9 مدن لا يزال عصرها ذهبيًا

ديانا حدّارة 24 ديسمبر 2017

عندما نقرأ في التاريخ القديم أو الحديث، نجد مدنًا وقد اندثرت من على صفحاته، فيما بقيت مدن أخرى تخطّ على سطوره حكاياتها التي لا تنتهي عند عتبات العصور، فلا الزمن تمكّن من شبابها ولا هي اكترثت لتقلّباته، بل نراها متألقة، تُدخل زائرها في تفاصيل أسرارها ليدرك أن جمالها يستحيل على أعتى الأزمنة، ويبقى في أوجّه ليدهش كل من يطأ أرضه فيشعر بأن المدينة تقول له: «ها أنا المدينة التي لا يأفل عصرها الذهبي».


باريس

مدينة تعرف كيف تُشغل حواس زائريها
لا تزال مدينة الأنوار باريس تحتفظ بسحرها، فتدخل زائرها في متاهة نمط حياتها بعفوية، ليجد نفسه يتقمص أدوار سكّانها ويطيب له أن يتبع طقوسها. فهي مدينة الحب، والتاريخ والأدب وعاصمة الأناقة ونمط الحياة الباريسية.
فالمدينة لم تخسر يومًا معناها الخيالي ووهجها الذهبي، الذي يشحن الذاكرة بصور تفور بتحف معمارية جنبًا إلى جنب المقاهي الرائعة، والبوتيكات الأنيقة والكنوز الفنية التي لا تُقدّر بثمن.
باريس التي نراها اليوم، لكل حي فيها بصمة بونابرتية. فبعد أن تولى نابوليون الحكم، أراد من هذه المدينة أن تكون عاصمة تضاهي روما جمالاً وسحرًا.
وحين توّج إمبراطورًا، جمع أبرع المهندسين وطلب منهم هدم الجسور والبيوت القديمة التي تنتشر على ضفتَي نهر السين من أجل الاستمتاع بمشهد النهر الرائع. وفي عهده، شيّد قوس النصر ومبنى البورصة وعمود الفاندوم وقنوات مياه أورك.
وخلال الإمبراطورية الثانية، أصبحت باريس مدينة مكتظة بالسكان، فطلب نابليون الثالث من جورج أوسمان الذي يعود إليه تقسيم باريس إداريًا إلى 20 دائرة، إعادة هندسة المدينة وفقًا للتنظيم المدُني، وبما يتلاءم مع متطلبات العصر، وجعلها عاصمة كبيرة تضاهي لندن بتطورها.
وبذلك هُدمت الأحياء القديمة المركزية التي تعود إلى العصر الوسيط، وشيّدت مكانها المتنزّهات الكبيرة وقسّمت المدينة تبعًا لضفتَي السين قسمين: شمالي جنوبي، وغربي شرقي، ونُظمت الشوارع في شكل مستقيم بحيث تصطف فيها الأشجار والأبنية الحجرية التي تنسجم مع روح الطبيعة الخلابة لباريس.
وشهدت العقود الأخيرة للقرن التاسع عشر اكتشافات علمية وتقنية تركت أثرها في الفن عمومًا والهندسة المعمارية خصوصًا، فبرز المعدن في الأعمال الفنية.
ولعّل برج «إيفيل» الذي بناه المهندس غوستاف إيفيل خير شاهد على هذا التحول الفني فترينه يخرق الغيوم، فيما قوس النصر يحرس الشانزليزيه الجادة الأكثر سحرًا في باريس، وكاتدرائية نوتردام، وجسور لامبليت التي تمتد على طول السين والمقاهي الفنية المصطفّة بموازاة شجر الصفصاف... صور وتفاصيل لا يمكن أن تمحى من ذاكرة أي شخص يزور المدينة.


لندن

مدينة الضباب الذي تلمع فيه ومضات من ذهب 
لندن هذه المدينة التي يصعب الإمساك بحركة الزمن فيها، وأنت تسيرين في أحيائها الفسيفسائية، مدينة متسارعة النبض رغم بطء حركة الضباب الذي يلفّها، هي مركز الفن الكلاسيكي الإنكليزي، ومملكة الأعمال والاقتصاد الأوروبية، وملجأ كل التجارب الثقافية والإثنية. إنها أكثر من مدينة وأكبر من عاصمة لمملكة كان يقال عنها «الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس»، فغابت الشمس عن الإمبراطورية وانكفأت جغرافيتها وظلت لندن عاصمة المملكة المتّحدة، بريطانيا، تروي حكايات شكسبير الذي اختارها لتكون المسرح الذي يلعب إبداعه في كواليسه.
كل تفصيل في لندن ينبئك بأنك تجولين في مدينة لم يأفل بريق نجمها الذهبي، تحكي كل يوم مونولوجًا خاصًا بها، أبنيتها الفيكتورية تتأمل في العصر الذي يرمّمها، تروي حكايات عظماء عاشوا بين جدرانها وتردّد عباراتهم، فيما جسورها تردّد عبارة ابنها إسحاق نيوتن «بنينا الكثير من الجدران، ولكن لم نبنِ جسورًا بشكل كافٍ».
أمّا شوارعها، فبدت كأنها تصادق على عبارة شكسبير «العالم كله مسرح، وجميع الرجال والنساء هم بالكاد لاعبون على منصّته. لديهم مخارج ومداخل فيها، ورجل واحد يلعب أدوارًا كثيرة في حياته».
في حين أن التسوّق يعتبر متعة، خصوصًا في مواسم التنزيلات والحسومات، فهنا تجدين آخر صيحات الموضة لأهم دور الأزياء. فإذا كنت تريدين أن تكوني السبّاقة في الموضة، فلتكن لندن بعد باريس وجهتك المفضّلة.
أما هاوية التحف والأثاث المنزلي فيكفي أن تجول في شارع 9 آبرميرل 9-Abermarle . إنها مدينة تدخلك في متاهة من بريق العصور الذي لا يخفت مهما غلّفها الضباب.  


سيشيل

معادلات جمالية لا تأبه لمعايير الزمن                
وسط المحيط الهندي، وبين قارتَي آسيا وأفريقيا، تعوم جزر صغيرة جنحت عن سرب قريناتها لتنافسها جمالاً. إنها جزرالسيشيل التي تسبح بغبطة تحت سماء فيروزية في مياه لازوردية بلورية تغري بالغوص فيها والتعرف إلى سحر العالم الساكن في أعماقها.
مرّ العرب بالسيشيل في القرن العاشر في طريقهم الى الهند. وعندما رست سفينة البحّار البرتغالي فاسكو دي غاما هناك عام 1502 كانت خالية من السكّان واستخدمها البرتغاليون أيضًا  معبرًا نحو الهند، ثم تجاذبها المستعمرون الفرنسيون والإنكليز إلى أن نالت استقلالها عام 1976.
ومهما يكن من تجاذبات سياسية وتداولات استعمارية، تشكلّ السيشيل اليوم بجزرها الـ 115 فردوسًا للسيّاح الباحثين عن ذروة الاسترخاء والسكون الذي لا يخترقه سوى وقع أمواج المحيط الكبير تتكسر عند صخورها أو تذوب على رمال شواطئها اللؤلؤية... لتعيش هذه الجزر عصرها الذهبي المرصّع بمشاهد الطبيعة الخلابة التي تجعلك تظنين أنك تجولين في عالم افتراضي لا يخضع لمعايير الزمن الأرضي، وإنما لمعادلات  جمال طبيعي ليس من السهل استيعابه. فهنا الشواطئ الرملية البيضاء، الخلجان المنعزلة، غروب الشمس المرجاني، المطاعم والمنتجعات الصحية. فمثل الحلم الجميل تتمنين لو أنه لا ينتهي.


فلورانسا

هنا حلّق الإبداع بكل وهجه
فلورانسا مهد النهضة الإيطالية والأوروبية حيث حلّق الإبداع الفني والفكري لينفض عنه رماد عصور الظلام. إنها مدينة نيقولا ماكيافيللي صاحب كتاب «الأمير».
وهي المدينة التي تفتقت فيها عبقرية مايكل أنجلو الذي قال عندما انتهى من منحوتته الشهيرة «موسى»: «أنطق يا حجر». لو كان مايكل أنجلو حيًا اليوم، لرأى أن التاريخ المحتشد في فلورانسا ينطق رغم الصمت ويراقب رغم حركة العصر التي تنساب بين أروقته، تارة بخفر وأخرى بدهشة. فهي مدينة متحف، عرفت كيف تحافظ على بريقها التاريخي المنقّح بحروف من ذهب، لذا فهي تبقى مدينة لكل زمان.


نيويورك

مدينة تكتب حكاياتها بحبر من ذهب
هذه المدينة الأميركية التي لا تنام، والتي برعت هوليوود في تصويرها، تعرف كيف تُدخل زائرها في لعبة الوقت ليضيع وسط عالمها الساحر الذي تحتشد فيه الأحلام عند بوابة الانتظار إلى أن يحين موعدها، والانتظار في نيويورك ليس طويلاً. فهي مدينة لا تشبه أي مدينة أخرى في العالم، ليلها يشبه نهارها، وكأني بسكانها في سباق أزلي مع الزمن الذي لا يبالي بمن يتخلّى عن أحلامه.
رغم الألغاز المتناقضة حول تاريخ تأسيسها وتسميتها وسكانها الأصليين، تبدو نيويورك مدينة مشغولة بكل أناقة رغم الفوضى المندسّة بين أروقتها.
أبراج شاهقة مثيرة للعجب انبثقت منذ أوائل القرن العشرين تعكس هندستها المعمارية إبداعًا فنيًا فريدًا، تبدو وهي تعانق سحب الشتاء وكأنها تتجسّس على أخبار السماء، فيما تصغي الأبنية الصغيرة إلى ما يدور في كواليس العالم الأرضي.
شوارع مزدحمة على مدار اليوم، ضوضاء بشرية في النهار وأنوار متحركة في الليل. هكذا هي نيويورك، مدينة عشقها كل من عاش فيها أو زارها.
فلا عجب في أن تتحوّل إلى ملهمة الروايات الهوليوودية وأخيلتها، لتدور عدستها بكل أبعادها بين شوارع وأنفاق وأزقة ومقاهٍ وملاهٍ ليلية تصدح موسيقى الجاز عند مداخلها. في النهاية، إنها نيويورك التي لا يمكن إسقاطها من سطور التاريح الحديث الذي يكتب حكاياتها بحبر من ذهب.


فيينا

فضاء مزخرف بالحياة المخملية
فيينا وريثة مملكة الهابسبورغ وعاصمة النمسا، ليس في إمكانها إلا أن تكون مدينة «نوستالجيا» يغمرها الحنين إلى عصر الأباطرة. قصور باروكية يتناثر في أرجائها صدى حفيف فساتين كونتيسات ودوقات يتمايلن بخفر خلال رقصة فالس.
وتصدح في فضاء مزخرف بالحياة المخملية موسيقى هايدن وشتراوس وشوبارت وموزارت الذي احتفلت المدينة في شهر كانون الثاني/يناير عام 2012 بمرور 250 عامًا على ولادته، فتتسرب ألحان هؤلاء العباقرة إلى مقاهٍ مزدحمة بروّاد ينظرون بشغف إلى تاريخ ينشر أبّهته في مبانٍ تشكّل روائع فنية لمبدعين رفضوا أن يكونوا في طي النسيان. وكذلك المدينة التي حضنتهم بقيت على حصانتها الذهبية، لتعيشي أيامًا من الترف النمسوي.


دبي

إمارة تنقش مستقبلها بروح من ذهب
من ميناء صغير لصيد اللؤلؤ يستريح على شاطئ الخليج إلى إمارة رحبة تمنح ساكينها الطمأنينة كلما رفعت برقعها ورمت غلالاتها البرّاقة المذهّبة على الخليج العربي. إنها دبي التي تدهش زوّارها بارتقائها وتطوّرها اللذين جعلاها إمارة عالمية من دون منافس.
فخلال عقدين استطاعت دبي أن تتحوّل إلى إمارة الأحلام المتحقّقة، فانبثقت من كثبان صحرائها الذهبية الأبراج العصرية الأعلى في العالم، واجتاحت شوارعها زحمة التفاؤل، واجتمع  تحت أفقها الأزرق من كل لسان وأمّة، فتمازجت فيها الحضارات والإثنيات لتكون نموذج التعايش الإنساني، وبوابة التواصل بين الشرق والغرب. فلا عجب في أن يقع عليها الاختيار في استضافة إكسبو 2020 الدولي.
كل تفصيل في دبي يجعلك ترغبين في زيارتها وتمضية إجازة فريدة من نوعها في قلب الخليج العربي. فهذه الإمارة تضج بالترف مهما كان بسيطًا، تعرف كيف تخترق متاهة العولمة وتشذّبها وتُخضعها لإرادتها.
فالمستقبل بالنسبة إليها ليس غموضًا يعبث بأحلام من يقطنها، بل هو طريق معبّدة بالأفكار المبتكرة. إنها إمارة تبهرك بكل ما فيها من سحر يعبق بسُمرة الصحراء الذهبية وزُرقة البحر. وما بين الاثنين عالم عصري يشغل المخيلة إلى ما لا نهاية.


روما

حرقها إمبراطورها لكثرة ما عشقها
روما المدينة العظيمة التي لا يمكن أن تسقط سهوًا من سطور التاريخ المكتوب، لأنها عرفت كيف تحفر في متون صفحاته وحواشيها حضارات قديمة تراكمت فيها بكل بهاء، بعضها لم تستطع عوامل الجغرافيا رغم قسوتها أن تلتهمه، وأخرى بقي منها أطلال تذكّر بالماضي غير المكتوب.
فلا عجب في أن يعشقها إمبراطورها الشاب نيرون عشقًا ساديًا حين راح يتأملها وهي تحترق، ويعزف القيثارة أثناء اصطيافه في بلدته أنتيوم، بحسب الروايات التاريخية.
وروما اليوم مدينة عصرية حيث الفن وفن الحياة فيها وجهان لمدينة واحدة. هنا تحتشد المعالم التاريخية في كل زاوية وفي كل رواق وربما في أحشاء الأرض، لتبدو متحفًا يتجاور فيه فن الحياة والروائع الفنية بحرية تاركةً العنان لك أن تجولي بين سطورها والاستمتاع بسحر أمجاد روما عاصمة العالم القديم من دون قيد أو شرط، فتنهال أمام ناظريك كل أنماط الفن الذي احتضنته هذه المدينة، لتجدي نفسك وسط مصارعة رومانية صامتة وجميلة، تتنافس فيها معالم روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية مع معالم روما العصر الوسيط، وفنون روما عصر النهضة بكل أبّهة فتحارين من أين تبدئين، فكل الدروب تؤدي إلى روما، وما عليك إلا أن تعيشي معنى الدولتشي فيتا.


بطرسبورغ

تحفة لا تخشى على كنوزها عوادي الزمن
بطرسبورغ هي عاصمة قياصرة الإمبراطورية الروسية تشاطر نهر نيفا الذي يخترقها تاريخًا قديمًا، يقرآن أوراقه كلّما هبّت ريح الزمان وقلّبت فيها، غير آبهَين بتبدّل أمزجته، يحفران في تجاعيده قصصًا جميلة تمنح كهولة الزمن إكسير الشباب ليجدّد رونق المدينة، وسحرها مع كل بزوغ لخيوط الشمس الأرجوانية، وهي تجتاح القباب المذهّبة، فتتحوّل المدينة إلى متحف لا يخشى على كنوزه عوادي الزمن، بل يعرضها بأبّهة القياصرة، وترف الحياة المخملية التي انفلتت من سيرورة التاريخ، متحديةً شيوعية الثورة البولشفية، ورمادية تقشفها، لتبقى ساكنة في قصور باذخة الفن متناثرة في كل أرجاء بطرسبورغ.
إنها مدينة تفور جمالاً، يحوّل برد الشمال الأوروبي إلى دفء يسكن بين أبنيتها التي جاءت على النمط الفن القوطي، بأبّهته وأروقة عيشه المخملي حيث ثرثرة الأميرات تختلط بحفيف فساتينهن، وقلق الأمراء والضبّاط من أحلام بونابرت التوسعية، وموسيقى «كسّارة البندق» لتشايكوفسكي تصدح في فضاء الأوبرا لتتمايل على أنغامها أجساد رشيقة، تكسر رتابة الزمن الشيوعي. تعرف بطرسبورغ كيف تجعلك شغوفة بها إلى حد الخدَر.
فلا عجب في أن تكون بطرسبورغ المدينة التي تفتّقت فيها قريحة الشاعر ألكسندر بوشكين، والتي اختار العيش فيها حتى مماته رغم أنه وُلد في موسكو.
وهي المدينة التي تبدأ فيها أحداث رواية «الحرب والسلم»، إحدى روائع الأدب الروسي لـ ليو تولستوي، وهي المدينة التي تعرّف فيها فيودور دوستويفسكي إلى آداب عصر النهضة الأوروبية فأبدع في روايته «الإخوة كارمازوف».
والمفارقة أن جميع هؤلاء الأدباء ولدوا في موسكو، وعاشوا في بطرسبورغ، وماتوا فيها، فكأنما المدينتان تتنافسان بصمت يشبه جدل التاريخ الروسي، ولكن بقيتا محافظتين على عصرهما الذهبي بكل نقوشه الأدبية والمعمارية.