«الاستشراق الزخرفي»: الشرق والغرب يلتقيان داخل المنزل!

نجاة شحادة (باريس) 07 أبريل 2018

على الرغم من الدراسات والبحوث الكثيرة التي تناولت الشرق وأحواله وتراثه، وخصوصاً ما تم التعارف عليه بالاستشراق، ظلت الزخرفة الشرقية أسيرة لعنوان أعمّ وأشمل، ألا وهو الفنون الشرقية.

على أن هذه المسألة بدأت في العقدين الأخيرين تأخذ مساراً جديداً، يفي المجال الزخرفي الشرقي حقّه، بل وأصبح من الممكن التحدّث عما يمكن تسميته بـ«الاستشراق الزخرفي». وهذا الأمر أفسح في المجال لتقديم طروحات جديدة تبدّد ذلك الغموض الذي أحاط بالحياة اليومية الشرقية في داخل المنازل، حيث أصبحت التقاليد والعادات الشرقية أكثر انفتاحاً على معطيات العصر، وبدأ المشهد الزخرفي الشرقي في تأكيد حضوره وبث قيمه الجمالية والعملية وصولاً الى الغرب.
وانطلاقاً من هذه الوقائع، تراكمت ملامح ومعايير وشروط جعلت من هذا المشهد أسلوباً ونمطاً له عشاقه ومريدوه، وله أيضاً إبداعاته ومصمّموه.

يعتقد البعض بأن هذا الأسلوب يعتمد أساساً على منتجات الشرق من أثاث وأكسسوارات تقليدية تشير بلا أدنى تردد إلى تاريخ جماليات الشرق وخطوطه وألوانه، وقد يكون هذا صحيحاً من زاوية ما، ولكنه بالتأكيد ليس صحيحاً بكليّته. فالعملية ليست بهذه البساطة، بل ربما تكون بالغة التعقيد حين نرى متطلبات الحياة المعاصرة واحتياجات الأفراد في المجتمعات الحديثة.

فالديكور الشرقي لا يعني استدعاء التاريخ الى الحاضر، بمعنى أنه لا يكفي حيازة أثاث وأكسسوارات ومنتجات شرقية قديمة، وتوزيعها أو تنسيقها تبعاً للصور التي تقدّمها كتب التاريخ والأركان «المتحفية». فالمنزل يختلف تماماً عن المتحف، وهو ليس مكاناً للعروض الجامدة والحياة الراكدة، بل فضاء يعكس حيوية يومية ومساحة مخصصة للراحة والاسترخاء.
على أن المصمّمين ومهندسي الديكور لم يبخلوا بالجهود اللازمة من أجل ابتكار عناصر تتناسب مع طبيعة المرحلة. وإذا كان صحيحاً أننا نجد الأثاث والأكسسوارات بخطوط وأشكال وألوان مستلهمة من أجواء الشرق التقليدية القديمة، ولكنها في ملامحها العامة وبراعة تنفيذها واستفادتها من التقنيات المعاصرة تتناغم مع كل ما يمت الى الحداثة بصلة.
فالأجواء الشرقية داخل المنزل في القرن الواحد والعشرين تختلف تماماً عنها في القرون السابقة. فهي لا تتآخى فقط مع قيم العصر، ولكنها تلتقي أيضاً مع منجزاته وتتآلف مع تطوراته.
وسنجد أن قيماً جمالية ووظيفية جديدة تم إلحاقها بهذه الأجواء لتوليد داخل يوفّر كل مستويات الرفاهية والفخامة والراحة، وبالطبع الأناقة التي تبدو في التنسيقات المتجددة.

ومما يلفت الانتباه في التنسيقات الشرقية المعاصرة، أن المواد المستخدمة لا تزال تحتفظ بنبالتها، مثل الخشب والأقمشة ذات الألياف الطبيعية (الحرير والكتان والصوف... إلخ).
كذلك فإن من المميزات البارزة للديكور الشرقي، العناية بالتفاصيل الكثيرة والمساحات التي تشكل المشهد الزخرفي، وخصوصاً الجدران والأبواب والأسقف والأرضيات، حيث يلعب الرخام والخشب المرصّع بالأصداف، وكذلك النحاسيات المخرّمة على أنواعها، دوراً مهماً في رفد الأجواء بخصوصيات جمالية يندر وجودها في أساليب زخرفية أخرى.

كما يلفت الانتباه في الداخل الشرقي، غياب الفواصل وانفتاح المساحات على بعضها البعض من خلال فتحات عملاقة مقنطرة أو مشغولة بالرخام المنحوت، وفي حالات أخرى بالجبس المطوّع الى أشكال جذابة من خلال تراكيب وتواريق ونقوش الأرابيسك الأخاذة.
ولا يمكننا في الديكور الشرقي إهمال الإضاءة، فهي أساسية ليس فقط في إضاءة المكان أو إظهار جمالياته، بل في كونها تشارك بفاعلية في تكثيف تفاصيل المشهد الزخرفي من خلال عناصرها التي تعتمد التخريم فيبدو الضوء وكأنه تتمة للنقوش وعلى الجدران والأسقف.
ولعل الميزة اللافتة أكثر من أي شيء آخر في الديكور الشرقي المعاصر، هي إبرازه لـ «السيمترية» ومنحها دور البطولة في المشهد الزخرفي، مما يضفي على المكان مهابة وسحراً خاصاً. إذاً، نحن هنا أمام مشهد تتكامل فيه التفاصيل ليس بقوة «وحداتها»، بل بتسلسلها وتكرارها الذي يضفي بعض الغموض وينشر في الجو شيئاً من السرية والحصافة المميزة.
وإذا كان موضوعنا قد اقتصر على الديكور في الشرق الأوسط، فلأن الشرق مساحة جغرافية هائلة الاتساع والتنوع وصولاً الى الصين واليابان. وهو ما يستحيل تغطيته بموضوع واحد.