أليف شافاك تسأل في «حليب أسود»: هل يمكن الكاتبة أن تكون أمّاً؟

مايا الحاج 22 أكتوبر 2017

أن تكون كاتباً يعني أن تكون منعزلاً، وحيداً، أنانياً، لا يُشاركك فعل الإبداع أحد آخر غير سكّان مخيلتك. عالمك الخاص يتغذى من حيوات الآخرين، تراقبهم لكنك لا تملك وقتاً كي تُجاريهم. تكتب عنهم من مكانك البعيد داخل غرفة هادئة، أو على طاولة في ركن بعيد من المقهى. الكتابة إبداع يتغذّى بالوحدة ويُجوهر بالتفرّغ. يمنحك متعة هائلة شرط أن تمنحه حياتك كاملةً. فهل يمكن امرأة اختارت عملاً بهذه المواصفات العجيبة أن تكون زوجةً وأمّاً. وإن استطاعت أن تكون فعلاً ابنةً وصديقةً وزوجةً، لأنّ الآخرين من حولها سمحوا لها بذلك وأعطوها ما تريده من حرية وراحة واستقلالية، فهل يمكن أن تنجح بدور الأم الذي لا يتحقّق إلاّ بعدما تذوي الأم في رعاية طفلها ومنحه كلّ ما لديها من حبّ ووقتٍ وطاقة؟

هذه الأسئلة وغيرها سرعان ما تتفتّح في ذهن القارئ وهو يقرأ التركية أليف شفق أو شافاك (كما ورد اسمها بحسب المترجم)، في كتابها «حليب أسود» (دار الآداب)، ترجمة محمد درويش، هي التي عانت أزمة نفسية صعبة بُعيد حملها بابنتها الأولى زيلدا.

كانت أليف شافاك، الكاتبة الناجحة، بعيدة تماماً عن فكرة الزواج، وبالتالي الأمومة. لكنّ سؤالاً طرحته عليها آغا أوغلو خلّف فيها موجة من الأسئلة أولها: هل يمكن أن أصير «ماما»؟ ويستمرّ صدى هذا السؤال إلى أن تلتقي بزوجها وتجد نفسها منساقة الى مؤسسة لطالما رفضت الانتساب اليها. «أيمكن المرأة أن تكون أمّاً جيدة في الوقت نفسه؟ أأريد أن أنجب أطفالاً؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فمتى ولماذا وكيف؟» (ص: 90)

وفي إطار بحثها عن جواب شافٍ، تستعرض شافاك سيرة كاتبات نجحن في هذه المعادلة، وأخريات فشلن فيها. تتذكر سيلفيا بلاث التي تزوجت من الشاعر تيد هيوز، وزيلدا فيتزجيرالد زوجة الروائي سكوت فيزجيرالد، وتحكي كيف أنّ الأولى أنجبت ولدين، والثانية طفلة واحدة، لكنّ زواجهما كان مقبرتهما. قضت بلاث منتحرة، وزيلدا محترقة في مصحة للمرضى النفسانيين.

أما مورييل سبارك فهي من أكثر المؤلفات الإناث تأثيراً في القرن العشرين، كتبت أكثر من عشرين رواية، وألّفت أعمالاً مسرحية وقصصاً للأطفال، وعندما رحلت حضر جنازتها أصدقاء وكتّاب وناشرون وصحافيون، ما عدا ابنها روبن، ما يعني أنها فشلت في أن تكون أماً حقيقية، على علاقة ودية بابنها. تروي كيف أنّ أخريات احترمن خصوصية مهنتهن فرفضن الزواج والأمومة، من بينهن دوبوفوار التي فضّلت عدم الإنجاب لأنّ الكتابة تتطلب تفرغاً وحرية وأنانية وأشياء أخرى تنتفي تلقائياً مع الأمومة.

وفي مقابل هذه النماذج، تحكي شافاك عن بيرل باك، التي تبنّت أطفالاً وأسست «دار مرحبا للتبني» من دون أن ينخفض مستوى غزارتها ونشاطها الأدبي. وجي كي رولينغ هي أيضاً من الكاتبات اللواتي شكلت أمومتهن مصدر إلهام لهنّ، فاستطاعت بعد ولادة طفلتها أن تكتب سلسلة «هاري بوتر» الشهيرة، فكانت أمومتها دفعاً لها الى الأمام.

استحضرت شافاك بأسلوب روائي يمزج بين الواقع والخيال، حياة بعض زوجات الكتّاب اللواتي تجاهلن رغباتهن الذاتية من أجل تأمين بيئة مثالية لـ «الكاتب - الذكر». تكتب عن زوجة ليو تولستوي التي قضت حياتها إمّا حاملاً أو مرضعةً، فأنجبت له ثلاثة عشر ولداً، واهتمت بكل تفاصيلهم وتفهمت مزاج زوجها الذي أبدع- وسط عائلته الكبيرة- روائع الأدب العالمي. في «حليب أسود»، تزاوج شفق بين الحقيقة والخيال والتوثيق لتروي تجربة شخصية بأسلوب شفاف لا يخلو من استعراض ثقافتها الواسعة، لتصل بنا في النهاية الى ان الأزمة التي اختلقتها لنفسها ربما انتهت بأن صارت أماً لطفلين، هما زاهر وزيلدا، وكاتبةً من أشهر الكتاب وأكثرهم مبيعاً.