حلّقي في ربيع فيينا المخملي

ديانا حدّارة 22 أبريل 2018

هذا الربيع حلّقي نحو فضاء الموسيقى الكلاسيكية إلى فيينا، ولا تتردّدي في دندنة أغنية الراحلة أسمهان «ليالي الأنس في فيينا» وامضي إجازتك في حضرة وريثة مملكة الهابسبورغ وعاصمة النمسا، والتي لا يسعها إلا أن تكون مدينة «نوستالجيا» يغمرها الحنين إلى عصر الأباطرة.
تخيّلي نفسك تجولين بين قصور باروكية يتناثر في أرجائها صدى حفيف فساتين كونتيسات ودوقات يتمايلن بخفر خلال رقصة فالس.
وتصدح في فضاء مزخرف بالحياة المخملية موسيقى هايدن وشتراوس وشوبارد وموزارت فتتسرب ألحان هؤلاء العباقرة إلى مقاهٍ مزدحمة بروّاد ينظرون بشغف إلى تاريخ ينشر أبّهته في مبانٍ تشكّل روائع فنية لمبدعين رفضوا أن يكونوا في طي النسيان.


الربيع في فيينا فصل يكشف جمالًا أخّاذًا تتفرّد به مدينة تعلن صباح كل يوم عن تناقض صارخ بين جمال صامت يراقب صيرورة الزمن وحركته الصاخبة. فعند حلول فصل ولادة الجمال الطبيعي يندفع سكان المدينة إلى الشارع مرة أخرى، وكأنهم قد رموا ستراتهم الشتوية من أسطح المنازل وارتدوا عطر الربيع. تنبثق من نوافذ البيوت كلها دون استثناء، الزهور المتدلية من أصص مزخرفة تكسر رمادية الشوارع المرصوفة بالحجارة، لتستقبل الربيع بألوان التفاؤل، تشاركها في ذلك حركة المشاة على أرصفة ضيّقة حيث ينهمك أصحاب المتاجر الصغيرة في محاولة اصطياد مفاتيح أغرقوها في جيوبهم، فيما يسارع زوّار المدينة إلى الاستمتاع بكل تفاصيلها، فيبدو المشهد سمفونية من الألحان والألوان تعلن عن بدء زمن فيينا الربيعي.

               
ماذا ينتظرك في فيينا خلال الربيع!

تأمّلي فيينا من علياء كاتدرائية سان ستيفان
إبدئي جولتك عند كاتدرائية «سان ستيفان» التي تُعرف بقلب فيينا. أُعيد بناؤها بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر. تتميّز بنمط الفن القوطي وتحتوي على برج يبلغ ارتفاعه حوالى 110 أمتار.
لن تقاومي شموخ هذا البرج فتقررين صعود السلالم اللولبية، إلى أن تصلي إلى القمّة حيث تستمتعين بمشهد بانورامي للمدينة. فعند البرج سوف تتراءى الأبنية والشوارع، ونهر الدانوب الذي يخترق المدينة.
عازفون يراقبون بانتباه حركة يديّ المايسترو الذي ارتدى حلّة الربيع ليُخرجوا من أناملهم ألحانًا تضفي على المدينة سحرًا يخصّها وحدها.

المطبخ النمسوي تجربة مترفة
تنزلين من فضاء الألحان إلى فضاء من نوع آخر خارج أسوار الكاتدرائية التي تعكس نوافذها البلورية صور شارع «هاس- هاوس» المحاذي لوسط المدينة، حيث يُظهر مزيج الفن المعماري المعاصر المجاور لقرينه التاريخي التنافس القوي بين ماضي المدينة وحاضرها.
يضج الشارع بالمقاهي والمطاعم التي تقدّم ما لذّ وطاب من المطبخ النمسوي. رغم جمال هذا الشارع وروائح الطعام الفوّاحة التي تجتاحه، لا تجعلي تجربتك للمطبخ النمسوي مقتصرة عليه، بل عليك خوض المغامرة في المطاعم التي تقدّم المطبخ التقليدي لفيينا، مثل مطعم أيسترهازيكلير في شارع «ناغارغاس».

حلوى «زاخر» والقهوة تقدّم بطقس مخملي
بعد الغداء، توجهّي إلى كونديتوري حيث يقدّم أطيب أنواع الحلوى، فخبّازو فيينا مشهورون بصنع قوالب الكيك، وأشهرها تورتة «زاخر» Sacher التي أخذت اسمها من فندق «زاخر» Sacher حيث اختُرعت حلوى الكيك، وهي عبارة عن كيك من الشوكولاته اللذيذة، عند تذوّقها عليك تجاهل مسألة الحمية نظرًا إلى غناها بالسعرات الحرارية، فهل ستزورين فيينا كل يوم!

لا تنتهي مغامرة المعدة عند حدود الطبق التقليدي والكيك، بل تمتد إلى بيوت القهوة وهي وجه ثقافي آخر لفيينا، فهذه البيوت ليست مجرّد مقاهٍ لتناول القهوة والحلوى، بل أسلوب ثقافي بحد ذاته، ويقال عنها إنها «غرفة جلوس فيينا»، حيث يحب الكثير من الناس ارتيادها بعد نهار طويل من العمل. ورغم اختلاف هذه المقاهي في الشكل، تحافظ جميعها على طريقة تقديم خدمات فاخرة تعكس تمسك هذه المدينة بجذورها الملكية حتى في أدق التفاصيل الحياتية. فهل تخيّلت مرة أن نادلاً سيقدم لك فنجان القهوة وهو يرتدي بدلة التوكسيدو الرسمية؟ إنها الحياة المخملية على طريقة فيينا!
وتعتبر الوجبة الخفيفة Jause، أو ما يُعرف بالعصرونية، طقسًا تقليديًّا في حياة سكان فيينا يمارسونه بحماسة. والوجبة عبارة عن فنجان قهوة وقطعة كيك. وإذا أردتِ أن تجرّبي هذا التقليد وتنعمي بالاسترخاء، ما عليك إلا التوجّه إلى مقهى «ديميل» الواقع في المنطقة الرقم واحد في شارع «كول ماركت» حيث اعتاد أفراد الأسرة المالكة تناول وجبتهم الخفيفة المحضّرة في مقهى ديميل.

التجوال في قصر شونبرون
كان قصر شونبرون Schonbrun المقرّ الصيفي لعائلة الهابسبورغ. يحتوي القصر على 1400 غرفة، ومن المؤكد أنه كان كبيرًا بما يكفي ليتسع للأبناء الستة عشر للإمبراطورة ماريا تيريزا آخر إمبراطورات النمسا.
تأخذك جولة في أروقة القصر وأجنحته إلى عالم جميل تسكنه أبّهة الأمراء والدوقات، لتقودك قدماك إلى حدائق القصر الغنّاء التي يمكن القول إنها تفوق جماله الداخلي وفخامته، فالنسيم الربيعي هنا يداعب متاهة الممرات المزروعة بالشجر والمجسّمات ونوافير المياه والأزهار التي تجتاح الحدائق اجتياحًا يشبه رقصة الفالس، ناسفًا المفهوم المتعارف عليه. إنه اجتياح للسكينة والاسترخاء ينسيك ما في العالم من حروب ومآسٍ.

المشي في متنزّه Stadtpark حيث شجر الكرز المزهر
ينفجر اللون الوردي بشكل تعجز الكلمات عن وصف جماله، في جميع أنحاء متنزّه «شتادبارك» في الربيع مع بدء تفتح براعم زهر الكرز.
المشي في هذا المتنزّه، والجلوس تحت شجرة وارفة، وتنشق عطر الربيع الذي يفوح في فضائه... سوف تكون تجربة ربيعية على طريقة فيينا.

معرض الغرافيتي في Donaukanal

بمجرد ظهور أولى خيوط الشمس الربيعية، يخرج فنانو الغرافيتي في المدينة ويعودون إلى تشكيل اللوحات الخاصة بهم في Donaukanal، مما يؤدي إلى تعايش المتنزّهات مع مجموعة كاملة من فن الشارع الجديد ورسوم الغرافيتي.
يمكنك التنزّه في معرض الهواء الطلق والاستمتاع بالرسوم والأشكال العبثية غير المتحركة النابضة بالحياة، ثم الاستراحة في الجانب الثاني من حي دونوكانال، فهو مكان رائع للاستمتاع بأشعة الشمس بعد الظهر.
بعد جولة الرسم على الجدران، أقترح عليكِ الجلوس على المروج الخضراء في أحد متنزهات الحي حيث يتشكّل معرض الربيع الجديد بطريقة عفوية من تلقاء نفسه، أو استئجار درّاجة هوائية، لتسابقي نسائم الربيع وسط عالم من الألوان التي تنثرها ريشة الطبيعة والفنانين على حد سواء، وتعيشي مغامرة يتنافس فيها الطرفان على إدهاش من يزور فيينا.

روح الربيع في Electric Spring
من غريب المفارقات في فيينا، أنها موطن الموسيقى الكلاسيكية إذ ينظّم فيها مهرجان الموسيقى الإلكترونية الذي يعدّ واحدًا من الأحداث الضخمة الأولى في الهواء الطلق في فيينا. لن تضطري لدفع شيء لتشهدي على نطاق واسع الأعمال الموسيقية التي تصل إلى مرحلة الذروة في ساحة المتحف، مما يجعلك تشعرين بروح الربيع التي تدعوك إلى الرقص على طريقتك... ولمَ لا! سوف تخسرين الكثير من الوحدات الحرارية بعد التهامك حلوى «زاخر»...


معلومة: ينظَّم مهرجان الموسيقى الإلكترونية من 16 إلى 17 نيسان/ أبريل في ساحة المتحف Museumsplatz 1 1070

ماراثون مدينة فيينا
في 23 نيسان/أبريل، تتحول المدينة بأكملها إلى كتلة جنونية من الأشخاص الذين يمارسون رياضة الجري، وهم يتصبّبون عرقًا، ويواجهون وجوهًا حمراء في ماراثون مدينة فيينا.
يمكنك المشاركة في هذا الماراثون إذا كنت ترغبين في خوض هذه المغامرة الرياضية. ولكن في حال كنت تميلين إلى مشاهدة الآخرين، يمكنك الانضمام دائمًا إلى الحشود لمشاهدة أولئك المدربين بشكل جميل من جميع أنحاء العالم.

تسوّقي النباتات النادرة في The Botanical Gardens of Universität Wien
نتّفق جميعًا على أن الربيع مرادف لمعنى بداية حياة جديدة، وكل كائن حي يحتفل بالطبيعة، بكل عناصرها وتفاصيلها، ويشاركه في ذلك الإنسان، فيعيش لحظات هذه الولادة من خلال إعادة صقل نبات حديقته أو شرفته، وغالبًا يمتلئ المنزل بالزهر والورود ليعبق شذاها الذي يمنح شعورًا بالتفاؤل والسعادة.
وفيينا تعدك بأن تمتلئي بالسعادة وتتعطّري بروائح الزهر الفواحة، أو تزيّني منزلك بألوان الطبيعة، فتعرض لك مروحة لا تحصى من الزهر والنبات في منتصف نيسان/ أبريل، حين ينظّم سوق سنوي نادر للنباتات في «الحدائق النباتية لجامعة فيينا».
هنا، يمكنك أن تجدي كل أنواع الأزهار الفريدة والنادرة، فلمَ لا تحملين معك بذورها وتزرعينها في بيتك، ومع كل برعم يتفتح تتذكرين ربيع فيينا، وتعيدين دندنة أغنية أسمهان «ليالي الأنس في فيينا... دي فيينا روضة من الجنة».