الفنان السوري أيمن زيدان: الإنتاج اليوم مزر ومخيب للآمال

آمنة بدر الدين الحلبي (دمشق) 25 نوفمبر 2017

مبدع من الطراز الرفيع، وصاحب رسالة تضيء من بين همسها بصمته المتفردة في عالم المسرح والسينما والدراما، كأنها مشكاة فيها مصباح حتى غدا فنه بملامح خاصة، وأبجديته بأسلوب متجدد يحمل بين طياته منجزات لفنون إبداعية، وتفتقت مواهبه عن أعمال درامية ضخمة فاح منها عبق الإبداع الشامي في السلم والحرب... حتى رسم بالكلمات ليعبّر عن عشقه لوطن الياسمين، واشتياقه لفلذة كبده.
الفنان المبدع أيمن زيدان جدّد عشقه الأول للمسرح في يوم المسرح العالمي الذي صادف 27 آذار/مارس بمسرحية «اختطاف» المقتبسة عن «الأبواق والتوت البري» للمسرحي الإيطالي «داريو فو» واختطف جزءاً من ذاكرتنا وأعادها لأكبر فنان مسرحي إيطالي، حيث حمل على متن الاختطاف ضمّات ياسمين، على بتلاتها نقش أملاً كبيراً لغد أفضل، نظراً لاهتمامه بالعدالة الاجتماعية أكثر من السياسة، في مجتمع كسرت مفاصله الحرب، واليوم يخطط لفيلم جديد من إخراجه تحت عنوان «النورج»، لا يزال غارقاً في دراسته والبحث عن مواقع تصويره... التقته «لها» لتغوص في تجاربه الجميلة، ومنجزاته الإبداعية.


- أكاد أشم رائحة تاريخنا السوري القديم وعبق سنابل القمح وأسمع أنشودة المطر من فيلم «النورج»، ما الرسالة الذي يحملها للمتلقي؟
في «النورج» رغبة جامحة لنحمي أرواحنا من ارتدادات الحرب المجنونة، ونعبر عبر ثنايا الوجع الذي رمته على أرواحنا الى فسحة أمل نسرقها من قسوة اللحظة.

- ما يدور في الفيلم يحمل قسوة سبعٍ سنوات عجاف؟
لا أحب أن أحكي عن الفيلم، لكنني أؤكد أنني ذهبت إليه بروحي وتجارب حياتي، بأحزاني وأحلامي، بهزائمي وفرحي وإحباطاتي، شرط أن يكون الحلم معجوناً بالصدق.

- حينَ لاح طيفه صدحت أنشودة المطر، هل يتدثّر الفنان أيمن بعطر الحلم؟
لا بد للحلم من أن يظل شريكاً لخيباتنا، وأراه في كثير من الأحيان درعاً حقيقية لأرواحنا المنهكة. أحلام «النورج» توقٌ للضوء في نفق كل الوجع.

- في ظل حرب قاسية في فيلم «النورج»، كتبت: «كانت أمينة تلملم شذرات أمل وترميها في درب سهيل المسجّى على كومة من اليأس»... هل سمحت لليأس بأن يمر في مفاصل روحك؟
اليأس في كثير من الأحيان لا يستأذن أرواحنا حين يقرر أن يتسلل إليها. في الفن نحاول أن نعيد إنتاج اليأس بعرض تجارب مؤثرة حتى ولو كانت مرّة.
أما صراعنا مع اليأس فهو صراع يومي، لا بل لحظي. يهزمنا حيناً ونحاول أن نهزمه أحياناً. لا أدري إن كان سيتسلل إلينا في «النورج»، لكنني سأظل وفياً للأمل الذي يُكسبنا معنى الحياة قدر المستطاع.

- تلعب بطولة فيلم «مسافرو الحرب» للمخرج جود سعيد، هل يكمل البطل رحلته مع المسافرين ويصل إلى قريته، أم سيبقى غريباً؟
في فيلم «مسافرو الحرب» لصديقي المخرج جود سعيد حكاية أخرى، أو ربما حلم آخر يواجه تحديات اللحظة، جرعات مفتوحة على الأمل، رغبة حقيقية في إعادة ترتيب هذا العالم القاسي، مشروع حياة يقوده رجل حالم، رجل انتظر ثلاثين عاماً من أجل حلم بسيط في أن يعود الى قريته ويكمل ما تبقّى له من عمر.

- بين الألم والأمل، هل استطعت أن تحلم وتحقق حلمك في صناعة تلك السينما الطامحة؟
لا أدري ماذا حققت، لكنني على يقين بأنه يتوجب علينا في هذا الزمن الصعب أن نكون زارعي فكر ومتعة ومعرفة، حتى لو لم نشهد مواسم الحصاد.

- ثقافة الحياة، ماذا تعني لمبدع له سطوة حضور؟
إدراك ثقافة الحياة يعني بالضرورة إدراك صيرورتها وكل تحولاتها الشديدة متكئين في ذلك على معارفنا وتجاربنا وأحلامنا. ثقافة الحياة تقضي بأن نكون صادقين وحقيقيين وخارج كل القراءات الميكانيكية والاصطفافية والإقصائية، لأن فسحة الحياة كبيرة وتتسع لنا جميعاً بكل اختلافاتنا وتناقضاتنا.

- كتبتَ عن فيلم «الأب»: «حزن عارم غمرني. حزن بدّده إصرار الأب على أن يحمل وطنه في قلبه». ماذا يعني لكَ الوطن؟
لا يمكنني التعبير عن محبة الوطن بالكلمات. الوطن حكاية حياة ومعنى وجود، ذكريات وأحبّة ودروب، عبقُ تاريخ وإرث، وحلم مستقبل. إصرار «الأب» في فيلم المخرج باسل الخطيب على أن يتدثّر بمعطف عشقه للوطن، كان كفيلاً بأن ينزع الحزن من قلبه ويجعله يواجه لحظة مصيره بشجاعة حقيقية. عشق الوطن قوة خرافية نواجه بها أشدّ التحديات.

- من هي معشوقة أيمن زيدان التي لا تغادر روحه؟
معشوقتي هي بقية أحلامي التي أخشى أن تغادرني.

- قدمت مسرحية «اختطاف» وحققت نجاحاً باهراً وحضوراً قوياً، ما الدافع لهذا الاقتباس من «داريو فو»؟
«داريو فو» واحد من المسرحيين القلائل المدهشين، أولئك الذين ينخرطون في تفاصيل الحياة وفي بنية المجتمعات المعاصرة بذكاء وعبقرية، ويتسللون عبر مساحات مفتوحة من الاقتراحات البصرية الأخّاذة والمنعتقة من القوانين الصارمة.
«داريو فو» وبجدارة هو واحد من المدافعين عن أحلام البسطاء، واحد ممن يضعون بمهارة كل الأنظمة والقوانين الجائرة على مشرحة التحليل الحقيقي.

- تلك المواكبة الجريئة لزمننا الحاضر... هي لوضع الإصبع على الجرح، أم لإحياء الذاكرة المسرحية وملاحقتها بالأسئلة؟
أي مشروع فني حقيقي هو مشروع إثارة أسئلة ساخنة وحقيقية. إن عملية إعادة إنتاج الحياة على المسرح لا تكتسب شرعيتها من دون تحريك اللحظة المُعاشة وإعادة تدويرها ضمن بنى جمالية تخلق علاقة نقدية مع المُشاهد، لكنها من حيث الوسائل مفتوحة وبلا ضفاف قسرية تُقولبها. الفصل في الأمر هو التأثير الذي تتركه هذه المحاولة أو تلك.

- من خلال العمل المسرحي ترجمتَ الألم المجتمعي لتصنع أملاً لغدٍ مشرق؟
قلتُ سابقاً، في نهاية نفق الحرب الذي دخله وطني، لا بد من ضوء. كل ما نحاول فعله اليوم هو أن نختصر مساحة النفق، ونبدّد معاً كل العتمة التي سكنت تفاصيلنا طوال سبع سنوات عجاف، ولا يمكننا أن نهزم العتمة من دون أمل، فذاك الأمل كامن في محاولات فنية تنويرية وصادقه.

- ما مدى تأثير تلك الحرب في الإنتاج الفني والسينمائي والمسرحي؟
الحرب بالضرورة كما أثّرت سلباً في كل مناحي الحياة، أثّرت في المشهد الفني السوري. ومن دون الخوض في التفاصيل، كانت آثارها عليه شبه كارثية، لأن ارتدادات الحرب لا بد من أن تطاول كل نواحي الحياة، لذلك كنت أقول دائماً: «إن إعادة الإعمار يجب أن تترافق مع هدم ما بنته الحرب».

- الحرب خلّفت آهات وانكسارات، لكن هل أنبتت في روحكَ إبداعات وأزهرت بلاغةً؟
ما أكتبه هو ظلال لما يدور حولي، فالحرب لم تُزهر في قلبي بلاغةً، بل تركت في روحي ندوباً غائرة. جيلنا لم يكن يتوقع أن نمر بما مررنا به، ولم يخطر في بالنا يوماً أن الموت يمكن أن يشاركنا حياتنا، فيحيط بنا ويتوارى خلف الدروب والأزقة.
كنا نرسم صورة رومانسية للسنين المتبقية من أعمارنا. وعلى سبيل المثال، بعد طول عناء، شيّدت منزلاً على أطراف العاصمة وسط فسحة خضراء قصيّة تتيح لي أن أركن الى روحي وأتوحّد مع ما تبقى من أحلامي، أسمع موسيقاي وأسرق مساحات للتأمل، حتى هذا الحلم المتواضع سرقته الحرب ووجدت نفسي فجأة أعود الى ما لم أعد أحب.

- «كل وجع حكايتها لم يخفِ بساط وجنتيها القرمزي وبريق عينيها الدامعتين»، رسائل حب في زمن الحرب تحمل معاناة إنسانية ووجعاً عميقاً... لمن يكتبها الفنان أيمن زيدان؟
في الحرب يتبعثر الأصدقاء وتتغير الوجوه ويلف الحزن كل شيء. لا أملك وسط هذه المشاعر سوى أن أكتب ما أحسّ به وأرميه إما على أوراق مجموعتي القصصية الثانية «أوجاع»، أو على صفحات التواصل الاجتماعي، أو عبر جملة الأحاسيس في أدواري.
أكتب رسائل حب لتلك العاشقة التي توارت خلف غبار القذائف وضاع صوتها في أتون الحرب الملعونة. أكتب رسائل حب للعشاق الذين هجرتهم الحرب أو خطفهم الموت، أو لأولئك الذين غرقوا في لجّة اليأس. أحاول طوال الوقت أن أظل وفياً للعشق، وأدعو للبحث عنه، فهو لا يزال يقطن في زوايا دمشق وأزقّتها، ومختبئاً في ظلال القمر وفي شلحات الغيم وقطرات المطر.


المرأة السورية...

- ألم تفكر بدراسة مسلسل اجتماعي يُنصف المرأة السورية التي دمّرت الحرب أسرتها وقتلت أحلامها وتركتها مع أطفالها على قارعة الطرقات؟
من الضروري التحضير لمشاريع فنيه تسلّط الضوء على المرأة في زمن الحرب. فهي أمثولة القهر والألم، أمّ ثكلى وزوجة أرملة، وابنة يتيمة، وأخت مفجوعة... هي من أكثر الخاسرين في الحرب، لأن حربها مع الحياة لا تتوقف حتى بعد انتهائها، ولكن من سيقود هذا المشروع الفني ومن هو المعني بصياغته وإنتاجه وعرضه؟ هذا واحد من الفراغات التي لم يفكر أحد بملئها، فالحالة الإنتاجية الراهنة مزرية ومخيّبة للآمال.