لماذا تتنفس وتمشي وتحيا وتنام... ثم أنني أعيش في عيني ويدي، وأرى العالم يعبر في أيامي وشراييني... أشمر دائماً عن قلبي وأبدأ بالعمل والحب.

-  الحب؟ تعيش الحب، ما هو الحب في حياتك وأيامك وغربتك وسفرك وحضورك وغيابك؟
الحب هو العقل والزمن والميزان، وهو الجنون المفتوح على العالم. يأخذني الحب الى قلبي، وكلما وصلت الى ذاتي أجدني في قلوب الناس.