مريض الهيموفيليا في مواجهة مع المجتمع...

المجتمع السعودي, الهيموفيليا, د. كلوديا خياط, الأمراض الوراثية, عقد نفسية, ممارسة الرياضة, مريض / مريضة, الوراثة

04 أبريل 2011

تترقب كل أم اللحظة التي يمشي فيها طفلها وتتلهف لرؤيته يخطو خطواته الأولى، لكن الأمر يبدو مختلفاً لأم طفل مصاب بالهيموفيليا لأن اللحظة التي يمشي فيها هي بالنسبة إليها بداية المتاعب والصعاب إذ يزداد احتمال تعرضه لإصابات تسبب له النزف الذي يعتبر أكثر صعوبة في حالته وتصعب السيطرة عليه. لكن مع تطور تقنيات العلاج، باتت حياة مريض الهيموفيليا أكثر سهولة ويمكن أن يعيش حياة طبيعية لا يؤثر فيها مرضه. 
صحيح أن لا وجود لعلاج نهائي للهيموفيليا ولا يمكن الشفاء منه، لكن بفضل الوعي وحسن الإدارة يمكن التعايش معه فيتحدى المريض المجتمع الذي يضع له حواجز، مثبتاً قدراته وتفوقه على الأصحاء في مجالات عدة. وعي الأهل ركيزة أساسية للتغلّب على المرض.
كما أن تفهمهم للحالة وحسن تعاملهم معها بواقعية ينقلان الطفل إلى بر الأمان ليعيش حياته كأي طفل آخر. تجربة المرضى مع الهيموفيليا تحكي عن تجارب صعبة مع المجتمع أكثر منها مع المرض نفسه، وإن كانت للمرض مضاعفات ونتائج تجعله عبئاً على المريض وعلى عائلته.
فنظرة المجتمع إلى المريض تزيد صعوبة وضعه وتضع له حدوداً تسجنه ضمنها فيجد حواجز تمنعه من أن يعيش حياةً طبيعية كأي شخص آخر. هذا، إضافةً إلى المعاناة التي يعيشها بسبب حالته عندما يجد صعوبة ً في تأمين العلاج.
لكن، كما لو أن المرض نفسه يعطي قوةً ودفعاً لمن يعانيه، نجد أن المرضى يتحلّون بمزيد من الاندفاع والحماس، فيبرعون في مجالات معينة وكأنهم يثبتون بذلك للمجتمع أنهم يتمتعون بقدرات كالأشخاص الآخرين، لا بل أكثر.


د. كلوديا خياط: وجع المريض نفسي وجسدي

لا شك أن تداعيات الهيموفيليا الجسدية والصحية لا يستهان بها، فللإهمال نتائج وأضرار لا يمكن الرجوع فيها إلى الوراء.
عن حقيقة المرض، تحدثت الاختصاصية في أمراض الدم د. كلوديا خياط موضحةً أن الهيموفيليا مشكلة في سيلان الدم ناتجة عن نقص في بروتين معين بحيث أن أي جرح للمريض لا يلتئم فيستمر النزف في حال عدم تأمين البروتين الناقص. علماً انه يمكن أن يتعرض المريض لجروح لمجرد قيامه بنشاط طبيعي كالسقوط أثناء اللعب.

- كيف تنتقل الهيموفيليا بالوراثة؟
تنتقل الهيموفيليا بنوعيها AوB إلى طفل من خلال الجينة التي تحملها الأم. علماً أن الإناث يحملن الجينة لكن لا يصبن بالمرض الذي يصيب الذكور حصراً. فإذا كانت الحامل تحمل الجينة، يصاب ولدها بالمرض، أما إذا نقلته إلى ابنتها فستكون حاملة للمرض.
أما إذا كان الوالد هو المصاب بالهيموفيليا فلا يكون أي من أولاده مصاباً بل تكون كل بناته حاملات الجينة المصابة، علماً أنه ثمة عائلات فيها 5 أولاد، جميعهم مصابون بالمرض.

- أليس من الممكن أن تعرف الفتاة مسبقاً ما إذا كانت تحمل المرض حتى لا تنقله إلى ولدها؟
من الممكن معرفة ما إذا كانت الفتاة تحمل المرض. أيضاً، في حال وجود حالات في العائلة، يمكن فحص الجنين خلال فترة الحمل للتأكد مما إذا كان مصاباً بالمرض.

- في أي سن يتم عادةً اكتشاف مرض الهيموفيليا؟
يتم اكتشاف الهيموفيليا عادةً في سن 9 أشهر إلى سنتين من خلال فحص عينة من الدم يظهر فيها نقص في أحد عوامل التخثر. لكن أحياناً لا يتم اكتشاف الهيموفيليا خفيفة إلا بعد أن يخضع المصاب للجراحة ويتعرض لحالة نزف حادة.

- كيف تتم المعالجة الحديثة لمريض الهيموفيليا؟
تطور علاج الهيموفيليا بشكل ملحوظ . ففي الماضي لم تكن تتوافر العلاجات المناسبة، وكان يعتبر إنجازاً أن يبلغ المريض سن 30 سنة. أما اليوم فيمكن أن يعيش المريض حياةً طبيعية بفضل العلاج والتثقيف.
وتتوافر حالياً أدوية كثيرة تسمح بتقوية العضلات لأنه بقدر ما تصبح العضلات أقوى يقل النزف.
إضافةً إلى ذلك، من الطبيعي أن يكون البروتين الناقص في دم المريض هو أساس العلاج  لمنع النزف نهائياً، من هنا أهمية تأمين البروتين بشكل دائم. ويتم البحث حالياً في اعتماد العلاج كوقاية لتجنب النزف، لكن هذا يتطلب تأمين كميات كبرى من البروتين الناقص. في كل الحالات، من المهم التعامل بواقعية مع المرض وبوعي.
يجب أن يتفهم الأهل الوضع لأنه بقدر ما نتفهم الحالة ونتعامل معها بوعي وإيجابية نتفادى المضاعفات والمشكلات.

- كيف يمكن أن يتعلّم المريض حسن إدارة مرضه لتفادي المضاعفات؟
عندما يتم إخبار المريض، إذا كان في سن تسمح له بفهم الحالة، نعلّمه كيفية إدارة مرضه والحفاظ على مفاصله حتى لا يصاب بإعاقة. إذا أن معظم المرضى يصابون بإعاقة ما أن يبلغوا سن 30 سنة، ويعجز المريض عندها عن الحركة ولا يعيش حياة طبيعية ويحتاج إلى من يساعده للقيام بالأعمال الروتينية.
حتى أن البعض يصاب بإعاقة في سن 15 سنة بسبب جهل الأهل وقلة الوعي، إذ لا يتمتع الأهل كلّهم بالقدرة نفسها على الاستيعاب. كما أن المشكلة في المرض ليست كلّها جسدية بل فيه جانب نفسي وإجتماعي مهم.

- ما سبب إصابة مريض الهيموفيليا بإعاقة؟
يؤدي النزف المتكرر في المفصل إلى تضرره مما يؤدي بعد سنوات إلى إعاقة . ووجود العلاج وحده لا يكفي للوقاية من ذلك، إذ يحتاج المريض إلى معرفة كيفية استعماله وإلى الوقاية من كل ما قد يسبب له الأذى.

- هل ينصح مريض الهيموفيليا بممارسة الرياضة؟
ينصح مرضى الهيموفيليا بممارسة التمارين التي تقوّي المفاصل، خصوصاً المرفقين والركبتين والكاحلين.  وتهدف التمارين إلى زيادة قوة العضلات وصلابتها ومرونتها، مما يسمح بحماية المفاصل من النزف الذي يسبب تضررها.
وينصح بهذه التمارين بشكل خاص يومياً بعد التعرض لنزف داخلي لتقوية العضلات والمفاصل بهدف الوقاية من حالات نزف أخرى. ومن التمارين التي ينصح بها تمارين التحمية والمط . كما ينصح بالسباحة كونها تمرّن كل عضلات الجسم دون أن تسبب ضغطاً على المفاصل.

- ما معدل حياة مريض الهيموفيليا؟
يختلف معدل حياة مريض الهيموفيليا بحسب حدة المرض والعلاج المتبع ومدى فاعليته. إذ أن معدل حياة المرضى المصابين بالهيموفيليا الحادة الذين لا يحصلون على العلاج المناسب، يكون أدنى بكثير وغالباً ما لا يبلغون سن الرشد.
ففي الستينات، عندما لم يكن العلاج المتطور مكتشفاً بعد، كان معدل الحياة لا يتخطى 11 سنة. وفي الثمانينات بلغ معدل الحياة 50 سنة، مع تطور العلاج.
أما اليوم، فمع تطور العلاج أكثر بعد، يكاد يكون معدل حياة مرضى الهيموفيليا طبيعياً كأي شخص لا يعاني مشكلة.

تجربة إيلي خيرو مع مرض الهيموفيليا

إيلي خيرو شاب تعايش مع مرض الهيموفيليا وتقبّله لا بل تغلّب عليه بعناد وإصرار. وفيما واجه صعاباً كثيرة في السنوات الأولى، صارت الأمور أكثر سهولة لاحقاً فتأقلم مع المرض وتخطاه وصار له «صديقاً» بدلاً من أن يكون عدوّه.


عن بداية حياته مع الهيموفيليا يقول: «لم يعرف أهلي في الأشهر الأولى أني مصاب بالهيموفيليا، لكن عندما بدأت أحبو في حوالي سن السنة، بدأوا يلاحظون بقعاً في جسمي وكنت أنزف دون توقف عندما أصطدم بشيء. أجريت لي الفحوص وتبين أني مصاب بالمرض.

لم تكن الأمور سهلة في البداية وأمي عانت معي كثيراً، خصوصاً أن العلاج لم يكن متوافراً بسهولة كما الآن، فمكثنا في المدرسة طوال 6 سنوات كوني كنت على الكرسي المتحرك وأجد صعوبة في التنقل يومياً بين المدرسة والبيت.
كنت كالمقعد أحتاج إلى من يعتني بي وكان هذا مزعجاً لي. أما أمي فلم تكن لديها حياة خاصة بل كنت كل شيء في حياتها.لكن تحسنت الأمور لاحقاً، وإن كانت تخاف علي كثيراً حتى الآن عندما أخرج مع رفاقي».

مواجهة المجتمع 
وإضافةً إلى وطأة المرض، كان لا بد من مواجهة المجتمع الذي لا يرحم، فردود فعل الناس لم تكن سهلة أبداً بالنسبة إلى إيلي.
حتى أنه في المدرسة كان عاجزاً عن اللعب مع بقية الأولاد، فكان من الطبيعي ألا يتمكن من بناء صداقات. يقول: «عندما كان يخرج الأولاد للعب في أوقات الاستراحة، كنت مضطراً إلى البقاء في الصف وفي كل يوم يبقى معي أحد الرفاق، لكن أحياناً كنت أبقى وحدي. ولم يكن ممكناً أن أمارس الرياضة كالآخرين طوال السنوات الست الأولى.
كنت في ذاك الوقت أجد نفسي مختلفاً عن بقية الأولاد لأني غير قادر على اللعب معهم.
كما كان وضعي مختلفاً عن الآخرين في الصف، فأجلس على كنبة بدلاً من الكرسي وأحتاج إلى من يكتب بدلاً مني لأن كثرة تحريك المفصل تؤذيه.  لكن مع الوقت، أظهرت للكل أني لا أحتاج إلى الاهتمام المفرط وأني كأي طفل آخر. كنت منزعجاً من كثرة تدليلي.
بالنسبة إليّ المشكلة في الهيموفيليا نفسية أكثر منها جسدية نظراً إلى نظرة المجتمع وما للمرض من تأثير في العلاقات الاجتماعية. حتى أني في الجامعة واجهت صعاباً كثيرة لأني لم أجد تفهماً لوضعي وأني أتغيب عن الحضور بسبب حالتي الخاصة».

وفي حديثه عن علاقاته العاطفية كأي شاب في مثل سنه، أشار إيلي إلى أن المشكلة ليست مع الفتاة التي يرافقها بل مع أهلها الذين لا يتقبلون فكرة خروج ابنتهم مع شاب مصاب بالهيموفيليا.
«فشلت علاقات عدة بسبب ضغط الأهل وكأنهم يعتبرون أني لا أستحق العيش كأي إنسان آخر، علماً أني قادر على العطاء كأي إنسان صحيح، لا بل أكثر بعد».
ويشير إيلي إلى أن مكوثه في المنزل لفترات طويلة كان له جانبٌ إيجابي وساهم في توجهه إلى فن الرسم وتركيزه عليه ليتسلّى فتمكن من تطوير هذه الموهبة التي يتمتع بها، ثم عاد واتجه إلى فن التصوير الذي برع فيه واتخذه مهنة ومورد عيش.
لكن في كل مرة يرى فيها إيلي بصيصاً من الأمل يقف المجتمع في وجه طموحاته مجدداً، فقد طُرد من المؤسسة التي كان يعمل فيها كمصور دون أخذ ظروفه بعين الاعتبار، وذلك لأن سيارة صدمته أثناء قيامه بعمله مما سبّب له أضراراً بسبب حالته، وبدلاً من مراعاة وضعه، خصوصاً أنه تعرض للحادث أثناء قيامه بوظيفته، طُرد من العمل.
هذه الظروف كلّها تقود إيلي الطموح والمندفع إلى التشاؤم واليأس فيتساءل كيف سيتمكن من تأسيس عائلة وبناء مستقبل إذا كان غير قادر على الحفاظ على وظيفة لأكثر من شهرين.
ومن الطبيعي أن يطرح شاب في سنه هذا السؤال، فرغم تخطيه مرضه وتغلّبه عليه، يجد نفسه في مواجهة المجتمع الذي لا يرحم.


فاطمة شمدين...من أب مريض إلى أولاد ورثوا المرض

تبدو السيدة فاطمة شمدين مثالاً للمرأة المكافحة التي ترفض الخضوع، فوالدها كان مصاباً بالهيموفيليا وحملت المرض معها وتزوجت وأنجبت لأنه، كما تقول، «لا شيء يحضّر الأم لإنجاب طفل مريض». فكأي أم انتظرت طفلاً جميلاً، صحيحاً ومعافى لكنها اصطدمت بالواقع المرير عندما ولد طفلها مصاباً بالهيموفيليا.


عن تجربتها تقول «انتظرت، كأي أم، طفلاً أمثل، وولد ابني مصاباً بالهيموفيليا، لكنه في النهاية طفل كأي طفل آخر، وكان لا بد لي من تقبل الوضع بصعابه.
واجهت عندها مشكلة الحماية المفرطة لطفلي والدلال بسبب خوفي عليه. فعادةً تفرح كل أم لدى قيام طفلها بخطواته الأولى.
أما أنا فانتابني شعور بالخوف عندما رأيته يمشي بسبب خوفي عليه لأن هذا كان يعني لي بداية الهموم  والعذاب».
وعن والدها تتحدث السيدة شمدين مشيرةً إلى أنه كان قوياً رغم صعوبة تأمين العلاج للهيموفيليا في ذاك الوقت، فيما أصبحت الأمور أكثر سهولةً في هذه الأيام، مما شجعها على الإنجاب فأنجبت ولداً (9 سنوات) وابنة (5 سنوات).

عقدة ذنب
وعن إحساسها بالذنب لإنجابها ولداً مصاباً بالهيموفيليا، تقول: «لا أصدق أن أماً لا تشعر بالذنب، ولو للحظات، لإنجابها طفلاً مريضاً. فالأمر صعب ولا شك في ذلك، لكن الأهم كيفية إخراج الطفل المصاب منه ليعيش حياةً طبيعية.
من البداية، كنا واقعيين أنا وزوجي مع ابننا فشرحنا له ما يتعلّق بمرضه بطريقة مبسطة تناسب سنّه. لكن لا شك أن هموماً كثيرة تتملّك الأم التي يكون طفلها مصاباً بالهيموفيليا، وكان هم المدرسة أحدها بالنسبة إلي.
فابني يحتاج كأي ولد آخر إلى رفاق يلعب معهم في المدرسة، ومن الطبيعي استبعاده بسبب حالته.
لذلك، كان يلعب مع الفتيات اكثر من الأولاد لأن لعب الأولاد قد يشكل خطراً أكبر عليه في حالته. كان ملزماً البقاء في الصف بسبب حالته، فلا يستطيع الخروج للعب.
كما أنه كان مستبعداً من صفوف الرياضة، إضافةً إلى تغيّبه المتكرر عن المدرسة، بسبب مضاعفات مرضه.
لكن من جهة أخرى، ظهرت لدى ابني مواهب معينة كان قادراً على تنميتها لأنه متفرّغ لها.
 فقد برع في بعض المجالات أكثر من غيره من الأطفال، وقد عملت على تنمية قدراته هذه ليتخطى الحدود التي وضعت له بسبب مرضه وبسبب نظرة المجتمع. برع في الرسم وفي فن الطهو فوجهته إلى هذين المجالين ليطور مهارته فيهما».

وتشير السيدة شمدين إلى أنها من البداية لم تخف من مرض ابنها الذي هو طبيعي ويعيش حياةً طبيعية كأي طفل آخر، مؤكدة أن لابنها الحق بنوعية حياة جيدة لا تختلف عن أي إنسان آخر وإلى رعاية شاملة من كل النواحي الطبية والنفسية والإجتماعية والعاطفية والعائلية.
وترى أن المجتمع هو الذي يعقّد الأمور، وتقول «العائلة الأقرب تفهمت الوضع، لكن لا تزال طريقة التعامل مع ابني مختلفة إذ نجدهم أحياناً متخوفين وكأنهم يخشون إيذاءه.
أما الآخرون فنراهم خائفين من المرض وكأنه ينتقل بالعدوى. ففي كل الحالات، ثمة أثر سلبي على المريض ناتج عن التفرقة والتمييز بينه وبين الآخرين».